مهما يختلف المؤرخون في تحديد أوائل العمر الزمني الناضج للحركة العلمية الدينية في النجف الاشرف،فانهم يتفقون أيا كانت آراؤهم على أن مدينة النجف الجامعة كانت حاضرة للعلم و حاضنة له، يؤمها الطلاب ويقصدها المتعلمون للتزود بالعلم و المعرفة و البحث و التحقيق بعد عام (448) هجرية زمن هجرة شيخ الطائفة وصاحب كرسي الكلام و انتقاله شبه القسري من بغداد الى النجف الاشرف إثر اقتحام داره و إحراق كتبه ابان فتنة طائفية بين المسلمين شيعة و سنة اشعلها و اورى زنادها ببغداد حاكمها طغرل بك السلجوقي أول دخوله لبغداد.
وقد ادى التعصب الطائفي المقيت الى إحراق اعظم مكتبة إسلامية شيعية يومها هي مكتبة (دار العلم) حيث ضمت أكثر من عشرة الاف مجلد في مختلف العلوم و الاداب و الفنون حتى وصفها المؤرخ الجغرافي المعروف ياقوت الحموي بقوله : (( لم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها )) كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة و أصولهم المحررة.وهذه عادةٌ متبعة عند الحكام الجهلة ,ولاننسى اعظم مكتبة في التاريخ القديم وهي مكتبة الاسكندريه ومن دمرها
إن هجرة الشيخ الطوسي القسرية من بيته العامر بكرخ بغداد الى مثوى الامام علي (ع) في النجف الاشرف و ما تبعها من انتظام الدراسة على شكل حلقات للبحث و التدريس ومن إملاء شيخ الطائفة لدروسه جوار قبر امير المؤمنين(ع) و ما نتج عن تلك الحلقات الدراسية من معارف جمة ،بحيث أصبحت الحوزة العلمية الفتية في النجف يربو طلبتها على المئات من رواد الفضيلة و العلم و الطلبة الناشئين.
الادوار التاريخية للحوزة :
مرت حوزة النجف الاشرف بادوار متعددة .
الدور الاول : دور تقدم البحث المعرفي.
تعاقبت على جامعة النجف الاشرف العلمية – أسوة بالجامعات و المعاهد العلمية العريقة الاخرى – فترات تقدم علمي وازدهار أعقبتها – لظروف خاصة – فترات تباطؤ معرفي و فتور علمي سرعان ما تلتها أدوار رقي وانبعاث بفعل فتح باب الاجتهاد على مصراعيه في مدرسة النجف الاشرف العلمية.
ولعل ما قدمته آنذاك زعامة الشيخ علي بن عبد العالي الكركي المعروف بالمحقق الثاني للحوزة العلمية النجفية بخاصته و للحوزة العلمية بعامة من نهوض فكري واعد يعدّ بحق ملمحاً من ملامح تطور معرفي قادم و تباشير نهوض فكري منتظر.
ويعد كتابه ( جامع المقاصد في شرح القواعد ) و هو شرح استدلالي كبير لكتاب ( القواعد ) للعلامة الحلي من اهم ما ألف في تلك الفترة .
ثم ما قدمته من بعده زعامة الشيخ أحمد بن محمد المعروف بالمقدس الاردبيلي المتوفي عام (993) هجرية صاحب كتاب (مجمع البرهان ) للحوزة العلمية النجفية من أثر فاعل أهّل جامعة النجف العلمية لأن تحضى بأهمية علمية ملحوظة في عصره .
و غيرهما من الزعماء و المجتهدين الذين ألفوا الكتب العلمية و أغنوا حوزة النجف الاشرف ببحوثهم وارائهم الفقهية و الاصولية .
كما أن ما خلفته تلك الحقبة الزمنية الغنية جداً بفنون القول من شعر ونثر، و ما ضمته بين دفتيها من دواوين و كتب كلاً لها دور كبير في صون اللغة العربية من حملات التتريك و الحفاظ على عمود الشعر العربي بخصائصه الفنية و جماله الأخاذ و لغته المترفه و صوره المبدعة .
إضافة الى ماصنف في تلك الحقبة الزمنية من كتب ورسائل في مجالات اخرى عديدة كالحديث و التاريخ و التراجم و السير و الفلسفة و الحكمة و الفلك و الرياضيات ساهمت جميعها في تقدم البحث المعرفي في تلك الاونة.
الدور الثاني : دور نهج البحث المعرفي في حوزة النجف الاشرف
لقد توسع مسار البحث المعرفي في علمي الفقه و أصوله في النجف الجامعة نتيجة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه فيها حتى وصلت جامعة النجف لما يمكن ان نسميه بدور نضج البحث المعرفي فيها وخصوصا على يد تلامذة الفقيه الشيخ محمد باقر البهبهاني المعروف بالوحيد البهبهاني المتوفي عام (1208) هجرية الذين منحوا علمي الفقه و الأصول دفعة قوية من خلال تصديهم القوي للمد الأخباري في وقتهم، وتهذيبهم لهذين العِلمين الجلِيلين الفقه والاصول مما علق بهما من آراء و مبان غريبة قد يكون بعضها من الشواذ ، وتتوجت تلك الجهود العلمية بتخريج علم الفقاهه الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر , والعلم المعظم الشيخ الانصاري (قدس سرهما) .
الدور الثالث : دور نضج البحث المعرفي التفصيلي في بحوث حوزة النجف الاشرف
دخلت النجف الجامعة مرحلة أكثر عمقاً و تفصيلاً و تخصيصاً ودقة في بحوثها الرصينة وبخاصة في علم أصول الفقه و ذلك على أيدي المحققين الثلاثة الكبار و هم :
اولاً: المحقق الشيخ ميرزا حسين النائيني المتوفي عام (1355)هجرية و كان يشار اليه بالبنان لما كان يتسم به من القدرة الفائقة على النقد و التحقيق و سلاسة البيان و عمق النظر و المنهجية في البحث.
وقد أجاد كتابة تقريرات بحثه عديدون في مقدمتهم تلميذه الشيخ محمد علي الكاظمي في كتاب أسماه (فوائد الاصول) في اربعة أجزاء ، وتلميذه السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي المرجع الأعلى لاحقاً في كتاب أسماه ( أجود التقريرات ) في جزأين .
ثانياً: المحقق الشيخ أغا ضياء العراقي المتوفى عام (1361) هجرية درس السطوح و خارج الفقه و الاصول ستين سنة منها أكثر من ثلاثين سنة في تدريس البحث الخارج .
وقد أحسن عرض آرائه بعض تلامذته يأتي في مقدمتهم الشيخ محمد تقي البروجردي في كتابه الذي اسماه (نهاية الافكار) وقد تطرق فيه الى آراء أستاذه مستوعبا البحث في القطع و الحجج و الأصول العلمية ، و كذا الشيخ هاشم الآملي في كتابه(بدائع الأفكار) مستوعباً البحث في مباحث الأصول اللفظية و الملازمات العقلية.
ثالثاً: المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني المتوفى عام (1361) هجرية واضع المنهجية الشاملة لمباحث علوم الأصول ، و هي المنهجية التي أعتمدتها وتبناها تلميذه الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (أصول الفقه).
ويضاف الى هؤلاء العلماء الكبار العديد من العلماء و مراجع الدين العظام منهم :
1- السيد محمد كاظم اليزيدي المتوفى عام (1337) هجرية الفقيه و المرجع الاعلى في عصره و المفتي بالجهاد ضد الايطاليين و البريطانيين و الروس بعد احتلالهم لبلاد المسلمين وصاحب كتاب ( العروة الوثقى) المعروف في اوساط الحوزات العلمية بجمال عبارته و حسن سبكه و استيعابه للمسائل بما فيها المستحدثة منها في عصره و قد تناولته أيدي الفقهاء و العلماء بالشرح و التبيين و الاستدلال و التحشيه.
2- السيد أبو الحسن الأصفهاني المتوفى عام (1365) هجرية المرجع الاعلى في عصره و المعروف بدقة التحليل و المجاهدة و التحمل و الزهد و الصبر و صاحب المواقف الصلبة التي ضاق بها حكام العراق ذرعاً فامروا بنفيه الى خارج العراق فأصدر بيانه المهم الذي ورد فيه ما نصه ( من الواجبات الدينية على جميع المسلمين هي الدفاع عن الاسلام و البلاد الاسلامية وبالخصوص العراق بلد المقدسات وبلد الأئمة الاطهار(ع) ضد تسلّط قوّات الأجانب)).
3- السيد محسن الحكيم المتوفى عام (1390) هجرية المرجع الاعلى في عصره و مؤلف كتاب (المستمسك في شرح العروة الوثقى) في (14) جزء و الزاخر بمجلداته بآخر ما توصلت اليه حوزة النجف الاشرف العلمية حتى عهده من آراء و نظريات في علوم الفقه و أصوله و كل ما يمت الى علوم الشريعة بصلة مما حدا ببعض الكتاب لأن يصف المستمسك بأنه: (( الموسوعة الفقهية القيمة التي لم يسمع بمثلها في هذا الدور من حيث الترتيب و التنظيم و التحقيق و الدقة و قوة الاستدلال و التلخيص . هو اول كتاب فقهي ظهر للملأ العلمي بهذا الشكل الكامل في جميع الأبعاد ولم يسبقه أحد من فقهائنا الافذاذ في هذا الدور وأحرز مؤلفه (قده) بهذا التأليف مقام القيادة الكبرى لركب المحققين حيث أنه يرجع كل تحقيق في شرح العروة الوثقى من بعد صدور هذا الكتاب(المستمسك) الى ما حققه المؤلف فيه . وكل ما جاء بعده من شروح العروة الوثقى فقد وجد طريقاً معبدا فسار عليه بسهولة )).
4- السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي المتوفى عام 1413 هجرية المرجع الاعلى في عصره وواضع منهجية تألفت من خصائص متعددة قسم من خلالها المباحث الاصولية أسوة بأستاذه الشيخ النائيني الى أقسام اربعة :
أولها : ما يثبت الحكم الشرعي بعلم وجداني .
ثانيها : ما يثبت الحكم الشرعي بعلم جعلي تعبدي و هو يتضمن مباحث الالفاظ و حجية الظواهر.
ثالثها : ما يعيّن الوظيفة العلمية الشرعية .
رابعها: ما يعين الوظيفة العلمية بحسب حكم العقل.
كما ألف سماحته (قده) كتاب ( معجم رجال الحديث ) في أربعة و عشرين مجلداً و هو المصنف المهم في استيعابه و حسن تبويبه بما وضع من أسس علمية رصينة في علم الحديث و الدراية من جهة وفن علم الرجال و سنن الجرح و التعديل من جهة اخرى و ما اضافه من نظام القبول و الرفض للروايات و ما بينه من توثيق الرواة أو ردّهم وما سجله من عدد الروايات وأماكنها من الكتب و مطانّها في الموسوعات الحديثة.
ثم اعقب هؤلاء المراجع العظام زعماء لحوزة النجف الاشرف و مراجع دين المتصدين للبحث و التحصيل الحاضرين في عقول و قلوب المؤمنين يحملون همومهم و يدافعون عن حقوقهم و الحريصون على ان ينتشر المذهب الحق في ارجاء العالم حفظهم الله تعالى و سدد خطاهم.
مقتطفات من حوزة النجف الاشرف
للسيد عبد الهادي الحكيم
(( بتصرف))