أهمية تفعيل القرآن في وسط الأمة
السيد محمد رضا السلمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ثم اللعن الدّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾1 .
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين. قال تعالى: ﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾ 2 .
كتاب الهدى والنور:
للقرآن الكريم في مسيرة الأمة ركيزته الهامة، فعندما رفع المسلمون القرآن شعاراً سادوا الدنيا، وعندما أداروا ظهورهم له تسيّد عليهم الآخرون من شذاذ الآفاق.
لقد حظي القرآن الكريم بعناية خاصة من قبل الرسول الأعظم ص بعد التعهد من السماء بمسؤولية الحفظ، وهي المفارقة بين دستور هذه الأمة الخاتمة الراشدة الوسط، وبين من تقدمتها من الأمم في دياناتها، فالسماء لم تتعهد لأي من أولي العزم بحفظ رسالاتهم إلى آخر الدهر على نحو الدستور، فكانت التوراة والإنجيل والزبور والصحف وغيرها عبارة عن خطط طريق انتهجها الأنبياء والرسل لإصلاح الأمم من حولهم، وكانت تلك النبوات تختص بمكانٍ ما، وربما تواجد أكثر من نبي في موقع واحد، فيما كانت هناك رسالات عظمى وكبرى لها امتداداتها، وكانت تتمثل في أولي العزم بالدرجة الأولى.
إن الأنبياء ع اجتمعوا على قضية واحدة لم تنحرف بهم البوصلة عنها، لذلك لم يسجل التاريخ صراعاً بين نبي وآخر، ودونك ما دُوِّن في هذه القضية حتى من قبل أرباب الديانات التي اعتراها الكثير من التغيير والتبديل. وحتى أولئك الذين يتصيدون عند المنحدرات، لم يسعفهم الحظ، ولم توافقهم الصدفة أن يعثروا حتى على واحدة من القضايا أو الوقائع التي تدلل على أن شيئاً من الاحتكاك قد وقع. نعم، هناك حروب طاحنة وقعت بين أتباع الديانات، وهذا منذ اليوم الأول، فأول دم أريق على وجه الأرض كان المحور فيه مسألة التدين، فهناك أخ يتمتع بالتصاق مباشر بالسماء من خلال صحف تؤدي ذلك الغرض، وأخ آخر يقف على طرف النقيض تماماً، يتفلت من الضوابط والمسؤوليات، ويدير الظهر بشكل كامل لما تضمنته الصحيفة التي تبانى السير عليها أبو البشرية آدم ع . وكانت النتيجة أن قُتل ربع سكان العالم.
ورثة الأنبياء:
ونحن اليوم عندما نقرأ النص القائل: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» [3] ، وفي نص آخر: «أفضل من أنبياء بني إسرائيل» [4] ، خلا أولي العزم، فإننا لا بد أن نلحظ أن النبي ص جاء بكاف التشبيه للتشريك بمجموعة من الخصائص.
وهنا يستوقفنا السؤال التالي: هل أن اجتماع العلماء في منطقة واحدة، تشغلهم فيها القضية الأم والأساس والمحور، فلا تنحرف بهم البوصلة ذات اليمين وذات الشمال؟ أو أن البوصلة في منتهى الدقة والخفة بحيث تُحرَّك ولو عند خفقة عين، مما يستوجب صراعاً يتحول إلى مرتبة الاستفحال المستعصي على الحل؟
إن العلماء حملوا القرآن الكريم مسؤوليةً، وقد أصّل النبي ص مجموعة من القواعد لحفظه، والنصوص التي تكفّل بها هذا الجانب طوى الدهر الكثير منها، والسبب في ذلك أن التدوين قد مُنع في عهد من تقدم على علي ع في موقع الخلافة كخليفة ثانٍ على المسلمين، فهناك صحابة سمعوا من النبي ص واستشهدوا في حياته، وآخرون سمعوا منه وعاشوا بعده، ولكن اختفى قسم منهم تحت طائلة حروب الردة، التي لم نجد إلى اليوم قلماً نزيهاً يقدم لنا هذه الحلقة المهمة في مسيرة المسلمين، لينتزع المسلمون منها درساً، كي لا يقعوا في غائلة من وقع فيها في الماضي.
وحروب الردة عبارة عن عشر رايات عقدت وتوجهت نحو مجموعة من القبائل التي نأت بنفسها عن مسألة الاستخلاف، وبقيت على مسلك الولاء الذي وُضع حجر الأساس له في غدير خم من قبل النبي الأعظم محمد ص .
أسباب النزول بين الحقيقة والأغراض:
أقول: إن هذه المحطة طوت الكثير من أصحاب النبي ص ممن سمعوا منه فيما يتعلق بالقرآن الكريم، لا سيما ما يتعلق منه بأسباب النزول. وعندما نستعرض أسباب النزول في جملة من التفاسير عند معظم المدارس الإسلامية، نجد أن معظم تلك الروايات مصدرها الآحاد، أي أنها أخبار مصدرها شخص واحد، وليتها تتصف بالسلامة، إنما هي في أسوأ حالات السقم من حيث الوضع السندي عند أرباب النقد الرجالي.
ولو أن النصوص كانت كثيرة تبلغ حد الاستفاضة لاستطعنا أن نبني على الكثير منها، ولكن ـ مع شديد الأسف ـ نرى أن الكثير منها عندما يُغربَل ينتهي إلى خبر آحاد، ونرى أن من شكّل حجر الأساس في ذلك لا يرقى إلى درجة الصحة والوثاقة، لذلك نرى أن مجموعة من الآيات حُرِفت عن مواطن النزول التي نزلت فيها على نحو الدقة.
ثم إن كثيراً من العلماء ممن جاء بعد ذلك، لم يتعاطَوا المسألة بكثير من الأهمية باعتبار أنها لا يترتب عليها حكم شرعي، وحيث إنها كذلك فلا مستوجب لسبر غورها للوقوف على نقاط الضعف فيها سنداً ودلالة. وهذه الإشكالية هي التي بتنا اليوم ندفع واحدة من ضرائبها بناءً على وجود التيار الاجتهادي التجديدي في أوساط الحوزات العلمية، وهذا التيار إنما هو حركة تصحيح في وسط الحوزة. نعم، قد يواجه الكثير من العقبات، وقد يعترض طريقه الكثير من المشاكل، ولكن في نهاية المطاف لن يستمر ولن يستقر إلا هذا المسلك، لأن الأمة تطورت، فنحن لا نستطيع أن نأسر الأمة بقواعد عفا الزمن على الكثير منها، وعندما أقول: «الكثير منها» فإنني ألتزم بحدود الكلمة وما يترتب عليها من الآثار، فالأمة اليوم ليست تلك التي كانت من قبل، وإذا كان التطور واكب مسيرة النبوات والرسالات، وأن ما جاء من تشريع في مدرسة المسيح يختلف تماماً عما جاء في مدرسة الكليم، جراء حاجة الأمة وتقدمها في مسارها العلمي والفكري والتنويري والانفتاحي، فإننا نجد من الطبيعي جداً أن الرسالة الخاتمة هي هذه الرسالة، وجاءت على خلفية رسالات تقدمت، وربما من باب التهيئة والتوطئة، فلا بد أن تمتلك من العناصر ما يؤمّن لها القدرة على التعاطي مع كل الأمور والقضايا.
القرآن ومدارس التفسير:
من هنا جاء النبي محمد ص بالقرآن الكريم، وهو بمثابة الدستور للأمة، كأصول ـ بطبيعة الحال ـ فهو لم يضع القوانين لإشارة المرور مثلاً، إنما وضع ضوابط تؤمّن لنا استنباط الحكم الشرعي في الكثير من قضايانا. وربما يقول قائل: وما الذي يسعفنا على ذلك؟ نقول: يسعفنا المنبع الصافي المحصور في آل محمد ص .
العلماء وتفسير القرآن:
وبعد أن انجلت الغيمة عن ارتحال كوكبة الصحابة النيرة والتابعين لهم بإحسان ـ وهم أيضاً من حملة العلم والفقه والحديث والدراية ـ بقيت العهدة على عاتق العلماء، فالإمام علي [5] ع كان يبحث عمن يسمع منه، لكنه لم يساعده الزمن أن يتحصل على شذرات كافية يفرغ عليها مما أفاض الله تعالى عليه، إنما هم أفراد يبرزون بين فَينةٍ ويختفون في فينة أخرى، كحبر الأمة ابن عباس «رضوان الله تعالى عليه»، فهذا الرجل العظيم، أحد أئمة التأصيل لمدرسة التفسير للقرآن عند المسلمين، وهو كفرد من الناس محل أخذ ورد وبدل، إلا أن آية الله العظمى السيد علي الفاني الإصفهاني «رضوان الله تعالى على روحه» وهو من المراجع المعاصرين، وقد توفي سنة 1409 هـ في أواخر شهر شعبان، كان قد وضع رسالة خاصة في كشف النقاب عن حقيقة حبر الأمة ابن عباس، وهي رسالة في منتهى الدقة، ومبنية على أسس رجالية كما هو الحال في الحوزات العلمية، وقد أنصف الفقيه الإصفهاني حبر الأمة الصحابي المفسر ابن عباس.
ومما يذكر في تاريخ هذا الرجل أن الإمام أمير أمير المؤمنين ع استضافه ليلة من الليالي، فسأل علياً ع أن يفسر له سورة الفاتحة، وجلس بين يديه جلسة التلميذ بين أستاذه، وهي حالة طبيعية، فمن لا يجلس بين يدي علي ع جلسة التلميذ؟ إلا أستاذه الأول وهو النبي الأعظم محمد ص . فقال له علي ع : وأما الباء من البسملة، فهو خط تحته نقطة، وللنقطة دلالاتها، وراح يفتّق معطيات النقطة من باء البسملة، حتى أدركهم الصباح، فقال علي ع : نداء السماء يدعونا للصلاة، فقال ابن عباس: وما زلنا في نقطة الباء من البسملة؟! فقال ع : لو شئت أوجرتك حمل أربعين بعيراً لفعلت.
مدارس التفسير واتجاهاته:
وقد ترك ابن عباس وراءه بسبب تلك الومضة تفسيراً يعتبر أول التفاسير، وفاتحة مدرسة التفسير. ثم تنوعت مدارس التفسير بعد ذلك، وأخذت مشارب بحسب تطور ذهنية الأمة.
الاتجاه التقليدي:
ومن تلك المدارس: المدارس التقليدية، التي تحاكي ما كان عليه السلف الصالح، فهي تلحظ السورة أولاً من حيث كونها مكية أو مدنية [6] ، ثم تنتقل لتفسير الآيات. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن بعض الناس قد يتصور أن هذه الآية ليست في محلها، وقد يكون كذلك، وليس من باب الالتفات البلاغي كما يحاول البعض أن يمرر المسألة، إنما قد تكون بعض الآيات ليست في محلها فعلاً، وهذا ليس من القول بالتحريف، فالتحريف أن نقول استبدلت آية بأمر آخر، أما أن تُقدَّم سورة على أخرى، أو آية على آية، فليس من التحريف، إنما هو اجتهاد ممن جمع القرآن، والذي قام على جمع القرآن بالصورة الموجودة اليوم، بإجماع المسلمين، هو الخليفة الثالث، وهو لا يتمتع بصفة العصمة، ومن وقف معه ـ باستثناء علي ع ـ لا يتمتعون بالعصمة كذلك، أما عليٌّ ع فقد استشير وأشار عليهم، فُقبل كلامه في بعض المواضع، وقُدِّم عليه كلام كعب الأحبار في مواضع أخرى، في حين أن كعباً هذا لم يغسل نفسه بعد من أدران اليهودية، وهذا من سوء حظ الأمة.
وهكذا وُضعت بعض الآيات في مواضع معينة ليخدم ذلك أغراضاً بعينها، وسارت الأمور بهذا الاتجاه، ومن ثم صار المفسر التقليدي يأخذ الآية ثم يبحث سبب نزولها، ثم يبحثها لغوياً، وهكذا، وهو مسلك جامد ليس فيه حركة، لا يمكن أن يتقدم بذهنية الأمة.
الاتجاه العلمي:
ثم تطورت الذهنية شيئاً فشيئاً وجاء المسلك العلمي في تفسير القرآن الكريم، لا سيما عند دخول الاستشراقيين إلى الشرق الأوسط، بعد أن أكملوا دورهم في الشرق الأدنى. وفي الشرق الأوسط قبلة المسلمين، ومهبط القرآن، ومثوى الرسول الأعظم وقلب الأمة النابض، فرأوا أن هؤلاء لا بد من أن يُزجوا في أمور تتناسب مع الوضع، وكان وضع الأمة قبل مئة وعشرين سنة لا تحسد عليه من حيث الثقافة والعلم، وهو الزمن الذي استفحل فيه الاستشراق ودخل في عروق أبنائها.
وقد جاء المستشرقون بعد أن درسوا في الغرب، والغرب متقدم علينا، والكثير مما نستمتع بعطائه اليوم إنما كان في الغرب قبل قرن ونصف من الزمن. وها أنت تلاحظ أنك عندما تُرسل ولدك إلى الغرب ويرجع، تجد أن نمط التفكير لديه تقدم، وهذا ليس أمراً سلبياً، إنما قراءتنا سلبية، فالولد وضع نصب عينيه الهدف الذي انطلق من أجله، وهذا نجاح كبير، فلماذا نكون سلبيين دائماً معتقدين أن هؤلاء يريدون أن يغربوا أبناءنا؟ هذا تفيكر سلفي قديم متحجر، وليس سلفياً فقط، والسلفية المتحجرة ليست حكراً على أبناء العامة، إنما هي عند الشيعة أيضاً ـ مع شديد الأسف ـ فهناك من يحسب أن كل كلمة تصدر في أي موقع تعنيه هو، وهو المقصود بها دون غيره، وهذه هي سلفية التحجر. ومن الجدير بالتنبيه أن اليهود والنصارى لديهم سلفية كذلك، فأرجو أن لا يتحسس البعض من هذه المفردة مطلقاً.
إن أصحاب الاتجاه العلمي في التفسير وحركة التنوير، لهم منطلقاتهم، لأنهم وجدوا أن العلم حقيقة واقعة في الخارج، ولا يمكن لأحد أن ينكر الآثار المترتبة عليه، فما المانع أن يستغل في هذا الجانب، ويستنطق النص بناءً عليه؟.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجدوا أن العلم لم يحدث نقلة في الجانب المادي فحسب، إنما أحدث في العلوم الأخرى بشتى أنواعها نقلة نوعية كبيرة وهامة جداً، نعيش اليوم على فُتاتها، وهذا قدر الأمة الإسلامية، بما اختطته لنفسها هي، لا بما أرادته لها السماء، فالسماء أرادت لها أن تكون متقدمة، لكن الأمة أرادت لنفسها أن تكون في موقع متخلف، فتحقق ذلك لها.
إن أصحاب التفسير العلمي عندما أشركوا العلم في استنطاق النص الشرعي، وعرض الآيات على معطيات العلم، جوبهوا بالتكفير والمقاطعة، بل أُحرقت التفاسير التي كتبت وفق المنهج العلمي في استنطاق النص، فلا تحسبوا أن ما يحدث اليوم هو وليد الساعة، فمسلك مصادرة العقول ومحاكمة النوايا وجد منذ القديم ولا زال.
الاتجاه الاجتماعي في التفسير:
أما المسلك الثالث فهو المسلك الاجتماعي في استنطاق النص، وأصحاب هذا المسلك أثْرَوا وقدموا ـ بلا إشكال ـ نماذج راقية في استنطاق النص، وقد جوبهوا أيضاً وحوربوا وقيل عنهم: إنهم سطحيون لا يستطيعون سبر غور النص بناء على ثوابت معينة، فلجأوا إلى الاستعانة بمعطيات المجتمع من حولهم لفك بعض الأمور. وقد يكون المسلك توفيقياً لكسب الرأي العام، وهذه من التهم التي وجهت لأصحاب هذا المسار، وأحياناً يلجأون إلى صرف الآية عن مداليلها رغبة في حرف الرأي العام. وهذا تناقض كما هو واضح [7] ، لكن هذا الزمان أرانا كل شيء، فالنقيضان لا يجتمعان كما هو معروف لدى المناطقة، لكن النقيض يجتمع مع نقيضه لدى من يحمل عقلاً ناقصاً.
الاتجاه المذهبي:
ومن تلك المدارس التفسيرية مدرسة التفسير المذهبي، بأن يتعاطى المفسر مع القرآن وفق معطيات المذهب الذي ينتمي له، فالمذهب الشيعي يتحرك على أساس من الأصول والقواعد المستقرة عند مدرسته، وله الحق في ذلك. وكذلك المدرسة السنية في مذاهبها المتفرقة، تنهج بناءً على الأصول والقواعد التي تم تأسيسها من قبل السلف، لكن المدرسة السنية، باعتبار وجود المذاهب المتعددة فيها، لا في الفقه والفروع فحسب، إنما في العقيدة والأصول، فإن هذا التعدد العقدي والمنهجي في قراءة النصوص لأتباع تلك المذاهب الشقيقة استوجب إسقاطاً مباشراً على استنطاق النصوص القرآنية، فتبلورت انطلاقاً من ذلك وتشكلت «مدرسة الظاهر»، وهو الاتجاه الذي لا يسمح لنفسه أن يسبر غور الآية، إنما يحملها على ما دلت عليه ظاهراً، والحجة في ذلك أن القرآن لا يفهمة إلا من خوطب به، والعرب في زمن الخطاب لا يفهمون من اليد إلا الجارحة مثلاً، وبالتالي فإن لله تعالى يداً جارحة ـ والعياذ بالله ـ وكذا الوجه وغيره.
وللتفسير المذهبي إيجابياته أيضاً، إلا أن عليه الكثير من السلبيات، سواء في المجال الشيعي أم السني. وحَجْر المرء نفسه في قراءة القرآن الكريم على منهج معين، على نحو القسر، يعني أنه استطاع أن يصل إلى فهم ودرك في حدود ما حدد لنفسه، لأن المدارس الأخرى لها عناصرها أيضاً، وفيها شيء من الكمال الذي يُحدث حالة من التوازن، فليس كل نتاج فكري من مدارس لا نتّحد معها في المعتقد، نضعه عليه علامة الخطين المتقاطعين، بل إن العقول تمازجت في كثير من العلوم، كالتفسير والأصول والعقيدة وغيرها، فرشدت الحاضرة الإسلامية وصارت جميع الأطراف تخطب ودّها في جميع النواحي، فكيف أصبحت الناس اليوم بعيدة عنا؟ لأننا غير قادرين على إنتاج المنافس، فنحن في حالة من الانشغال بسفاسف الأمور التي لا تقدم ولا تؤخر، وليس ثمة مصلحة للأمة فيما وراءها.
الاتجاه الأدبي الفني:
وعلى أعتاب هذا التفسير المبني على المسلك الاجتماعي جاء المسلك الأدبي والفني في استنطاق النص، وهذا المسلك قرّب القرآن الكريم من النفوس الرطبة، ذات الأجواء الدافئة البعيدة عن التعقيد. والقرآن الكريم فيه من الجمال العجيب ما لا يُعَدّ ولا يُحدّ، حتى عُبّر عن بعض سوره ـ وهي سورة الرحمن ـ بعروس القرآن، وعن سورة يس بقلب القرآن. ومن خلال هذا المنطلق الذي أساسه الروايات الصادرة عنهم ع تحرك جمعٌ من المفسرين لاستكشاف حالة الجمال التي تعبر عنها الآية أو السورة في جناس واحد. لكن هؤلاء أيضاً لم يسلموا من غائلة بعض أناس، لذلك حوربوا وجوبهوا، ولا زلنا إلى اليوم ـ مع شديد الأسف ـ نعيش هذه الإشكالية.
يقول البعض: إن الاتجاه الأدبي الفني في استنطاق النص، وضع حجر أساسٍ للتفسير «الإلحادي». وأصحاب المسلك الإلحادي في التفسير هم جماعة تحركوا في هذا الاتجاه، وأول من تحرك منهم الفيلسوف الكندي، من أعلام القرن الثالث، وهو لم يكن مفسراً، إلا أنه نقل التفسير، وانتقل إلى مرحلة متقدمة أساء استغلالها في ضرب أصحاب التفسير. وكان مسلكه هو المعارضة للقرآن الكريم، أي معارضة الآية بآية، والنص بنص، وقد تدخّل الإمام الهادي ع ثم أجهز الإمام العسكري ع على تلك الأحدوثة. لذا قيل: إن ثمة تفسيراً إلحادياً بات يبحث عن موقع له، وليس كذلك، إنما هناك حركة إلحادية، وقد نذر الأئمة ع أنفسهم في مواجهتها، وهم سادة العلماء، فلم يُغيّبوا العلم عند الحاجة إليه، وإلا فإن الجميع في تلك الفترة كان صنيعة للسياسة العباسية، إلا أنهم جابهوا ذلك الحراك المشبوه، واستطاعوا أن يصححوا المسار.
مدرسة الإصلاح التفسيري:
ثم جاءت مدرسة الإصلاح في التفسير، وكانت حوزة قم المقدسة من أهم المدارس التي أخذت على عاتقها مسؤولية التصحيح في مسار التفسير، وأنتجت ثلاثة من أمهات الكتب التفسيرية التي عنت بهذا العلم، الذي كاد يُقضى على ثوابته وأسسه، والسند في ذلك أن العقلية عند الفرس منذ قديم الزمان أكثر قابلية للانفتاح على الأغيار من حولها، أما العربي فهو سلبي في هذا الاتجاه، وانطوائي وانهزامي.
وقد يقول قائل: ولكن العرب هم الذين سافروا بالرسالة، نعم، سافروا بها، ولكن عندما ركنوا العروبة في زاوية، وقدموا عليها مبدأ الإسلام، وكان الإسلام يتربع في عقولهم، ويحفز النفسيات، وقد استفادوا من معطيات العرب الذين تقدموا عليهم، في الشجاعة والمروءة والنخوة والكرم والأدب والتضحية، ولكن قبول الطرف الآخر لم يصقله إلا الإسلام الذي جاء به النبي الأكرم محمد ص .
إن مدرسة قم، وبناء على حالة التنوير الموجودة، وجدت أن نصوصاً من التفاسير التي وضعها جمعٌ من أرباب التفسير في مدرسة العامة قد تم نقلها إلى اللغة الفارسية، ودخلت إلى أروقة الحوزة في قم، يوم كانت في عهد النشوء والتطور قبل حوالي ثمانين سنة. ومن هؤلاء الذين وضعوا حجر الأساس لهذا النقل، الشيخ محمد عبدة من مصر، وهو تلميذ السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبدة حصلت عنده نقلة أيضاً بسبب السفر للغرب والرجوع إلى الشرق، وهذا تصديق لقوله تعالى: ﴿ قل سيروا في الأرض ﴾ 8. والسير في الأرض ليس للنزهة والفسحة، أو العظة والعبرة فحسب، إنما لقراءة المشهد حول الإنسان، ليحدث نقلة في داخله أيضاً، ليؤثر في الجميع من حوله.
والإمام محمد عبدة أحد أئمة التفسير المعاصرين عند العامة، وقد وضع تفسيراً تحت عنوان «تفسير المنار» جمعه قسم من تلامذته ، على رأسهم الشيخ محمد رشيد رضا، وقد استفاد الشيخ محمد أمين من السيد جمال الدين الأفغاني، وهو أحد أعلام الطائفة ورموزها وأركانها في الفترة المتأخرة، وأحد أئمة الوحدة بين المسلمين، وانقاد له رعيلٌ من هنا وآخر من هناك، رغم التشكيك في شخصيته والنيل منه من قبل البعض، وهذا يدلنا على أن الكمال والنضج والرشد لا بد أن يحدث مثل هذه الحالة، وهو كاشف عن سوءٍ لدى الطرف الآخر.
ومن أمثال الشيخ محمد عبدة، العلامة المراغي، الذي أحدث نقلة نوعية أيضاً، وهي استكمال لما بدأه الشيخ محمد عبدة. أما سيد قطب، أحد أئمة التفكير الإخواني، وصاحب تفسير «في ظلال القرآن»، فله رسالة خاصة حاول من خلالها أن يقرأ مجموعة من الآيات بناء على المسلك الفني في استنطاق النص. وقد أجهز «رئيس العروبة» جمال عبد الناصر على سيد قطب وتمت تصفيته رغم من توسط له آنذاك.
ورغم أن سيد قطب له في تفسيره شطحات غير مغتفرة تماماً، خصوصاً الجناية على أمير المؤمنين ع في هذا التفسير، ولكن بالمجمل كان تفسيراً نوعياً لا عملاً ارتجالياً، إنما هو عمل إنسان بنى نفسه، بل الأكثر من ذلك أستطيع أن أدعي أن تفسير سيد قطب لو قارنته بما تقدمته من منظومة التفاسير في مدرسة العامة لوجدت بوناً شاسعاً كما بين الأرض والسماء، رغم أنني أحذر من بعض السقطات، بل الجنايات علينا أحياناً.
لقد تابع الشيخ محمد رشيد رضا أستاذَه الشيخ محمد عبدة فوضع «تفسير المنار» في مدرسة العامة، أما في مدرسة الإمامية فهناك الشيخ محمد جواد مغنية «رضوان الله عليه» وهو من المجتهدين المفسرين والمؤرخين وخريج أساتذة كبار، وشكل بذاته الطيبة محور وحدة بين الديانات والمذاهب، لم يسبقه أحد إليه. ولو أنك شاهدت إحدى الصور التي تجمعه مع أرباب الديانات والمذاهب، لشعرت بالنشوة والعز، وهذا هو عطاء مدرسة أهل البيت ع إذا تعاطيناه كما هو.
وهناك أيضاً آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله «رحمه الله» في تفسيره «من وحي القرآن» حيث أكمل مسيرة، وطوّر آليةً بدأها الشيخ محمد جواد مغنية في تفسيره «الكاشف». وقد ضم هذا السيد الجليل الموروث للحديث، ومازج بينهما، بما يحمل من روح أدبية وثقافة واسعة وتأصيل حوزوي نجفي، ومن يشكك فيه من حيث الأسس والقواعد التقليدية في الحوزات العلمية، فليشكك في أساتذته أولاً.
يقول الشهيد الصدر الأول في حق السيد فضل الله: من خرج من النجف خسر النجف، إلا السيد محمد حسين، فقد خسرته النجف. لقد خطى السيد فضل الله رحمه الله خطوة جبارة في التفسير، إلا أننا قرأناه قراءة سوداوية، ولم نحسن قراءته كما ينبغي. أما آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي فقد أضاف بعداً كبيراً لحركة التفسير، وتفسيره اليوم يُترجم إلى اثنتي عشرة لغةً في العالم.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
1 طه: 25 ـ 28.
2 محمد: 24.
3 بحار الأنوار، العلامة المجلسي2: 22.
4 المزار، الشيخ المفيد: 6.
5 وهو إمام هذا الشهر بامتياز، وإن كان لعلي ع في كل يوم بصمة، والتاريخ يساعد على ذلك، ويبقى علي ع أعظم من هذا.
6 مع ملاحظات كثيرة في هذا الموضوع، فهي وإن كانت سنة متبعة، لكن هناك غاية من ورائها لا نريد التعرض لها الآن.
7 وجه التناقض هو أن من يصرف الآية عن مدلولها لحرف الرأي العام سوف يتعرض للاصطدام مع الرأي العام، وهذا يتناقض مع كونه يريد كسبه.