العلم ضروري ونظري
ينقسم العلم بكلا قسميه التصوري والتصديقي إلى قسمين:
1- (الضروري) ويسمى أيضاً (البديهي) وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر، فيحصل بالاضطرار وبالبداهة التي هي المفاجأة والارتجال من دون توقف، كتصورنا لمفهوم الوجود والعدم ومفهوم الشيء وكتصديقنا بأن الكل أعظم من الجزء وبأن النقيضين لا يجتمعان وبأن الشمس طالعة وأن الواحد نصف الاثنين وهكذا...
2- و(النظري) وهو ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر، كتصورنا لحقيقة الروح والكهرباء، وكتصديقنا بأن الأرض ساكنة أو متحركة حول نفسها وحول الشمس ويسمى أيضاً (الكسبي).
(توضيح القسمين): ان بعض الأمور يحصل العلم بها من دون إنعام نظر وفكر فيكفي في حصوله أن تتوجه النفس إلى الشيء بأحد أسباب التوجه الآتية من دون توسط عملية فكرية كما مثلنا، وهذا هو الذي يسمى (بالضروري أو البديهي) سواء أكان تصوراً أم تصديقاً. وبعضها لا يصل الانسان إلى العلم بها بسهولة، بل لابد من إنعام النظر وإجراء عمليات عقلية ومعادلات فكرية كالمعادلات الجبرية، فيتوصل بالمعلومات عنده إلى العلم بهذه الأمور (المجهولات)، ولا يستطيع أن يتصل بالعلم بها رأساً من دون توسيط هذه المعلومات وتنظيمها على وجه صحيح، لينتقل الذهن منها إلى ما كان مجهولاً عنده، كما مثلنا. وهذا هو الذي يسمى (بالنظري أو الكسبي) سواء كان تصوراً أو تصديقاً.
توضيح في الضروري:
قلنا: ان العلم الضروري هو الذي لا يحتاج إلى الفكر وإمعان النظر. وأشرنا إلى أنه لابد من توجه النفس بأحد أسباب التوجه. وهذا ما يحتاج إلى بعض البيان:
فان الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الانسان، لفقد سبب توجه النفس، فلا يجب أن يكون الانسان عالماً بجميع البديهيات، ولا يضر ذلك ببداهة البديهي. ويمكن حصر أسباب التوجه في الأمور التالية:ـ
1- (الانتباه). وهذا السبب ***د في جميع البديهيات، فالغافل قد يخفى عليه أوضح الواضحات.
2- (سلامة الذهن) - وهذا ***د أيضاً، فان من كان سقيم الذهن قد يشك في أظهر الأمور أو لا يفهمه. وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي أو مرض عارض أو تربية فاسدة.
3- (سلامة الحواس)، وهذا خاص بالبديهيات المتوقفة على الحواس الخمس وهي المحسوسات. فان الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيراً من العلم بالمنظورات وكذا الأصم في المسموعات وفاقد الذائقة في المذوقات. وهكذا.
4- (فقدان الشبهة). والشبهة: أن يؤلف الذهن دليلاً فاسداً يناقض بديهة من البديهيات ويغفل عما فيه من المغالطة، فيشك بتلك البديهة أو يعتقد بعدمها. وهذا يحدث كثيراً في العلوم الفلسفية والجدليات. فان من البديهيات عند العقل ان الوجود والعدم نقيضان وان النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولكن بعض المتكلمين دخلت عليه الشبهة في هذه البديهة، فحسب ان الوجود والعدم لهما واسطة وسماها (الحال)، فهما يرتفعان عندها. ولكن مستقيم التفكير إذا حدث له ذلك وعجز عن كشف المغالطة يردها ويقول أنها (شبهة في مقابل البديهة).
5- (عملية غير عقلية)، لكثير من البديهيات، كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب في المتواترات، وكالتجربة في التجربيات، وكسعي الانسان لمشاهدة بلاد أو استماع صوت في المحسوسات... وما إلى ذلك. فإذا احتاج الانسان للعلم بشيء إلى تجربة طويلة، مثلاً، وعناء عملي، فلا يجعله ذلك علماً نظرياً ما دام لا يحتاج إلى الفكر والعملية العقلية.تعريف النظر أو الفكر:
نعرف مما سبق ان النظر - أو الفكر - المقصود منه «إجراء عملية عقلية في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب» والمطلوب هو العلم بالمجهول الغائب. وبتعبير آخر أدق ان الفكر هو:
«حركة العقل بين المعلوم والمجهول».
وتحليل ذلك: أن الانسان إذا واجه بعقله المشكل (المجهول) وعرف انه من أي أنواع المجهولات هو، فزع عقله إلى المعلومات الحاضرة عنده المناسبة لنوع المشكل، وعندئذ يبحث فيها ويتردد بينها بتوجيه النظر إليها، ويسعى إلى تنظيمها في الذهن حتى يؤلف المعلومات التي تصلح لحل المشكل، فإذا استطاع ذلك ووجد ما يؤلفه لتحصيل غرضه تحرك عقله حينئذ منها إلى المطلوب، أعني معرفة المجهول وحل المشكل.فتمر على العقل - إذن - بهذا التحليل خمسة أدوار:
1- مواجهة المشكل (المجهول).
2- معرفة نوع المشكل، فقد يواجه المشكل ولا يعرف نوعه.
3- حركة العقل من المشكل إلى المعلومات المخزونة عنده.
4- حركة العقل - ثانياً - بين المعلومات، للفحص عنها وتأليف ما يناسب المشكل ويصلح لحله.
5- حركة العقل - ثالثاً - من المعلوم الذي استطاع تأليفه مما عنده إلى المطلوب.
وهذه الأدوار الثلاثة الأخيرة أو الحركات الثلاث هي الفكر أو النظر، وهذا معنى حركة العقل بين المعلوم والمجهول. وهذه الأدوار الخمسة قد تمر على الانسان في تفكيره وهو لا يشعر بها، فان الفكر يجتازها غالباً بأسرع من لمح البصر، على أنها لا يخلو منها إنسان في أكثر تفكيرا ته، ولذا قلنا إن الانسان مفطور على التفكير.
نعم من له قوة الحد س يستغني عن الحركتين الأوليين، وإنما ينتقل رأساً بحركة واحدة من المعلومات إلى المجهول. وهذا معنى (الحدس)، فلذلك يكون صاحب الحدس القوي أسرع تلقياً للمعارف والعلوم، بل هو من نوع الإلهام وأول درجاته. ولذلك أيضاً جعلوا القضايا (الحدسيات) من أقسام البديهيات، لأنها تحصل بحركة واحدة مفاجئة من المعلوم إلى المجهول عند مواجهة المشكل، من دون كسب وسعي فكري، فلم يحتج إلى معرفة نوع المشكل ولا إلى الرجوع إلى المعلومات عنده وفحصها وتأليفها.
ولأجل هذا قالوا: ان قضية واحدة قد تكون بديهية عند شخص نظرية عند شخص آخر. وليس ذلك إلا لأن الأول عنده من قوة الحدس ما يستغني به عن النظر والكسب، أي ما يستغني به عن الحركتين الأوليين، دون الشخص الثاني فانه يحتاج إلى هذه الحركات الثلاث لتحصيل المعلوم بعد معرفة نوع المشكل.خلاصة تقسيم العلم: