سورة الكهف . . (نبذ زينة الحياة الدنيا)و التجانس بين (الكهف) و(الاختفاء) عند أصحاب الكهف والعالِم. . .
بسمه تعالى
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين المعصومين
سورة الكهف تجسّم حجماً متوسطاً من سور القرآن ، وتتناول موضوعات مختلفة ، وهناك (خيطاً فكرياً) يوحّد بين كل موضوعاتها المختلفة ، ألا وهو
. وقد جاء هذا (الهدف الفكري) في أوائل السورة التي قالت :
(إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ (زِينَةً) لّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً)
هذه الفكرة المتصلة بزينة الحياة الدنيا وإلى أنها تتحوّل إلى أرض جرداء في النهاية ، وإلى أن (امتحان) الكائن البشري هو الهدف من مواجهته للزينة المذكورة ..
هذه الأفكار هي (البطانة) التي تحوم عليها كل موضوعات السورة ، فنحن حين نمعن في ملاحظة موضوعات السورة ، نجدها قد بدأت أولاً بحادثة أهل الكهف ، التي تمثّل سلوكاً عمليّاً لنبذ زينة الحياة الدنيا ، حيث توجّهت جماعة مؤمنة إلى الكهف للتخلّص من مسئولية التعاون مع الحكّام الظالمين . ولا شيء أدل على نبذ الحياة من اللجوء إلى الكهف الذي يمثّل نبذاً كاملاً لزينة الحياة الدنيا : كما هو واضح .
هذا مع ملاحظة أن السورة قدمت في هذه الحادثة نموذجاً إيجابياً من التعامل مع زينة الحياة الدنيا . ثم جاء الموضوع الثالث من السورة
كان الموضوع الأول هو :
التمهيد بالآيتين اللتين تحدثتا عن الزينة والجزر والبلاء ، وكان أهل الكهف : الموضوع الآخر) .
جاء الموضوع الثالث متصلاً بالحديث مع
النبيّ (صلى الله عليه وآله )
والجمهور واليوم الآخر ، وجاءت المطالبةُ التالية من خلال ذلك :
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا
إذن : الموضوع الثالث جاء متحدثاً عن الزينة أيضاً ، ولكن في موضوعٍ لا علاقة له بأهل الكهف .
الموضوع الرابع من السورة هو :
موضوع الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين من أعناب
(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً)
(وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إلى رَبّي لَأَجِدَنّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً)
، وقال عن مزرعته : (مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) .
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى ما أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
إذن : هذه الحادثة جاءت موضوعاً رابعاً عن التعامل مع زينة الحياة الدنيا . وهي من حيث الموقع الهندسي تمثّل طرفاً سلبياً للتعامل مع زينة الحياة الدنيا ، مقابل أهل الكهف فيما يمثّلون طرفاً إيجابياً مع الزينة المذكورة . مضافاً إلى ذلك جاءت إبادة مزرعته متوافقة هندسياً مع مقدمة السورة التي قالت :
(وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) . وها هي مزرعة الرجل تصبح (صعيداً جرزاً) ، حيث أصبحت (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)
لنلاحظ هذا المبنى العماري المتصل بعلاقة مقدمة السورة بهذه الحادثة ، وعلاقة هذه الحادثة مقابلة بحادثة أهل الكهف الإيجابيين ، وتمثّلهم خطاً هندسياً مقابلاً لخط صاحب الجنتين .
وجاء موضوع جديد في السورة وهو الموضوع الخاص ، يعرّفنا بالحياة الدنيا على هذا النحو :
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ)
الموضوع الخامس جاء متحدثاً عن الزينة مع تذييله بموضوعات تتصل بالنمط الكافر من الآدميين وتعاملهم مع الشيطان ؛ تناسقاً مع الخط الذي رسمته السورة لصاحب الجنتين
ثم جاء الموضوع السادس من السورة متحدِّثاً عن قصة (موسى) مع (العالم) في مواجهته لخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار . طبيعي قد يبدو للقارئ العابر أن هذه الحادثة أجنبية عن موضوع (الزينة) وطرائق التعامل حيال ذلك ، ولكنه لو تأمّل بدقة ، لَلحظَ أن (العالِم) الذي انبهر موسى أمام شخصيته التي لا يعرفها حتى (موسى (ع) ، إنما تمثّل (انعزالاً) كاملاً عن الدنيا ، بحيث لا يعرف هذه الشخصية حتى (الأنبياء؟؟؟؟؟؟
إنها شخصية منعزلة مختفية حتى عن الأنظار الخاصة
لا نغفل التجانس بين (الكهف) و(الاختفاء) لدى كلٍ من أصحاب الكهف والعالِم. . . !!!!!!!!!!
الموضوع السابع في السورة هو :
. وأدنى تأمّل لهذه الشخصية وسلوكها ، يُداعي بأذهاننا سريعاً إلى جملة من الخطوط الهندسية التي تتوازى وتتقابل بشكل مُذهلٍ وجميل بين حوادث وشخصيات السورة . فذو القرنين لو قابلناهُ بصاحب الجنتين للحظنا الفارق الكبير بينهما من حيث (تملّك) كلٍ منهما لأحد مظاهر الحياة ، ومن حيث (موقفهما) من ذلك .. فصاحب الجنتين لا يملك إلاَّ جنتين فحسب من مساحة الله الواسعة :
لكنه مع ذلك بهرته (زينة) الحياة الدنيا !!!!!!!!
بينا نجد أن ذا القرنين تملّك شرق الدنيا وغربها : لكنه
لم تبهره الحياة الدنيا ، بل ظلّ على تعامله الإيجابي مع الله . وذو القرنين يتعامل إيجابياً مع الله (وهو معروف لدى كل الجمهور) !!!!!؟
يوازنه (العالِم) الذي يتعامل إيجابياً أيضاً (وهو لا يعرفه حتى موسى)!!!!!!!؟
. وذو القرنين يمثّل خطاً من الحياة هو (البروز) أمام الدنيا كلها ، بينا يمثّل أهل الكهف خطاً هو (التخفّي) عنها في مكانٍ منغلق .. .
كل هذه الخطوط ، المتوازنة حيناً والمتقابلة حيناً آخر تتناسق فيما بينها هندسياً لتصبّ في رافدٍ واحدٍ ، هو :
التعامل مع الحياة الدنيا :
إيجاباً أو سلباً من خلال (الزينة) وطرائق الاستجابة لها.
الموضوع الثامن والأخير من السورة ، هو الحديث عن الأخسرِين
(الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)
مرتبطاً ببداية السورة التي تحدثت عن هؤلاء الذين طالبت
النبيّ (صلى الله عليه وآله )
ألاَّ يهلك عليهم نفسه . . .
، وإلى أن (زينة) الحياة الدنيا جُعلت (امتحاناً) لهم ولمطلق الآدميين . هذا ولا نغفل صلة هذا الموضوع بصاحب الجنتين الذي حسب أنه يحسِن صنعاً في قوله
(وَلَئِن رّدِدتّ إلى رَبّي لَأَجِدَنّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً)
جميع موضوعات سورة الكهف حامت على (هدف محدد) ، هو :
التعامل مع (زينة) الحياة الدنيا وموقع (الامتحان) من ذلك : بما يواكبه من عمليات الثواب والعقاب أخروياً ودنيوياً . . .