(يُكلم الناس في المهد وكهلا). في الإنجيل والقرآن.
مصطفى الهادي.
في مادة كهُلَ في قواميس اللغة اجمعوا على أن (كَهُلَ الشخص): صار كَهْلاً؛ جاوز سنّ الشَّباب ولم يصل سنّ الشيخوخة.
وقال في قاموس المعاني : الكَهْلُ :مَنْ بلغت سنُّه بين الثلاثين والخمسين.
وفي الصحاح : الكَهْلُ من الرجال الذي جاوَز الثلاثين ووَخَطَه الشيبُ.
وقال في لسان العرب عن ابن الأثير: (الكهل من الرجال من زاد على ثلاثين سنة إلى الأربعين). وقال ابن منظور : (وكهلا ، هو نزوله إلى الأرض عند اقتراب الساعة كهلا ابن ثلاثين سنة يكلم أمة محمد).(1)
وقال في الميزان : (الكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة وهو ما يكون الانسان فيه رجلا تاما قويا ولذا قيل الكهل من وخطه الشيب أي خالطه وربما قيل إن الكهل من بلغ أربعا وثلاثين).(2)
إذن فالكهولة تبدأ من عمر الثلاثين عاما، وحتى الخمسين أو الستين. ولكن ماهو السر في قول القرآن الكريم : (يُكلّم الناسَ في المهدِ وكهلا). فنسب له الكلام مرتين؟
الأولى: وقد ذكرها القرآن تفصيلا، وهي تكلمه في المهد لبرائة امه وزف البشارة إلى قومه بأن الله بعثهُ نبيا.وأعطاه كتاب جديد.
والثانية عند رجوعه في مستقبل الزمان لاستكمال مهمة القضاء على الدجال.(3)
يقول الطبري في تفسير قوله تعالى : (ويُكلم الناس في المهد وكهلا) : قد كلّمهم عيسى في المهد، وسيُكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهل). ونستشف من هذا الكلام وكلام آخر ورد في الإنجيل أن عيسى عليه السلام بيّن مهمته إلى قومه عندما تكلم في المهد ، وهي : جعله الله نبيا، وجعلهُ مباركا،وآتاه الكتاب، ومحذّرا لهم من فتنة المسيح الدجال الذي سوف ينتحل اسمه كما نقرأ ذلك واضحا في الإنجيل: (أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه).(4) أي انكم ستنقلبون بعدي ، وتخلقون لكم مسيحا كاذبا وتتبعونه. وكذلك قال لهم : بأنه عبد الله ، نافيا أن يكون ابن الله او هو الله، فقال لهم ذلك مقدما. ثم عطف القرآن ذلك بقوله (وكهلا). وهي بشارة أيضا في إن عيسى سوف يبقى حيّا إلى يوم القيامة حيث يؤدي مهمته في كشف أمر الدجال وقتله، وتحوّل أتباعه ضمن أتباع المسيح.
وهناك رأي آخر في قوله تعالى لمريم عن وليدها (وكهلا) أخبرها تعالى على لسان رضيعها أن ابنها سيبقى حتى يكتهل فلا يُصيبه شيء من أعداءه اليهود والرومان الذين يطلبوه ليقتلوه. فسوف يبقى حتى يبلغ سن الكهولة. وقد حصلت مطاردة فعلا من الامبراطور الروماني في البحث عن عيسى لقتله خصوصا بعد شياع تكلمه في المهد وحصول اضطراب نتيجة ذلك.
يقول الإنجيل : (فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه).(5) فقرر قتل السيد المسيح ولكن الله سبق وأن بشّر مريم بأن ولدها لا خطر عليه وأنه سيبقى إلى أن يصل مرحلة الكهولة لتنفيذ مهمته الثانية ولذلك أوحى إليها عن طريق ابن خالتها يوسف، قائلا له: (قم وخذ الصبي وأمه واهرب. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه .((6) ولما علم هيرودوس أن الصبي اختفى مع امه (غضب جدا. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها، من ابن سنتين فما دون).(7)
بعد أن نجى السيد المسيح من تآمر اليهود ومن القتل على يد هيرودوس ، اختفى ذكره وسكت التاريخ وكذلك الاناجيل عن ذكر اي شيء عن طفولته وشبابه ، حتى بلوغه سن الكهولة (30) عاما، حيث ظهر بدعوته في أوساط الأمة الرومانية واليهودية. وهذا ما تؤكده الأناجيل ( ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة). ( 8 )
وبعد بعثته في سن الثلاثين ، بقى ثلاث سنين يُبلّغ رسالته كما يقول الانجيل: (أني ثلاث سنين ليلا ونهارا، لم أفتر عن أن أنذر بكل واحد).(9) وفي نص آخر تأكيد على أنه لم يستمر في دعوته اكثر من ثلاث سنوات : (فقال : هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرا في هذه التينة ولم أجد).(10)
أما التفسير المسيحي فهناك اجماع على ذلك كما يقول مارمرقس : (عندما بلغ المسيح يسوع سن الثلاثين، ليبدأ خدمته.وهنا يذكر لوقا الإنجيلى نسبه ليعرفنا به قبل خدمته. وكان سن الثلاثين هو ميعاد بدء الخدمة الكهنوتية عند اليهود).(11)
وعن ذلك يقول الأب بولين تودري : (بدأ يسوع خدمته في سن الثلاثين تقريبًا وهذا السن حُسب عند اليهود سن الكمال جسدًا وعقلًا. فقد أوصي الله موسى في سفر العدد ــ من ابن ثلاثين سنة فصاعدًا إلى أبن خمسين سنة، ليعمل عملًا في خيمة الاجتماع وقد صمت الرب يسوع كل هذه السنين، وظهر بين الناس حان الوقت الآن ليبدأ).(12)
يقول القمص أنطونيوس فكري : (نحو ثلاثين سنة هي السن التي ملك فيها داود ويوسف وهي السن التي يبدأ فيها الكاهن عمله فالمسيح ملك وكاهن).(13) من هذا نفهم أن القرآن الكريم كان دقيقا في وصفه السيد المسيح بالكهولة.
ومع نشاطه في تبليغ رسالة ربه وجهوده الصادقة في ذلك إلا أنه لم يؤمن له أحد ، وقد قال المسيح ذلك بأن تبليغه لم يأت بثمار. وعن ذلك يؤكد بولين تودري في تفسيره بأن قيام المسيح بالتبليغ ثلاث سنوات في أمة بني إسرائيل لم يأت بثمار فيقول : (وأعطاهم مثلًا بالتينة ، وجاء يطلب منها ثمرًا فلم يجد.. ثم جاء يسوع الكرام ينقب حولها، ويذكرها بخطاياها، ويعلمها إرادة الآب، حتى تستطيع أن تأتي بثمر. فكل من قبل عمل المسيح في حياته وصنع ثمرًا صالحًا فهذا ينجو، أما من لا يأتي بثمر فعمل المسيح من أجله يدينه في اليوم الأخير).(14)
ولعلنا نرى في إنجيل يوحنا وصفا دقيقا لحالة عدم الإيمان برسالة المسيح . فقد بلغ الأمر حدا أن اخوته من أبيه ــ كما يقول الانجيل ــ لم يؤمنوا به كما نقرأ (لأن إخوته أيضا لم يكونوا يؤمنون به).() إنجيل يوحنا 7: 5. فعلى الرغم من انهم عاشوا معه وعرفوا صدقه منذ طفولته إلى كهولته، إلا أنهم لم يؤمنوا برسالته.
ولعل احد أهم اسباب رفع السيد المسيح وتأجيل دعوته ، هو علم الله تعالى بعدم إيمان أمة المسيح به وعلمه بمحاولة قتله. ولذلك رفعه في سن الكهولة ، ليبعثه في هذه السن مرة أخرى. وهذا ما يقوله الإنجيل من أن احد الملائكة ظهر لتلاميذ المسيح (حوارييه) بعد أن اختفى المسيح في السماء وقال لهم : (ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقا).(15) فهو سيعود لكم على هيئته وسنّه التي انطلق فيها. وهنا اشارة لطيفة لابد من ذكرها ، وهي أن الله رفع السيد المسيح في سن الثالثة والثلاثين (كهلا). وسيبقى طيلة مدة غيابة على هذه السن فيبعثهُ الله بها لم يتغير شكلا ولا عمرا. وفي ذلك درس وعبرة لضعيفي الإيمان ممن سوف يُشكك بوليه القائم المنتظر عجل الله تعالى فرجه. الذي على رغم طول سنين الغياب إلا أنه سيظهر بشكله أول يوم غيبته.
واما مسألة تكلمه في المهد التي يذكرها القرآن ، فيقول المسيحييون بأن ذلك غير موجود في الأناجيل؟!
وأقول لهم ، أن من أعجب الأعاجيب ان تنكروا فضيلة لنبيكم بهذا الحجم وهذه الأهمية،وتنسبونها ليوحنا (يحيى) فتزعمون أن الذي تكلم في المهد هو يوحنا وليس السيد المسيح. مع أن يوحنا ليس بحاجة إلى معجزة التكلم في المهد ، لأنه لا أسباب تدفعهُ لذلك ، فهو ولد من ابوين مشهورين معروفين هما (زكريا ابوه ، وامه اليصابات). وكان كل اليهود يعلمون بحمل امه وبقيت حامل وسطهم تسعة اشهر ثم ولدت يوحنا بينهم واحتفلوا به وختنوه. ولذلك لا يحتاج يوحنا أن يتكلم في المهد.إنما يحتاج ذلك من ولد من غير أب فيتكلم لرفع الشبهات عن أمه الطاهرة.
فيوحنا لم يتكلم في المهد، ولا دليل على ذلك, يضاف إلى ذلك أن يوحنا لم يتكلم وهو كهل أيضا ، ولم يصل إلى مرحلة الكهولة،بحسب شهادة الإنجيل وارباب المسيحية. حيث قتله القيصر وهو بعد شاب يافع وهذا ما يقوله قاموس الكتاب المقدس : (وكانت المدة التي عمل فيها يوحنا قصيرة، وحوالي نهاية سنة 27 أو مطلع سنة 28 ب.م. أمر هيرودس انتيباس رئيس الربع بزجه في السجن لأنه وبخه على فجوره. وقطع رأسه في السجن. وأتى برأسه على طبق). (15) فقد استشهد في مرحلة الشباب (27) سنة. ولم يبلغ الكهولة. وبذلك لا يشمله قوله تعالى (يُكلم الناس في المهد وكهلا).بل أن ذلك لعيسى (ع) الذي رُفع كهلا في سن (33).
ومن هنا فإن النص الإنجيلي ذهب إلى ما يذهب إليه القرآن بأن المسيح تكلم في المهد : (وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم فوقع خوف على كل جيرانهم. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت).(16) . وكذلك يُثبت الانجيل بأن المسيح هو الذي سيتكلم كهلا. لأن الأنجيل يؤكد موت يوحنا (يحيى) بعمر الشباب ولم يبلغ مرحلة الكهولة.
يضاف إلى ذلك فقد كان من المشهور في زمن السيد المسيح انه تكلم في المهد،وشائع على ألسنة الكثيرين، فيوسيفوس المؤرخ اليهودي في زمن ولادة المسيح دوّن ذلك في كتابه فذكر يوسيفوس بأن قيافا رئيس كهنة اليهود قال : بأن يسوع تكلم حين كان في المهد. وذكر نصا قال انه سمعه من السيد المسيح نفسه وهو يتكلم به حيث قال : (إني أنا المسيح ابن الله الذي ولدتِني كما بشَّرك جبرائيل الملاك، وأبي أرسلني لخلاص العالم).وقول السيد المسيح هنا : (أبي ارسلني لخلاص العالم). لا يقصد برسالته فهم لم يؤمنوا به كما تقدم ، بل ليُنقذ العالم من شر المنتحل لشخصيته (المسيح الدجال).
وأناجيل الطفولة أيضا ذكرت أن السيد المسيح تكلم في المهد. ولكن لهذا السبب لا تعترف الكنيسة بهذه الأناجيل. وهذا يدل على أن شيئا ما قد حدث فعلا وإلا من اين جاء هؤلاء بهذا الكلام. ولذلك نرى (الأب توماس ميشال اليسوعى) والذي نعتبره شاهد مهم لأنه من المسيحية نفسها لا بل من كبار رجالاتها حيث يقول : (ذكر القرآن بعض ما أجراه يسوع الطفل من معجزات كاحياء عصافير صنعها من الطين ، أو التكلم فى المهد . أما المسيحيون فلا يؤكدون هذه المعجزات ولا ينفونها , لأنها لم ترد فى كتابهم المقدس . الا أن بعض الكتب التقوية المسيحية التى ترقى الى الأجيال المسيحية الأولى تتضمن أخبارا شبيهة لما ورد فى القرآن , منها الأنجيل المسمى (انجيل الطفولة ) لتوما ، و(انجيل الطفولة العربى).(18)
من كل ذلك نعرف ، أن المتكلم في طفولته هو السيد المسيح ، وأن الذي سيتكلم في كهولته هو السيد المسيح، وللمسيح الدجال يومٌ طويل من المسيح. وقد صدق القرآن في ذلك.
المصادر:
1- لسان العرب - ابن منظور - ج ١١ - الصفحة ٦٠٠.
2- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٣ - الصفحة ١٩٥.
3- يقول الشيخ الكوراني : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهدِ وَكَهلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:46) ان عيسى ينزل في عصر المهدي عليه السلام وهو كهل قد كلمهم عيسى في المهد وسيكلمهم اذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل. معجم احاديث الامام المهدي (عليه السلام) للكوراني ج5ص: 54.
4- إنجيل يوحنا 5: 43.
5- إنجيل متى 2: 3.
6- إنجيل متى 2: 13.
7- إنجيل متى 2: 16.
8- إنجيل لوقا 3: 23 .
9- سفر أعمال الرسل 20: 31.وهذا الكلام ظهر على لسان بولص متأسيا بالسيد المسيح على زعمه.
10- إنجيل لوقا 13: 7.
11- شرح الكتاب المقدس - الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد: كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة، شرح لكل آية، تفسير إنجيل لوقا3.
12- شرح الكتاب المقدس - العهد الجديد - أ. بولين تودري تفسير لوقا 3. (سفر العد 4: 3).
13- شرح الكتاب المقدس - العهد الجديد - القمص أنطونيوس فكري. تفسير إنجيل لوقا 3. (وكان يوسف ابن ثلاثين سنة لما وقف قدام فرعون ملك مصر). سفر التكوين 41: 46.
14- شرح الكتاب المقدس - العهد الجديد - أ. بولين تودري.تفسير إنجيل لوقا 13.
15- سفر أعمال الرسل 1 : 11.
16- قاموس الكتاب المقدس | دائرة المعارف الكتابية المسيحية، شرح كلمة القديس الشهيد يُوحَنَّا المعمدان.و إنجيل مرقس 6: 28.
17- إنجيل لوقا 1 : 65. و: سورة مريم آية : 30.
18- انظر كتاب مدخل الى العقيدة المسيحية دار المشرق - بيروت 993 ص 42 ــ 57. أناجيل الطفولة هي التي تكلمت عن طفولته وما جرى عليه فيها ، وقد كتبها يهود كانوا بعد أن شاهدوا منه المعجزات مثل تكلمه في المهد وقيامة ببعض الردود التي افحم بها كبار الكهنة.ولكن اليهود اعتبروا ذلك اهانة لكهنتهم بأن طفلا هزمهم، فقاموا باتلاف هذه الأناجيل والذي نجى منها اخفوه ولم يعترفوا به.