المنهج القرآني الموضوعي لدراسة المسائل العقائدية
عباس الموسى
هل أن عقائدنا مستلة من القرآن أو لا؟
وإن كانت الإجابة بنعم فمن أي منطلق وقاعدة تأسست وتبلورت هذه العقائد؟
وأين قاعدة الطرح على القرآن من هذه العقائد؟
وبمعنى آخر ما مقدار الاستفادة من قاعدة العرض على القرآن في تأسيس العقائد؟ 1
أو أن العقائد كلها مأخوذة من الروايات؟ وأي نوع هذه الروايات؟
كنا قد تحدثنا في ست حلقات سابقة بعنوان «قاعدة العرض على القرآن بين النظرية والتطبيق» وحاولنا هناك أن نبين أهمية هذه القاعدة في قبول وردّ الروايات، ونحاول هنا تأسيس منهج موضوعي لدراسة العقائد التي تتطرح هنا وهناك من خلال عرض مفاهيم الروايات على مفاهيم القرآن الكلية، فمثلاً جاء الحديث في القرآن عن علم الغيب حدوده وإمكانيته فهل نستطيع أن نؤسس مفهوماً كلياً من خلال الدراسة الموضوعية له في القرآن ونعرض ما جاء من روايات على هذا المفهوم، وكذلك الحديث عن قدرة الأنبياء والرسل في إنجاز الأمور والخوارق للعادة فهل نستطيع أن نؤسس مفهوماً كلياً لمعرفة ماهية وحقيقة الولاية التكوينية؟ أو أن الروايات الضعيفة بل والتي ليس لها سند ولا حتى مصدر كافية في إثبات العقائد؟! ويمكن بيان ذلك كما يلي:
العرض على الجزئي أم الكلي
ونقصد بالجزئي المفهوم المفرد للمعنى المراد مناقشته والذي لا يحتاج أكثر من آية لقبوله أو رده كأن يأتي مفهوم صريح في الآية مخالف لما جاء في الرواية، وأما الكلي فنقصد منه المفهوم العام للمعنى المتتبع والمستقرأ في القرآن بحيث نعرض الرواية «أو الروايات» المراد التأكد من صحة مفهومها على المعنى الكلي المتتبع بدراسة موضوعية له في القرآن فإذا خالفت القرآن ضربنا بها عرض الحائط كما هو منطوق ومفهوم الروايات التي مر ذكرها في الحلقات السابقة. ومن ثم تفقد تلك الرواية مصداقيتها وحجيتها واعتبارها.
وتوضيح ذلك كما يلي:
المنهج القرآني الموضوعي لدراسة المسائل العقائدية
ونقصد بهذا المنهج تأسيس منهج جديد في قاعدة العرض على القرآن في المسائل العقائدية، ويبتني هذا المنهج على دراسة الموضوع قرآنياً بأسلوب المنهج الموضوعي وهو شبيه بما يسمى التفسير الموضوعي للقرآن، ويعتمد هذا المنهج على إعطاء فكرة عامة للقضية العقائدية المراد مناقشتها من خلال القرآن بحيث نكّون ضابطة كلية هذه الضابطة تساهم في تطبيق قاعدة العرض على هذا المفهوم الكلي الناتج من القرآن، وحيث أن أساسات العقيدة في القرآن فالأولى أن نبحث عن مفاهيم القرآن العقائدية - في القرآن أولاً - من خلال استنطاق آياته الكريمة بواسطة استقراء الموضوع قرآنيا ثم عرض الرواية / الروايات على هذا المفهوم فما وافقه أُخذ به وما خالفه ضرب به عرض الحائط، وعليه لا بد من بيان كيفية تحقيق ذلك، وقبل البيان نشير إلى نقطة مهمة كنا نرددها في كل مقالتنا ودراستنا وهي:
أن مصدر العقيدة الصحيحة ينبغي أن يؤخذ من أحد ثلاثة أمور على الأقل:
1 - العقل الصريح.
2 - القرآن الكريم وهو المصدر التشريعي والعقائدي الأول.
3 - السنة القطعية ويقصد بها السنة المتواترة.
وحيث أنها - الأخبار المتواترة - قليلة كما يعبر الشهيد الثاني فإن الروايات التي تتحدث عن المسائل العقائدية أكثرها أخبار آحاد وخبر الواحد بطبيعته غير حجة في العقائد ومع ذلك فقد يؤخذ بمفاهيم عقائدية لوجودها في أخبار آحادية بعضها قد يكون معتبراً وبعضها لا يرقى إلى الاعتبار بشيء، ومع أننا نرفض أخبار الآحاد بمصطلحه العلمي في العقائد إلا أننا سنتنزل ونحاول أن نعرضه على القرآن ونعني بالخبر الواحد كل خبر لا يصل إلى التواتر، ونضيف إلى ذلك المفاهيم المنتزعة من مجموعة من الروايات قد تصل هذه الروايات إلى حد الاستفاضة في النقل أو المفهوم المستنطق من الروايات لأن بعضاً من العلماء اليوم يحاول أن يستفيد من مجموعة من الروايات لا تصل إلى حد التواتر بل ليست رواياتاً معتبرة لإثبات مطلب عقائدي.
وعلى كل حال ينبغي عرض كل هذه الحالات على القرآن وذلك عبر الخطوات المنهجية التالية:
الخطوة الأولى: تحديد المفهوم العقدي الوارد في الروايات أو الذهنية البشرية المعينة التي استلت هذا المفهوم من الروايات كالاعتقاد بعلم الغيب للأئمة مثلاً.
الخطوة الثانية: جمع الآيات الواردة في الموضوع من جميع السور ثم تفسير - أو نقل التفسير - الآيات جنباً إلى جنب وملاحظة ترابط بعضها وسيكون ذلك من خلال خطوات ثلاث:
1 - ما دلت بالدلالة النصية حول المعتقد المراد مناقشته كأن نبحث عن مادة «غيب» - مثلا - ونلاحظ ورودها في القرآن كما وكيفياً.
2 - ما دلت بالدلالة الظاهرية حول المعتقد المراد مناقشته دون وجود اللفظة كما في علم الغيب بسؤال النبي عن الساعة دون أن تكون لفظة غيب موجودة في القرآن، أو كقوله تعالى ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ «61» سورة النحل، الدالة على الرحمة دون ذلك اللفظة.
3 - ما دل بالدلالة الالتزامية للفظة أو للعبارة، أو كان نتيجة من نتائج استخدام العبارة مع ملاحظة أن أن بعض الكلمات أو الجمل تستخدم في موضعين مختلفين ويكون لها دلالة مختلفة بحسب الموضوع والسياق عن دلالة الموضوع الآخر فمثلا لفظة «كتاب» في القرآن ترد بعدة معان ومفاهيم وليس لها مفهوم واحد فتنبه.
ومن خلال هذه المراحل الثلاث نحاول تحليل هذا المعتقد القرآني وفهم معانية ومداليله، ومعرفة النسبة بين الآيات.
الخطوة الثالثة: ومن خلال استقراء الآيات التي تتحدث عن هذا المعتقد العام ومن خلال دراسة المدلولات التفصيلية وتفسير الآيات منفردة بالتفسير التجزيئي نحاول أن نصل إلى مفهوم كلي لهذا المعتقد القرآني نستطيع من خلاله عرض الرواية أو الروايات على هذا المفهوم.
وكل هذه الخطوات من خلال المواضيع المطروحة في القرآن كموضوع التوحيد مثلا كالتوحيد في الخالقية أو الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الأفعال، أو النبوة وما يرتبط بها، أو الحياة البرزخية وغير ذلك من المسائل العقائدية المرتبطة بأصول الدين. والبحث هنا يكون من داخل القرآن بحيث نؤسس المفهوم العقدي أولاً وآخراً من القرآن لا كما تبناه السيد الشهيد في كتابه المدرسة القرآنية من منهجية التفسير الموضوعي - وإن كانت صحيحة إلا أنها لا تخدم هدفنا - التي تبتني على دراسة الموضوع من الخارج ثم البحث في داخل القرآن، كلا فإننا نقصد أن تكون بداية الدراسة الموضوعية للمعتقد من داخل القرآن لرسم الضابطة الكلية وإعطاء المفهوم القرآني الصحيح الذي لا يشوبه شائبة ثم عرض الروايات عليه.
دلالة القرآن قطعية: إن فائدة المنهج الموضوعي القرآني هو تكوين دلالة قطعية للمعنى المراد بدلاً من الدلالة الظنية وتوضيح ذلك:
يذكر الأصوليون أن القرآن قطعي الصدور ظني الدلالة، وهذا صحيح في غير المنهج الموضوعي أما إذا اتبعنا المنهج الموضوعي فإننا نستطيع تعديل ما قرره الأصوليون ليكون: إن القرآن قطعي الصدور قطعي الدلالة، وينتج من ذلك أنه لا يمكن أن يقف أمام مفهوم القرآن أي مفهوم روائي مهما تكثرت رواياته واستفاضت فرب مفهوم مستل من روايات متعددة منطوقاً ومفهوماً ولكننا لا نقبل هذا المفهوم إذا تعارض مع المفهوم القرآني الموضوعي القطعي الدلالة.
وعلى كل حال هذه النظرية تبتني واقعاً على أمرين:
1 - محاولة استنطاق القرآن بحيث لا يكون مجال للشخص بأن يعطي رأيه ومعتقده في مقابل المفهوم القرآني الكلي فهو «يسير كالظل خلف آيات القرآن، فيفهم كل شيء من القرآن»2، لا أنه يعتقد بما يريد ثم يختار ما يتلاءم مع فكره ومعتقده من خلال اختيار الآيات التي تتناسب وفكره.
2 - تفسير القرآن بالقرآن من خلال تلك النظرة الشمولية للمعتقد القرآني وقد عبر أمير المؤمنين عن ذلك بقوله: «يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض» 3.
وهذه إنما تكون من خلال التدبر في القرآن وإمكان ملاحظة الآيات المتشابهة لها في السياق، وقبول تقارب المعنى في الكلمات وترادفها على حد ما، لضرورة الاستمداد منه في تفسير الآية بنظيرها. ومن هنا يمكننا أن نختار أي موضوع عقدي وارد في الروايات يراد معرفة صحته ونناقشه من خلال الدراسة الموضوعية له في القرآن.
وهذه النظرية المستنطقة من القرآن - من خلال الاستقراء الموضوعي الشامل - تهيئ لنا الأرضية لدراسة عقائد الإسلام بصورة قرآنية ناصعة وصافية بشرط أن لا نغلب الرأي الخاص والمعتقد الموروث والمكتسب على نظرية القرآن أو نقدمها عليه، كما لا نغلب الروايات عليه كيف لا وهو يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو الحاكم على غيره والمهيمن على ما سبق وهو الحاكم عند التنازع والفتن في الأصول والفروع «فإذا ألتبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن» لأنه معيار الأشياء وميزانها ومعيار للتفريق بين الحق والباطل لأنه ﴿ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ ﴾ ولأنه ﴿ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾.
1 والكلام لأولئك الذين يدعون أنهم يأخذون ويعتمدون على مبنى الوثوق هل يعتمدون على قاعدة العرض للتحقق من عقائدهم أو كما نعتقد أن هذا المبنى ذوقي متى ما كانت الرواية تليق وذوق الفرد قبل بها حتى لو كانت تخالف القرآن.
2 كما عبر عن ذلك آية الله ناصر مكارم في كتابه نفحات القرآن.
3 نهج البلاغة - خ 131