منذ منتصف هذا القرن إحتل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي مركز الصدارة في الخطابة الحسينية ، فلم يستطع أن ينافسه فيها منافس ، ولم يتمكن خطباء المنبر الحسيني أن يجاروه في قدراته الخطابية والفكرية والأدبية . فهو صاحب مدرسة مستقلة خاصة في الخطابة وذاك أمر لم يتيسر للكثيرين . ومدرسته رائدة في منهجها وإسلوبها ، لذلك جاءت متفردة في عطاءاتها وأبعادها .
ولأن مدرسته كانت كذلك فقد جاء الخطباء من بعده يسيرون على نهجه ويقتبسون من شعاع مدرسته ، وليس في ذلك منقصة لهم ، بل اني أرى ذلك فخراً لهم . لأن مدرسة الوائلي هي المدرسة الحسينية التي إنطلقت من إصلاحات المصلح الفذ الشيخ محمد رضا المظفر ، فلقد إستقى من معينها الصافي ، وكان نتاجها الطيب ، كما كان الخطباء الذين جاءوا بعد الشيخ الوائلي من نفس النتاج .
حاول البعض أن يقلّد حركاته وهو على المنبر . . أو يقارب صوته من صوته ، وما ذلك إلاّ دليل على عبقرية هذا الخطيب غرس أبي تراب .
والذي مكن الشيخ الوائلي من تبوأ هذه المكانة الرفيعة في عالم الخطابة ، ثلاثة عوامل أساسية :
1 ـ تتلمذه على ثلة من العلماء الكبار أبرزهم الشيخ محمد رضا المظفر .
2 ـ نشوءه في بيئة النجف الأشرف المعروفة بثرائها العلمي والأدبي ، فكان أديباً لامعاً وشاعراً مرهفاً وكاتباً إسلامياً عقائدياً .
3 ـ تحصيله الأكاديمي العالي الذي جعله يجمع بين الدراسة الحوزوية والدراسة الجامعية الحديثة .
وهذه عوامل يصعب أن تتوفر في خطيب واحد . هذا إضافة إلى ملكاته الخطابية وشخصيته المبدعة التي أسست مدرسة خطابية مستقلة ، فلم يأت مقلداً يتتبع خطوات الذين سبقوه ، بل جاء مؤسساً يتتبعه الآخرون .
وفي كل واحدة من هذه الصفات كان الوائلي متميزاً ، فهو العالم الديني البارز في المجالس العلمية ومراكز البحث ، وهو الشاعر المجيد الذي غطت قصائده الكثير من المناسبات والأحداث ، وهو الاستاذ الأكاديمي البارع في تخصصه . ثم تأتي الخطابة لتجمع ذلك كله وتنظم تلك الملكات في وقت واحد عندما يرتقي المنبر الحسيني ليوظف كل ملكاته في خدمة القضية الحسينية .
لقد تأثر الشيخ الوائلي باستاذه الشيخ محمد رضا المظفر ، كما تأثر به كل من عرفه ، فالشيخ المظفر كان علماً من أعلام الأصلاح قلّ نظيره في المجتمعات الإسلامية ، وهو الذي يعود اليه الفضل في تنشئة العديد من الشخصيات التي كان لها الدور الكبير في المواقع العلمية والاجتماعية .
الابداع عند الوائلي
إن الإبداع الذي حققه الشيخ الوائلي في خطابته أنه غيّر طريقة الخطابة الحسينية ، وفق نمط جديد تمثل في إفتتاح مجلسه بآية من القرآن الكريم ، ثم يبدأ بالحديث عنها وتفسيرها والتوسع في مضامينها العقائدية والاجتماعية والاخلاقية وما إلى ذلك من مواضيع تتصل بالآية . وهو منهج لم يكن معروفاً قبل الشيخ الوائلي . حيث كان المجلس يبدأ بأبيات شعرية حول المصيبة الحسينية ينطلق منها الخطيب في خطبته . وبذلك يكون الشيخ الوائلي قد احدث تطوراً مشهوداً في الخطابة سار عليه الخطباء الذين جاؤا بعده . وقد ألف الناس هذا النمط من الخطابة وإعتبروه نمطاً نموذجياً يفوق الطريقة التقليدية التي تبدأ بأبيات من الشعر .
لقد فرض الدكتور الوائلي على كل من سمعه أن يتابع خطبته حتّى النهاية ، ويحرص على متابعة بقية خطبه الحسينية . وكانت مجالس ما قبل الشيخ الوائلي تضم عادة كبار السن ، وبسطاء الناس . أما مجالسه هو فقد تميزت بحضور الطبقة المثقفة من الطلبة الجامعيين والاساتذة ورجال الادب والفكر . وكل من يحضر يخرج بحصيلة مفيدة ينتفع بها . فالشيخ لا أخذ على نفسه إلاّ أن يفيد سامعيه بالرأي الجديد والفكرة الغنية والموعظة المؤثرة .
ومن العوامل المؤثّرة في صياغة شخصية الوائلي ، هو عامل المجتمع الذي عاصره فالوائلي ابن النجف الأشرف ، نشأ في محيطه تربية وتعليماً ، والنجف من أعرق البيئات الثقافية الإسلامية قدماً ، يقول الدكتور علي جواد الطاهر :
(النجف مدينة العلم الديني المنقطع النظير ، ثم الأدب والشعر ، وهي فيهما نادرة من النوادر واعجوبة من الأعاجيب ، يُعنى أهلها بقول الشعر وسماعه والحديث عنه عنايتهم بالمسائل اليومية من أكل وشرب ، انهم أدباء كما يتنفّس المرء الهواء . . ولاتسل بعد ذلك - عن الكتب والمكتبات ، والأسر العريقة في العلم والأدب والشعر ومجالسها الخاصة والعامة ، وما يُتلى من شعر في الافراح والأحزان ، وفي مآتم الحسين بن علي وما يتفاخر به الشعراء ويسمر به الناس . .
إن الشعر في النجف حياة ، وهو لدى ابنائها ولا أسهل منه أو أيسر ، أو أنه فيها كالماء والهواء استسهالاً واستعظاماً ، جداً وهزلاً ، وهو مجد كما هو مرتزق ، وعلامة فارقة لا تكاد تضاهيها فيه بلدة اخرى في العالم العربي . .
ومن خواص النجف التي تذكر بالاكبار انها سايرت التطورات الدينية الأدبية في العالم العربي ، بصدر رحب وأفق واسع فهي مع محافظتها على أصالة الفكر الإسلامي لم تتزمت فترفض المعاصرة ، وإنما أخذت من وسائلها وأسبابها ما رأته الضروري النافع حتّى (أنّ الكتب الحديثة ما تكاد تدخل العراق حتّى تتجه رأساً إلى النجف فتتلقفها الأيدي هي وكتابات أكثر حداثة كشعر شوقي وحافظ وإيليا أبي ماضي ، وفيهما ما يناقض الفكر النجفي المناقضة كلها ، وهو رد فعل يتبناه الذين ضاقوا بالقديم وبلغ بهم الضيق الطرف الأقصى من رد فعل مطبوعات الآستانة ، والهلال ، والمقتطف ، وشبلي شميّل والريحاني . . ومجلات وجرائد مما يعد حراماً وكفراً والحاداً . . .
على كل حال نشأ الوائلي في هذا العصر الذي يعتبر قمة في نضج وسعة المدرسة العلمية النجفية في مختلف أبعاد المعرفة ، وكان من عناية الله تعالى بالحوزة أن تتابع جيل من المراجع المحققين والعلماء الكفوئين لقيادة الحوزة ، وقد ضمت هذه الفترة على تعاقب واجتماع :
الميرزا حسين النائيني ، والسيد أبو الحسن الاصفهاني ، والسيد محسن الحكيم ، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ، والسيد أبو القاسم الخوئي ، والشيخ محمد حسن المظفر ، والسيد عبد الهادي الشيرازي ، والسيد حسين الحمامي ، والسيد محمد تقي آل بحر العلوم ، والشيخ محمد رضا آل ياسين ، واضرابهم من فحول العلماء الاعلام ، وهؤلاء مجرد نموذج لا على نحو الاستيعاب ، وتليهم طبقة أخرى ضمّت مجموعة ، منهم :
الشيخ مرتضى آل ياسين ، والشيخ محمد رضا المظفر ، والسيد موسى آل بحر العلوم ، والسيد محمد باقر الصدر ، والسيد محمد تقي الحكيم ، والشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي ، والسيد ميرزا حسن البجنوردي ، وأمثالهم ، وهذه المجموعة هي الأخرى مجرد نموذج من عدد كبير .
وحفل عصره أيضاً بعدد من الخطباء المبرزين ، منهم الشيخ محمد علي اليعقوبي ، والشيخ محمد علي قسام ، والسيد صالح الحلي ، تليهم طبقة اخرى نسجت على منوال السابقين ممن ذكرناهم من الأدباء والشعراء فيشكلون كمّاً كبيراً لهم طابعهم النجفي الخاص ، وأدبهم الناضج والرائد ، ابتداءاً من شيخ الأدب الشيخ محمد جواد الشبيبي ، والشيخ محمد رضا الشبيبي ، والشيخ علي الشرقي ، والشيخ محمد مهدي الجواهري ، والسيد محمد سعيد الحبوبي ، والشيخ صالح الجعفري ، والدكتور عبد الرزاق محي الدين ، وكثير غيرهم ممن صقلت بهم أبعاد النجف الحضارية ، ومن الجدير بالذكر أن معظم أهل العلم شعراء ولكنهم لا يرغبون بذكر ذلك عنهم لرغبتهم في الاحتفاظ بالنهج العلمي والاشتهار بذلك ، أما المحققون في الابعاد الفكرية الأخرى فيوجد أعداد كبيرة ، ورد ذكرهم في كثير من الموسوعات والمراجع المتخصصة ، ومن أراد الاستزادة الرجوع اليها لأن النجف وبالاختصار كل زقاق من ازقتها معهد علمي ، وكل ناد من انديتها ومجلس من مجالسها هو عبارة عن مؤسسة ثقافية تحفل بعطاء علمي ناضج .
ومثل هذا الجو لابد أن يفعل فعله في شخصية الوائلي ، فقيهاً كان أو شاعراً أو خطيباً ، ويعمل على صقله وتهذيبه ، وبالتالي تكوينه بالشكل اللائق ، ولاشك أن للاستعداد الفطري لديه أثر في توجهه وحرصه على الانتهال من هذا الغدير الذي يحمل سمات المعلم الثاني بالوجود الامام أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن قدس روحانية مرقده السامي الرابض كالأسد على الذكوات البيضاء من الغري الأغر ، ومن فيض نفحاته وبركاته أن عايش الوائلي وأقرانه هذه الأجواء الرائعة التي قد لا يجود الدهر بمثلها ، وعاصروها وتفاعلوا معها فكراً وعقلاً وروحاً ، واستطاعوا أن يعطوا ، ويؤثروا في الأوساط العلمية والاجتماعية ، وللنجف في شخصية الوائلي أثر بليغ محفور في ذاكرته ، ورنين يومي أبدي الحضور في شعوره وتصوراته ، يُملي على ذاته تمثلها في حركاته وسكناته ، ولم تزده الغربة إلاّ تعلقاً وتولّهاً وهياماً وشوقاً مضرم اللهب ، جياش العواطف ، لن يهدأ ولا يستكين :
صورأقمن بمقلتىَّ اقامة المعمود ***في ربع الحبيب النائي
يزددن حسناً كلما بعـد المدى***ويلفهنَّ البعد في لألاء
وتراب أوطاني ربيعٌ أخضر***ولو أنها في بلقعِ جرداء
صافحته بالخَدِّ عنـد ولادتي***ورسمت منه بجبهتي طغرائي
* * *
وقد حقق الوائلي تفوقاً في كل صنف من صنفي دراسته الحوزوية والأكاديمية . فقد التحق بالكتاتيب مثل بقية أقرانه ، وكانت علامات النبوغ والتفوق واضحة عليه ، ففي السابعة من عمره أكمل القرآن الكريم ، ولا شك أن ذلك ترك أثره الكبير على شخصيته وثقافته وتوجهاته الإسلامية الأصيلة .
وعندما برز الشيخ الوائلي في عالم الخطابة كانتالفترة التي عاشها تتميز بوجود ثلة من الخطباء الواعين الذي ساهموا في نشر الوعي الإسلامي في مختلف مناطق العراق ، وقد تصدوا بشكل مكثف للموجات الالحادية والمادية والقومية التي كانت مدعومة من قبل السلطات الحاكمة .
لقد كان لهم الدور المشهود في التبليغ الإسلامي ، وكان لهم حضورهم الميداني في مدن وقرى العراق المختلفة ، فكان الوعي ينتشر حيث حلوا وألقوا خطبهم ومارسوا عملهم التبليغي الحركي .
وفي تقديرنا أن وجود خطباء بارزين لهم مكانتهم وقدراتهم العالية في المجال الخطابي ، كان يمثل عامل تحفيز لولادة أجيال من الخطباء الذين يتمتعون بمقدرة وكفاءة في المجال الخطابي . لأن الحاجة إلى التطوير والابداع تصبح ملحة من أجل أن ياخذ الخطيب مكانته في الساحة .
وهذا ما نلاحظه في تجربة الشيخ محمد علي اليعقوبي الخطابية . فقد كان الخطيب الذي يشغل الموقع الأول قبله هو السيد صالح الحلي ، الذي كان يمتلك قدرات عالية في مجال الخطابة والتأثير على المستمعين بشكل كبير . وكان الخطباء الآخرون لا يرقون اليه بأي حال من الأحوال . لكن مشكلة السيد صالح الحلي أنه كان قاسياً على من يخالفه الرأي ، وقد دخل بقوة في المعركة التي شنت ضد السيد الأمين والسيد أبو الحسن الأصفهاني في موضوع الشعائر الحسينية . وأخذ يؤجج المعركة من على المنبر مستغلاً قدراته الخطابية ، مما دفع السيد الأصفهاني إلى تحريم مجالسه إذا إستمر على هذا النحو .
وكانت مشكلة السيد الأصفهاني هي في إيجاد الخطيب البديل الذي يستطيع أن يشغل مكان الحلي ، ويستقطب الأضواء منه . وكان البديل هو الشيخ محمد علي اليعقوبي الذي مثّل في زمانه ظاهرة خطابية جديدة ، نتيجة ما يتمتع به من علم وثقافة وأدب . . إلى جانب قدرة خطابية عالية مؤثرة في نفوس المستمعين . وقد تمكن اليعقوبي خلال فترة وجيزة أن يكون هو الخطيب المبرز في عالم الخطابة ، والبديل الكفؤ للسيد الحلي .
أسدى الشيخ اليعقوبي خدمة كبيرة للمنبر الحسيني وثبت المرتكزات الصحيحة في عالم الخطابة ، وكان في زمانه أمير المنبر بلا منازع طوال الاربعينات والخمسينات .
إن اليعقوبي ما كان بإمكانه أن يكون هو الخطيب المطلوب للمرحلة ، لو لم يتمتع باللياقات المطلوبة من علم وأدب وبيان . مما يعني أن البديل لا بد أن يكون أفضل من سابقه حتّى يفرض نفسه ومنهجه . وهذه مسألة مسلمة بشكل عام ولا تنحصر في عالم الخطابة .
ربما لم يكن من السهل في الذهنية العامة تصور بروز خطيب يخلف الشيخ اليعقوبي ، نظراً للمستوى الرفيع الذي وصل اليه ، والذي كان يشير إلى أن البديل أو الخلف لا يمكن أن يأتي بسهولة ، ولا بد أن يتمتع بمواصفات عالية تمكنه من الجلوس في درجة اليعقوبي .
لكن المفاجأة كانت كبيرة بظهور الشيخ أحمد الوائلي الذي نال الأعجاب منذ بداية إرتقائه المنبر الحسيني ، وكانت طريقته الابداعية ومنهجيته في الطرح وثقافته الموسوعية ، تشير بشكل لا يقبل الشك أنه الخليفة المنتظر للشيخ اليعقوبي . بيد أن الشيخ الوائلي ومع مرور الزمن كان يعطي صورة أخرى أكثر قوة وبريقاً ، فلقد كان ينتزع الاعجاب بشكل أكبر مما كان عليه سلفه الشيخ اليعقوبي .
لقد برز الوائلي في فترة زمنية حساسة شهدت سيطرة الاتجاهات المادية على الساحة ، وكان المد الشيوعي والقومي لهما تأثير كبير على الثقافة العامة . مما يعني أن مهمة الخطيب ستكون صعبة في عملية التوعية الجماهيرية . لكن الدكتور الوائلي إستطاع بفضل كفاءته ومقدرته العلمية من فرض منهجه وسط المجتمع ، وتمكن من إستقطاب الاضواء بدرجة ملفتة للنظر ، وكان منبره مدرسة متحدية تتناول الأفكار المادية بالنقد والتفنيد وفق منهج علمي موضوعي .
لم يمر الشيخ الوائلي بفترة طويلة من أجل أن يصل إلى القمة الخطابية ، فإن الفاصلة بين إنطلاقته وبين تربعه على قمة هرم الخطابة كانت وجيزة جداً ، بحيث يمكن لنا ان نقول أن الوائلي ظهر منذ بدايته كبيراً ، ثم سرعان ما صار لامعاً