قلة هم أولئك الذين يتسنّمون قمم الخلود والسمو والعظمة ، وقلة هم أولئك الذين ينفصلون عن آخر الزمان والمكان. ليكونوا ملكاً للحياة والإنسان.
أولئك القلة هم عظماء الحياة ، وأبطال الإنسانية ، ولذلك تبقى مسيرة الحياة ، ومسيرة الإنسان ، مشدودة الخطى نحوهم ، وما أروع الشموخ والسمو والعظمة ، إذا كان شموخاً وسمواً وعظمة ، صنعه إيمان بالله ، وصاغته عقيدة السماء.
من هنا كان الخلود حقيقة حية لرسالات السماء ، ولرسل السماء، ورجالات المبدأ والعقيدة ... وفي دنيا الإسلام ، تاريخ مشرق نابض بالخلود ... وفي دنيا الإسلام، قمم من رجال صنعوا العظمة في تاريخ الإنسانية، وسكبوا النور في دروب البشرية.
وإذا كان للتاريخ أن يقف وقفة إجلال أمام أروع أمثولة للشموخ ... وإذا كان للدنيا أن تكبر لأروع تضحية سجلها تاريخ الفداء ... وإذا كان للإنسانية أن تنحني في خشوع أمام أروع أمثولة للبطولة ... فشموخ الحسين وتضحية الحسين ، وبطولة الحسين ، أروع أمثلة شهدها تاريخ الشموخ والتضحيات والبطولات.
الحسين بن علي (عليه السلام) قمة من قمم الإنسانية الشامخة ، وعملاق من عمالة البطولة والفداء.
فالفكر يتعثر وينهزم ، واليراع يتلكأ ويقف أمام إنسان فذّ كبير كالإمام الحسين ، وأمام وجود هائل من التألق والإشراق ، كوجود الحسين... وأمام إيمان حي نابض ، كإيمان الحسين ... وأمام سمو شامخ عملاق كسمو الحسين ... وأمام حياة زاهرة بالفيض والعطاء كحياة الحسين ..
إننا لا يمكن أن نلج آفاق العظمة عند الإمام الحسين ، إلا بمقدار ما نملك من بعد في القصور، وانكشاف في الرؤية ، وسمو في الروح والذات ... فكلما تصاعدت هذه الأبعاد ، واتسعت هذه الأطر، كلما كان الانفتاح على آفاق العظمة في حياة الإمام الحسين أكثر وضوحاً ، وأبعد عمقاً... فلا يمكن أن نعيش العطاء الحي لفيوضات الحسين ، ولا يمكن أن تغمرنا العبقات النديّة ، والأشذاء الرويّة ، لنسمات الحياة تنساب من أفق الحسين.
ولا يمكن أن تجللنا إشراقات الطهر ، تنسكب من أقباس الحسين .. إلا إذا حطمت عقولنا أسوار الانفلاق على النفس ، وانفلتت من أسر الرؤى الضيقة ، وتسامت أرواحنا إلى عوالم النبل والفضيلة ، وتعالت على الحياة المثقلة بأوضار الفهم المادي الزائف.
فيا من يريد فهم الحسين ، ويا من يريد عطاء الحسين ، ويا من يتعشق نور الحسين ، ويا من يهيم بعلياء الحسين ، افتحوا أمام عقولكم مسارب الانطلاق إلى دنيا الحسين ، اكسحوا من حياتكم أركمة العفن والزيف ، حرّروا أرواحكم من ثقل التيه في الدروب المعتمة ، عند ذلك تنفتح دنيا الحسين ، وعند ذلك تتجلى الرؤية ، وتسمو النظرة ، ويفيض العطاء ، فأعظم بإنسان .. جدّه محمد سيد المرسلين ، وأبوه علي بطل الإسلام الخالد ، وسيد الأوصياء ، وأمه الزهراء فاطمة سيدة نساء العالمين ، وأخوه السبط الحسن ريحانة الرسول ، نسب مشرق وضّاء ، ببيت زكي طهور.
في أفياء هذا البيت العابق بالطهر والقداسة ، ولد سبط محمد (صلى الله عليه وآله) ، وفي ظلاله إشراقة الطهر من مقبس الوحي ، وتمازجت في نفسه روافد الفيض والإشراق ، تلك هي بداية حياة السبط الحسين ، أعظم بها من بداية صنعتها يد محمد وعلي وفاطمة (صلى الله عليهم أجمعين) ، وأعظم به من وليد ، غذاه فيض محمد (صلى الله عليه وآله) وروي نفسه إيمان علي (عليه السلام) ، وصاغ روحه حنو فاطمة (عليها السلام) ، وهكذا كانت بواكير العظمة تجد طريقها إلى حياة الوليد الطاهر ، وهكذا ترتسم درب الخلود في حياة السبط الحسين.
فكانت حياته (عليه السلام) زاخرة بالفيض والعطاء ، وكانت حياته شعلة فرشت النور في درب الحياة ، وشحنة غرست الدفق في قلب الوجود.
الالقاب : المجتبى ، كريم أهل البيت ، السيد ، التقي ، الـطــيب ، الـزكي ، الســـبط الأول ، الـولـي ، الأمين ، الحجة ، البرّ ، الأثير ، الزاهد ، الوزير و...
ولادته الشريفة
في ليلة النصف من رمضان ، كان بيت الرسالة يستقبل وليده الحبيب ، وقد كان ينتظره طويلا.. واستقبله كما تستقبل الزهرة النضرة قطرة شفافة من الندى بعد العطش الطويل . والوليـــد يتشابه كثيراً وجدَّه الرسول العظيم ، ولكنّ جدَّه لم يكن شاهَد ميلاده حتى تُحمل إليه البشرى . فقد كان في رحلة سوف يرجع منها قريباً. وكان أفراد الأسرة ينتظرون باشتياق ، ولا يتحفون الوليد بسنن الولادة ، حتى إذا جاء الرسول صلى الله عليه وآله أسرع إلى بيت فاطمة عليها السلام على عادته في كل مرة عندما كان يدخل المدينة بعد رحلة . وعندما أتاه نبأ الوليد غَمَره الْبُشر ، ثم استدعاه. حتى إذا تناوله أخذ يشمّه ويقبّله ويؤذِّن له ويُقيم ، ويأمر بخرقة بيضاء يلف بها الوليد ، بعدما ينهى عن الثوب الأصفر . ثم ينتظر السماء هل فيها للوليد شيء جديد ، فينزل الوحي ، يقول : إن اسم ابن هارون - خليفة موسى عليه السلام كان شبَّراً.. وعلي منك بمنزلة هارون من موسى فسمِّه حَسَناً ، ذلك أن شُبَّراً يرادف الحسن في العربية . وسار في المدينة اسم الحسن ، كما يسير عبق الورد. وجاء المبشرون يزفون أحر آيات التهاني إلى النبي صلى الله عليه وآله ، ذلك أن الحسـن عليه السلام كان الولد البكر لبيت الرسالة ، يتعلق به أمل الرسول وأصحابه الكرام . فهو مجدد أمر النبي الذي سوف يكون القدوة والأسوة للصالحين من المسلمين .. إنه امتداد رسالة النبي من بعده . وفي الغد يأمر الرسول صلى الله عليه وآله بكبش ، يعق عنه ، فلما يأتون به يجيء بنفسه ليقرأ الدعاء بالمناسبة فيقول : بسم اللـه الرحمن الرحيم اللـهم عظمُها بعظمــــــه ، ولحمُها بلحمه ، ودمُها بدمه ، وشعرُها بشعره ، اللـهمَّ اجعلها وقاءً لمحمد وآلـــه . ثم يأمر بأن يوزع اللحم على الفقراء والمساكين ، لتكون سنّة جارية من بعده ، تَذبح كلّ أسرة ثريَّة كبشاً بكل مناسبة متاحة ، لتكون الثروة موزعة بين الناس ، لا دَولة بين الأغنياء منهم . ثم يأخذه الرسول ذات يوم وقد حضرت عنده لبابة - أم الفضل - زوجة العباس بن عبد المطلب عمِّ النبيِّ فيقول لها : رأيتِ رؤيا ، في أمري .. فتقول : نعم يا رسول اللـه..
فيقول صلى الله عليه وآله : قُصِّيها.
فتقول : رأيت كأن قطعة من جسمك وقع في حضني.
فناولها الرسول صلى الله عليه وآله الرضيع الكريم ، وهو يبتسم ويقول : نعم هذا تأويل رؤياك.
إنه بضعة مني . وهكذا أصبحت أم الفضل مرضعة الحسن عليه السلام.
.. ويشب الوليد في كنف الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، وتحت ظلال الوصي عليه السلام ، وفي رعاية الزهراء عليها السلام ، ليأخذ من نبع الرسالة كلّ معانيها ، ومن ظلال الولاية كلّ قِيَمِها ومن رعاية العصمة كلّ فضائلها ومكارمها. ولايزال النبي والوصي والزهراء عليهم جميعاً صلوات اللـه يُوْلُونه العناية البالغة التي تنمي مؤهلاته.
تولّى الإمام الحسن السبط عليه السلام منصب الإمامة والقيادة بعد استشهاد أبيه المرتضى عليه السلام في الواحد والعشرين من رمضان سنة 40 هجرية وهو في السابعة والثلاثين من عمره المبارك . وقد عاش خلال هذه المرحلة مع جدّه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ما يزيد على سبع سنوات ومع أبيه المرتضى عليه السلام فترة حياته وإمامته البالغة ثلاثين سنة تقريباً. وعاصر خلالها كلاًّ من الخلفاء الثلاثة وشارك بشكل فاعل في ادارة دولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام . واستمر بعد أبيه يحمل مشعل القيادة الربّانية حتى الثامن والعشرين أو السابع من شهر صفر سنة 50 هجرية ، وله يومئذ ثمان وأربعون سنة. اذن تنقسم حياة هذا الإمام العظيم الى شطرين أساسيين :
الشطر الأول : حياته قبل إمامته عليه السلام وينقسم هذا الشطر الى مرحلتين :
المرحلة الاُولى : حياته في عهد جدّه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله
المرحلة الثانية : حياته في عهد أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
الشطر الثاني : حياته بعد استشهاد أبيه عليه السلام وهو عصر امامته عليه السلام . وينقسم هذا الشطر الى مرحلتين متميزتين :
المرحلة الاُولى : وتبدأ من البيعة له بالخلافة حتى الصلح .
المرحلة الثانية : وهي مرحلة ما بعد الصلح حتى استشهاده عليه السلام .
الشطر الإول
المرحلة الاُولى : في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله
ولد الإمام الحسن عليه السلام في حياة جدّه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وعاش في كنفه سبع سنوات وستّة أشهر من عمره الشريف ، وكانت تلك السنوات على قلّتها كافية لأن تجعل منه الصورة المصغّرة عن شخصية الرسول حتى ليصبح جديراً بذلك الوسام العظيم الذي حباه به جدّه ، حينما قال له : «أشبهت خلقي وخلقي» . والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله هو الذي تحمّل مسؤولية هداية ورعاية الاُمّة ، ومسؤولية تبليغ الرسالة وتطبيقها وحماية مستقبلها وذلك بوضع الضمانات التي لا بدّ منها في هذا المجال ، وهو المطّلع ـ عن طريق الوحي ـ على ما ينتظر هذا الوليد الجديد من دور قيادي هامّ ، والمأمور بالإعداد لهذا الدور ، وذلك ببناء شخصية هذا الوليد بناءً فذّاً يتناسب مع المهام الجسام التي تؤهله للاضطلاع بها على صعيد هداية الاُمّة وقيادتها . إن كلمة الرسول صلى الله عليه وآله للإمام الحسن عليه السلام : « أشبهت خَلقي وخُلقي» تعدّ وسام الجدارة والاستحقاق لذلك المنصب الإلهي الذي هو وراثة الرسالة وخلافة النبي صلى الله عليه وآله بعد خلافة وصيه علي بن أبي طالب عليه السلام . وإنّ إحدى مهامّ الرسول صلى الله عليه وآله خلق المناخ الملائم لدى الاُمّة التي يفترض فيها أن لا تستسلم لمحاولات الابتزاز لحقّها المشروع في الاحتفاظ بقيادتها الإلهية ، وأن لا تتأثر بعمليات التمويه والتشويه لطمس الركائز التي تقوم عليها رؤيتها العقائدية والسياسية التي حاول الإسلام تعميقها وترسيخها في ضمير الاُمّة . ومن هنا نعرف الهدف الذي كان يرمي اليه النبىّ صلى الله عليه وآله في تأكيداته المتكررة على ذلك الدور الذي كان ينتظر الإمام الحسن وأخاه عليهما السلام منها قوله صلى الله عليه وآله : «إنّهما إمامان قاما أوقعدا» و «أنتما الإمامان ، ولاُمّكما الشفاعة». وقوله صلى الله عليه وآله للحسين عليه السلام : « أنت سيّد، ابن سيّد، أخو سيّد، وأنت إمام ، ابن إمام ، أخو إمام ، وأنت حجة ، ابن حجة ، أخو حجة ، وأنت أبو حجج تسعة ، تاسعهم قائمهم » . وقوله صلى الله عليه وآله في الإمام الحسن عليه السلام :«هو سيّد شباب أهل الجنة ، وحجة الله على الاُمّة ، أمره أمري ، وقوله قولي ، من تبعه فإنّه منّي ، ومن عصاه فإنّه ليس منّي...». ونلاحظ حرصه على ربط قضاياهما بنفسه ، إذ يقول : « أنا سِلمٌ لِمَن سالمتم ، وحرب لِمَن حاربتم ». وجاء عن أنس بن مالك أنّه قال : دخل الحسن على النبي صلى الله عليه وآله فأردت أن اُميطه عنه ، فقال : « ويحك يا أنس! دع ابني وثمرة فؤادي ، فإنّ من آذى هذا آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ». وكان الرسول صلى الله عليه وآله يُقَبّل الإمام الحسن عليه السلام في فمه ويُقَبّل الإمام الحسين عليه السلام في نحره ، وكأنّه يريد إثارة قضية مهمة ترتبط بسبب استشهادهما عليهما السلام وإعلاماً منه عن تعاطفه معهما ، وتأييده لهما في مواقفهما وقضاياهما . لقد كان الإمام الحسن عليه السلام أحبّ الناس الى النبىّ صلى الله عليه وآله ، بل لقد بلغ من حبّه له ولأخيه أنّه كان يقطع خطبته في المسجد وينزل عن المنبر ليحتضنهما . والكلّ يعلم أنّ الرسول صلى الله عليه وآله لم ينطلق في مواقفه من منطلق الأهواء الشخصية ، والنزعات والعواطف الذاتية ، وإنّما كان ينبّه الاُمّة الى عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع . وإنّ ما ذكر هوالذي يفسّر لنا السرّ في كثرة النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وآله حول الحسنين عليهما السلام مثل قوله صلى الله عليه وآله بالنسبة للإمام الحسن عليه السلام : «اللّهمّ إنّ هذا ابني وأنا أُحبّه فأحبّه وأحبّ من يحبّه»، وقوله صلى الله عليه وآله : « أحبّ أهل بيتي إليّ الحسن والحسين ...».
وفد بعض أساقفة نصارى نجران على النبىّ صلى الله عليه وآله وناظروه في عيسى، فأقام عليهم الحجة فلم يقبلوا، ثم اتفقوا على المباهلة أمام الله على أن يجعلوا لعنة الله الخالدة وعذابه المعجّل على الكاذبين . ولقد سجّل القرآن الكريم هذا الحادث العظيم في تاريخ الرسالة الإسلامية بقوله تعالى : (إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون ، الحقّ من ربِّك فلا تكن من الممترين، فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءناونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ). فلمّا رجعوا الى منازلهم قال رؤساؤهم «السيّد والعاقب والأهتم» : إن باهَلنا بقومه باهلناه، فإنه ليس نبيّاً، وإن باهَلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله، فإنه لا يُقدِم الى أهل بيته إلاّ وهو صادق، فخرج اليهم صلى الله عليه وآله ومعه عليّ وفاطمة والحسنان عليهم السلام فسألوا عنهم، فقيل لهم : هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه علي بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، ففرقوا فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله على الجزية وانصرفوا. ولقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد بأبنائنا : الحسن والحسين.
وقال الزمخشري : وفيه دليل ـ لا شيء أقوى منه ـ على فضل أصحاب الكساء.
حضور الحسنين عليهما السلام بيعة الرضوان :
لقد حضر الحسنان عليهما السلام بيعة الرضوان، واشتركا في البيعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وعرف ذلك عند المؤرّخين .
قال الشيخ المفيد رحمه الله:«وكان من برهان كمالهما عليهما السلام وحجة اختصاص الله تعالى لهما بيعة رسول الله لهما، ولم يبايع صبياً في ظاهر الحال غيرهما».
ومن المعلوم أنّ البيعة تتضمّن إعطاء التزام وتعهّد للطرف الآخر بتحمّل مسؤوليات معينة ترتبط بمستقبل الدعوة والمجتمع الإسلامي، وحمايتهما من كثير من الأخطار التي ربّما يتعرّضان لها، ومعنى ذلك أنّ النبىّ صلى الله عليه وآله قد رأى في الحسنين عليهما السلام ـ على صغر سنهما ـ أهلية وقابلية لتحمّل تلك المسؤوليات الجسام، والوفاء بالالتزامات التي أخذا على عاتقهما الوفاء بها.
الحسن والحسين إمامان :
روي عن النبىّ صلى الله عليه وآله أنّه قال:«الحسن والحسين إمامان قاما أوقعدا». رغم أنّه لم يكن عمرهما حينئذ قد تجاوز الخمس سنوات، وبذا يكون للحديث أهميته وعمق دلالته في معناه، ونجد الإمام الحسن عليه السلام يستدلّ بهذا القول على من يعترض عليه في صلحه مع معاوية.
المرحلة الثانية:في عهد ابيه عليه السلام
لقد تميز دور الإمام السبط عليه السلام في عهد ابيه عليه السلام وفي ايام خلافته على وجه التحقيق بالخضوع التام لابيه قدوة واماما وقد كان يتعامل معه لا كأبن له فحسب, وانما كجندي مطيع, بكل ما تحمله كلمة الجندية من مضامين الطاعة والانضباط, الواعية المدركة لمسؤولياتها. ومن اجل لك فقد كان دور الإمام السبط عليه السلام طوال الايام الحاسمة التي عايشها والده الإمام علي عليه السلام يتجلى في تجسيد مفهوم الانقياد لامامه وملهمه عليه السلام. وهذه بعض مهامه في هذا الشوط من حياته:
أ- عندما تعرض معسكر الإمام علي عليه السلام إلى العدوان على اثر تمرد طلحة والزبير في البصرة, وقيام حركة البغاة في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان... احتاج الإمام عليه السلام إلى اسناد جماهير الكوفة للذود عن الحق, واخماد الفتنة التي اججها روادها, وقد اختار الإمام علي عليه السلام نجله الحسن عليه السلام هذه المهمة... لشحذ همم أهل الكوفة وحملهم على دعم الموقف الإسلامي الاصيل, الذي يمثله علي عليه السلام , فاستجاب الإمام الحسن عليه السلام لطلب ابيه وغادر إلى الكوفة بصحبة عمار بن ياسر, وهويحمل كتاب علي عليه السلام إلى أبي موسى الاشعري عامله على الكوفة يبلغه فيه باستغنائه عن خدماته, بسبب تحريضه الناس على القعود عن نصرة علي عليه السلام وعدوله عن الحق المبين. وما ان بلغ السبط عليه السلام الكوفة إلا وانهالت عليه الجموع معلنة الولاء والنصرة, فألقى فيهم خطابا ايقظ من خلاله الهمم, وبعث النشاط وحفز النفوس على حمل راية الجهاد. وقد نجح الإمام السبط عليه السلام في استنفار الجماهير لنصرة الحق, والذود عن الرسالة, ودولتها الكريمة. ب- انتهت معركة الجمل في البصرة وسرعان ما تحركت قوى أهل الشام بقيادة معاوية حتى اخذت مواقعها في صفين احيط علي عليه السلام بنبأ تحرك الحزب الاموي, فأطلع جنده على الامر واستشارهم فيه, فأظهروا الطاعة والإنقياد لأمير المؤمنين عليه السلام , وفي الاثناء وقف الإمام الحسن عليه السلام خطيبا بين الجماهير موقظا للهمم باعثا العزم والنشاط في النفوس: ( الحمد لله لا اله غيره وحده لا شريك له واثني عليه بما هو اهله... انا مما عظم لله عليكم من حقه واسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ولا يؤدي شكره, ولا يبلغه صفة ولا قول, ونحن انما غضبنا لله ,فإنه منّ علينا بما هو اهله ان نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه قولا يصعد إلى الله فيه الرضا, وتنتشر فيه عارفة الصدق, يصدق الله في قولنا, ونستوجب فيه المزيد من ربنا, قولاً يزيد ولا يبيد, فانه لم يجتمع قوم قط على امر واحد الا اشتد امرهم واستحكمت عقدتهم فاحتشدوا في قتال عدوكم: معاوية وجنوده فإنه قد حضر, ولا تخاذلوا فإن الخذلان يقطع نياط القلب, وان الاقدام على الاسنة نجدة وعصمة لانه لم يمتنع قوم قط الا رفع الله عنهم العلة وكفاهم جوائح الذلة وهداهم إلى معالم الملة...).
وهكذا انصب بيان الإمام السبط عليه السلام على توثيق اواصر الوحدة ورص الصفوف وجمع الكلمة لمواجهة الحزب الذي يقوده معاوية وحفنة من النفعيين.
بدأ الشوط الثاني من دور الإمام عليه السلام في دنيا الإسلام بعهد ابيه له بالامامة, فعلى اثر تعرضه للاعتداء الاثيم الذي ارتكبه ابن ملجم وآخرون, اوصى الإمام الراحل عليه السلام إلى ولده الحسن عليه السلام بقوله: (... يابني, إنه أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله ان اوصي اليك وادفع اليك كتبي وسلاحي, كما اوصى اليَّ ودفع اليَّ كتبه وسلاحه, وامرني ان آمرك اذا حضرك الموت ان تدفعها إلى اخيك الحسين عليه السلام...) ثم اقبل على ابنه الحسين عليه السلام فقال وامرك رسول الله صلى الله عليه وآله ان تدفعها إلى ابنك هذا) ثم اخذ بيد علي بن الحسين عليه السلام وقال له: (وامرك رسول الله ان تدفعها إلى ابنك محمد ابن علي, فأقرئه من رسول الله ومني السلام). ثم اشهد على وصيته تلك الحسين عليه السلام ومحمد ابنه, وجميع اولاده ورؤساء شيعته واقطابهم. على ان آخر ايام الإمام علي عليه السلام قد طفحت بالعديد من الوصايا التوجيهية, ومن اجل اقامة الحق والتزام جانبه, وكان اغلبها ينصب على اولاده ويخص منهم الإمام الحسن عليه السلام, بالذات تأكيد لخلافته له وامامته بعده... وبعد رحيل الإمام علي عليه السلام إلى الرفيق الاعلى هبت الكوفة إلى المسجد فزعة مذهولة لهول المصاب الأليم, فوقف السبط عليه السلام بين تلك الكتل البشرية الهائلة, يوجه اول بيان له بعد رحيل القائد العظيم عليه السلام: (... لقد قبض في هذه الليل رجل لم يسبقه الاولون بعمل , ولم يدركه الآخرون بعمل, لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله فيقيه بنفسه,وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله, لا يرجع حتى يفتح الله على يديه, ولقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى ابن مريم عليه السلام وقبض فيها يوشع بن نون وصي موسى عليه السلام وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه). الى هنا توقف الإمام الحسن عليه السلام عن الاسترسال بخطبته حيث ارسل دموعه مدراراً, بعد ان تمثلت له صورة الراحل العظيم عليه السلام واعماله ومواقفه الخالدة. وشاركه الحاضرون في البكاء... ثم استأنف بيانه قائلا: (ايها الناس, من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني, فأنا الحسن بن علي, انا ابن النبي صلى الله عليه وآله, وانا ابن الوصي, وانا ابن البشير النذير, وانا ابن الداعي إلى الله بإذنه, وانا ابن السراج المنير, وانا من أهل البيت عليه السلام الذي كان جبريل ينزل الينا, ويصعد من عندنا, ومن أهل البيت عليهم السلام الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, وانا من أهل بيت افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله : ( قل لا أسألكم عليه اجرا إلا المودة في القربى, ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت عليه السلام. وبهذا طرح الإمام السبط عليه السلام مواصفات القائد الراحل عليه السلام كما طرح مؤهلاته هو, ومكانته في دنيا الإسلام والمسلمين, وكونه الأوْلى بقيادة سفينة المسلمين إلى حيث الحق الالهي, دون سواه من البشر.
المرحلة الثانية: من الصلح حتى استشهاده
هذه اهم الأحداث الأليمة التي ألمت بالإمام السبط عبر مواجهته للزحف الأموي الغادر:
خيانة قائده على خط النار ـ عبيد الله بن العباس ـ والتحاقه بمعاوية، ومعه ثلثا الطليعة التي كلفت بمواجهة العدو الزاحف مما أثار موجةً من البلبلة والاضطراب في معسكر الإمام عليه السلام وهواحرج ساعاته.
ان القوات العسكرية التي يقودها الإمام السبط عليه السلام ذاته، كانت تتوزعها الشعارات والأهواء والمصالح والأفكار.
إغداق معاوية بالأموال الوفيره على زعماء القبائل وأصحاب التأثير في المجتمع العراقي بسخاء منقطع النظير.
اهتمام السبط بحقن دماء الأمة وحفظ دماء المخلصين فيها على وجه الخصوص.
قوة العدو، وتمتع جيشه بروح انضباطية عالية، بالنظر لتوفر عامل الطاعة، واختفاء التخريب بين صفوفه، خلافا للعراق الذي استبد به الانشقاق من خلال الشعارات، والأفكار والأهواء، والمصالح المتضاربة، التي تمزق جيش الإمام عليه السلام وتضعف من مقاومته.
تمتع الحسن عليه السلام بروح ايمانية من الطراز الاول – كما رأينا في ابعاد شخصيته – فهوالمطهر من الرجس بصريح القرآن الكريم, وهو احد اركان العترة المباركة, بصريح قول رسول الله صلى الله عليه وآله فيه, فكان ينأى عن المكر والغدر.
فكانت هذه الروح المتعلقة بالله تعالى, والمستلهمة منه ومن شرعه الكريم اين تسير والى اين تسير, تُحتِّم على السبط عليه السلام ان لا يتورط في حرب تسيل بها الدماء وتزهق فيها الارواح فضلا عن ان شروط النجاح فيها –بالمفهوم الإسلامي- غير متوافرة بحال, كما رأينا في الوضع العام لأتباعه وجنده, وهذا مخالف لواقع معاوية الذي يهمه ان تسيل الدماء وتزهق النفوس, مادامت الغاية لديه ان يظل حاكما على المسلمين, تجبى له الاموال, ويتلذذ بالنعيم الدنيوي والسلطان الزائل وقصر الخضراء.. وحين رأى الإمام إستقطاب معاوية للناس اراد ان يكشف للناس حقيقة معاوية عن كثب, الأمر الذي يتم إذا انفرد معاوية بالحكم وأستأثر بإدارة شؤون الأُمة, لترى الأُمة طبيعة هذا الحكم وتكتشف البون الشاسع بينه وبين صورة التطبيق المثالية ايام امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وليتحمل الذين اطاعوا معاوية ورفعوه على الأعناق مسؤولية هذه المأساة التاريخية التي خسرت فيها الأُمة قيادة أهل البيت عليهم السلام وإمامتهم الرائدة... لا في فترة وجودهم المبارك بل استمرت آثاره السلبية تتوالى على الامة جيلا بعد جيل حتى اصبح منهج الإسلام المقدر له ان يسود وان يحكم.. تراثا تاريخيا في بطون الكتب.
محاولات الاغتيال الاثيمة التي تعرض لها الإمام عليه السلام:
فلقد تعرض الإمام لمحاولات اثيمة لاغتياله عدَّ منها المؤرخون ثلاثا:
احداها: حين رماه شخص بسهم وهو يصلي فلم يفلح في ايذائه.
ثانيها: حين طعنه رجل في خنجر اثناء الصلاة.
وثالثها: في المحاولة الثالثة كانت نجاته باعجوبة, فقد هجمت عليه عصابة من الغوغاء, وانتهبوا فسطاطه, واخذوا مصلاه من تحته وفي تلك الاثناء هجم عليه الجراح بن سنان الاسدي وطعنه بمغوله –سيف دقيق- في فخذه وجرحه جرحا بالغا, بلغ عظم الفخذ, فاستسلم الإمام عليه السلام للفراش بعد تلك المحاولة ونزل عند عامله على المدائن سعد بن مسعود الثقفي للعلاج..
سلاح الدعاية الواسعة الذي استخدمه معاوية لبلبلة وتشويش ذهنية المجتمع العراقي, فكان جواسيسه وانصاره يثيرون الدعايات المغرضة بين الحين والآخر وكانت الغوغاء تنفعل بها, وتتصرف وفقا للأغراض التي اثيرت من اجلها, فعلى سبيل المثال نذكر منها:
أ- اشاعتهم ان الحسن عليه السلام يكاتب معاوية على الصلح.
ب- إشاعتهم أن قيس بن سعد قد استسلم لمعاوية.
ج- وكانت أقوى اشاعتهم يوم جاء الوفد الأموي يطلب الصلح من الإمام عليه السلام , وعندما رفض الإمام عليه السلام مطالب معاوية, خرج الوفد المفاوض وأشاع في الناس أن الحسن عليه السلام قد أجاب إلى الصلح, فحقن الله به الدماء, وكان لتلك الإشاعة دور فعال في إثارة الغوغاء على السبط عليه السلام حيث هجموا على فسطاطه واعتدوا عليه.. منددين بالصلح المزعوم, مع تقاعسهم عن الدفاع والقتال.
رواج دعوة معاوية للصلح بين صفوف جيش الإمام قبل قبولها من قبل الإمام الحسن عليه السلام , حيث وجدت تلك الدعوة هوى في النفوس المهزومة في معسكر الإمام عليه السلام , فقد رحب بها انصار معاوية ابتداءً وروجوا لها ثم سرت في نفوس اكثر الجيش الذي يقوده الإمام عليه السلام مما جعل الإمام يقبلها كأمر واقع.
لقد وجد الامة سواء من حوله أوحول معاوية في غفلة عن واقعها المنحرف وفي سكوت مطبق عن احقاق الحق وازهاق الباطل, فأراد الإمام عليه السلام ان يكشف زيف دعاة الفتنة ومدى تنكبهم عن الصراط المستقيم وجحودهم للعهود والمواثيق وتلهفهم للسلطة والسيطرة ...ليكون ذلك كله تعرية لما آل اليه الحكم, وتوطئة لثورة الإمام أبي الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام .
هذه قارئنا العزيز اهم المبررات والعوامل التي فرضت على الإمام الحق عليه السلام ان يستجيب للوثيقة التي املتها عليه الظروف, أرايت لوان حاكما أوقائدا في التاريخ واجه بعض ما واجهه الإمام عليه السلام أيسلك غير هذا السبيل؟ فإن المواجهة, بعد الذي رأيت تعد ضربا من اللامعقول, لا يقدم عليه انسان عادي, فكيف يمارسها رجل عظيم كالحسن بن علي عليه السلام ؟.. ولربما ذهب البعض إلى القول ان الأجدر بالحسن عليه السلام أن يضحي من أجل حقه, ولكن الحسن عليه السلام لوقاتل لقُتل وجميع أهل بيته, ولمارست السياسة المنحرفة دورها في اطفاء نور الإسلام إلى الابد ولما وجد بعد ذلك من يفرق بين الحق والباطل ولما ادركت الامة –كما ادركت بعد حين- اي تسلط كان عليها, واية سياسة عبودية انقادت اليها... ان حرص الإمام عليه السلام على الهدى والحق جعله يختار التوقيع على الوثيقة ليمارس بعد ذلك دوره في بيان الشريعة واحكامها وابعادها لأمة محمد صلى الله عليه وآله, فيما تبقى من حياته.
وهذه اهم بنود الوثيقة التي ابرمها الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية:
اولا- ان يتولى ادارة شؤون الامة معاوية بن أبي سفيان, شريطة ان يلتزم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله .
ثانيا- ان يتولى الإمام الحسن عليه السلام مهام القيادة في الامة بعد وفاة معاوية, فان كان اجل الحسن عليه السلام قد حل حينئذ فالحسين عليه السلام يتولى الامر.
ثالثا- ان يمنح الناس حق التمتع بالحرية والاستقرار سواء أكانوا عربا ام غير عرب من أهل الشام ام من أهل العراق وان لا يؤاخذوا على مواقفهم السابقة من الحكم الاموي.
ولعل في ردوده التالية على المعترضين على الوثيقة خير توضيح لأهمية مواقفه هذه في دنيا المسلمين: قال عليه السلام لبشير الهمداني عندما لامه على الصلح:
(لست مذلا للمؤمنين ولكن معزهم, ما اردت بمصالحتي الا ان ادفع عنكم القتل عندما رأيت تباطؤا اصحابي ونكولهم عن القتال) حيث كان المعترض اول المرتعدين من القتال.
وقال عليه السلام لمالك بن ضمرة عندما كلمه بشأن الوثيقة مع معاوية:
(اني خشيت ان يجتث المسلمون عن وجه الارض, فأردت ان يكون للدين داع).
وقال عليه السلام مخاطبا ابا سعيد:
(يا ابا سعيد علة مصالحتي لمعاوية, علة مصالحة رسول الله صلى الله عليه وآله لبني ضمرة, وبني اشجع ولاهل مكة حين انصرف من الحديبية).
ولأهمية الوثيقة وآثارها الايجابية لصالح الإسلام والمسلمين اشار الإمام محمد الباقر عليه السلام بقوله: ( والله للذي صنعه الحسن بن علي عليهما السلام كان خيرا لهذه الامة مما طلعت عليه الشمس..)
ذلك لان القائد الحكيم مع انه يعتد بالواقع الموضوعي عندما يتخذ موقفا ما ازاء الاحداث الا انه يرى ببصيرته وفكره ما لا يراه الكثير ممن يعاصرونه... الا بعد حين. وهذا ما وقع للامام عليه السلام .
ما بعد الصلح
صار بمقدور الإمام الحسن عليه السلام ورجال الفكر الإسلامي الذين تخرجوا في مدرسته ان يوجدوا امة واعية سياسيا ومعارضة للحكم الاموي فكرا واسلوبا ومسارا, وان تبقى هذه الامة تناقح وتكافح عن الحق الإسلامي عبر الاجيال على ان اجهزة الحكم الاموي لم يكن خافيا عليها ذلك النشاط الاسلامي الفتي، فكانت تحسب حسابه، وتدرك نتائجه. ومن اجل ذلك عقد اقطاب السياسة المنحرفة اجتماعاً لهم للتداول في ذلك الشأن وهم بالاضافة إلى معاوية, عمروبن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط وعتبة بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة. ومما جاء في حديثهم لمعاوية: (ان الحسن عليه السلام قد احيا اباه وذكره قال: فصدق, وامر فاُطيع وخفقت له النعال وان ذلك لرافعه إلى ما هو اعظم منه, ولا يزال يبلغنا عنه ما يسئ الينا...). وهذا الحديث على وجازته يعتبر أخطر تقرير يقدمه أقطاب البيت الأموي, وقادته إلى زعيمهم معاوية حول نشاط الإمام السبط عليه السلام ... فقولهم(خفقت النعال خلفه) هو تعبير دقيق يدل على ان الحسن عليه السلام قد أعدّ اُمة من الناس يسيرون خلفه ويجتمعون به ويخطط لهم ويثقفهم ويوضح لهم معالم الطريق وطبيعة المواقف وحقيقة الإسلام وقواعد حكمه العادل... ولقد نمت حركة الإمام السبط عليه السلام حتى بلغ به الحال ان يغادر إلى دمشق عاصمة الحكم الاموي ويناقش معاوية ويبين له شطحات الحكم وألاعيبه واسفاف القائمين عليه ونأيهم عن الخط الإسلامي الأصيل, بشكل ادت فيه مناظرته هناك إلى كسب المؤيدين والانصار إلى أهل البيت عليهم السلام . بيد ان التحرك الجديد للامام عليه السلام والمهمة التاريخية الجديدة التي نهض بأعبائها للحفاظ على مسار الخط الإسلامي السليم في دنيا الناس جعل الحكم الاموي يفقد صوابه وينتهج سياسة معادية للقضاء على الإمام عليه السلام وقيادته الإسلامية. وكان اهم ركائز تلك السياسة المعادية للامام واتباعه:
اولا- مطاردة القيادات المؤمنة في كل قطر إسلامي وقتل الكثير والكثير منهم كحجر بن عدي واصحابه ورشيد الهجري وعمروبن الحمق الخزاعي, وامثالهم... والتنكيل بهم حيثما كانوا.
ثانيا- التضييق على عموم شيعة علي عليه السلام بالكبت والترويع والتشريد وقطع الارزاق والارهاب وهدم دور ومساكن البعض وسوى ذلك..
ثالثا- الاستعانة ببعض الوعاظ والمحترفين الموالين للسلطة.. لتشويه سيرة أهل البيت عليهم السلام والامام علي عليه السلام على وجه الخصوص وسبّه على المنابر إلى جانب تلفيق الأحاديث لصالح معاوية وحزبه.. وطرح معتقدات باطلة ونسبتها إلى شيعة أهل بيت النبوة عليهم السلام .
رابعا- بذل الاموال بلا حساب للزعماء والقيادات القبلية التي يخشى من تحركها فعلى سبيل المثال نذكر: مالك بين هبيرة السكوني الذي هاله ما نزل بحجر بن عدي وأصحابه فراح يخطط لإعلان التمرد المسلح على الحكم الأموي فما كان من معاوية إلا ونقض همته بمائه الف درهم, بعثها اليه, فطابت بنفسه وتخلى عما عزم عليه وهكذا سواه.. كما قال احد الشعراء:
فلسان ينوشكم بالدنانير يقطع
وضمير يهزكم بالكراسي يزعزع
خامسا- وكان آخر بنود تلك السياسة الجائرة اغتيال الإمام الحسن عليه السلام بالسم, حيث دسه معاوية اليه من خلال زوجة الإمام (جعدة بنت الاشعث).
استشهاد الإمام المجتبى
تؤكد الروايات أن الحسن توفي مسموماً، سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بإغراء من معاوية بن أبي سفيان، لما عزم على البيعة ليزيد ولم يكن شيء اثقل عليه من الحسن بن علي عليه السلام، وبعد أن وعد جعدة بتزويجها بولده يزيد، وبأن يدفع لها مائة ألف درهم. ولكن معاوية بعد تنفيذ هذه الخطة أعطاها المال، ولم يف لها بتزويجها بولده، قائلاً: إنا نحب حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه.
وقد قال الإمام الصادق كما رواه الكليني في الكافي:
(إن الأشعث بن قيس شريك في دم أمير المؤمنين، وابنته جعدة سمت الحسن، وابنه محمد شريك في دم الحسين.
وجعدة هذه عريقة بالخيانة، ويكفي أن يكون أبوها الأشعث بن قيس أحد أبطال المؤامرة لاغتيال أمير المؤمنين عليه السلام. وقد كان مداهناً مع معاوية يوم صفين، فهو الذي أصر على وقف القتال عند رفع المصاحف يوم صفين، ولولاه لما كان يوم التحكيم، ولا كان أبوموسى الأشعري حكماً عن العراق. بل كل فسادٍ كان في خلافة علي وكل اضطراب حدث فأصله الأشعث. ويكفي دلالة على ذلك أنه كان إحدى الثلاثة اللاتي تمنى الخليفة أبوبكر عند احتضاره أن يكون قد فعلهن حيث قال: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أضرب عنقه، فإنه يخيل إليّ أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه.
وكان الأشعث قد ارتد عن الإسلام، وأُسر بعد ذلك، ولكن أبا بكر عفا عنه، وزوجَّه أخته أم فروة.
وقد اعتل الإمام الحسن عليه السلام بعد أن سقته جعدة بنت الأشعث أكثر من شهر وكان خلال هذه الفترة لا يكف عن أداء رسالته فكان عليه السلام يجمع أصحابه ويوصيهم ويعلمهم بالرغم من أن السم أخذ يمزق أحشاءه.
وقال عليه السلام: (سقيت السم مرتين وهذه الثالثة) وفي رواية عبد الله البخاري أن الحسن قال (يا أخي إني مفارقك ولاحق بربي وقد سقيت السم ورميت بكبدي في الطشت وأنني لعارف بمن سقاني ومن أين دهيت وأنا أخاصمه إلى الله عز وجل).
فقال له الحسين عليه السلام: ومن سقاكه.
قال عليه السلام: وما تريد به، أتريد أن تقتله. إن يكن هو فالله أشد نقمة منك وإن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء).
وبعد أن أوصى أخوته وأبناءه وأهله وصحبه ولم يترك شاردة ولا واردة إلا وذكرها لهم وذكَّرهم بها. وبعد أن أوصى لأخيه الحسين عليه السلام من بعده وسلَّمه وصيته وسلاحه وكتابه كما أوصاه أبوه أمير المؤمنين عليه السلام من قبل.
مكان الدفن
توفي الإمام الحسن مسموماً بالمدينة في شهر صفر سنة 50 للهجرة ودفن بالبقيع المقبرة العامة بعد أن كان أوصى أخاه الحسين عليه السلام بأن يدفنه إلى جنب جده النبي صلى الله عليه وآله، وإن حيل بينه وبين ذلك فيدفنه بالبقيع، وأن لا يريق في أمره دماً. وعندما أراد الحسين عليه السلام دفنه بجنب جده صلى الله عليه وآله، تجمع بنوأمية وأنصارهم وعلى رأسهم مروان بن الحكم، ومنعوه من ذلك، وكادت الفتنة أن تقع بينهم وبين بني هاشم الذين أصروا على دفنه مع جده، وشهر الفريقان السلاح، وأخذ مروان يثير الفتنة ويقول متمثلاً:
يا رب هيجا
هي خير من دعة
أي أيدفن عثمان في أقصى المدينة، ويدفن الحسن عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله لا يكون ذلك أبداً، وأنا احمل السيف.
ولكن الإمام الحسين عليه السلام قطع النزاع وقضى على الفتنة، ونفذ وصية أخيه ودفنه بالبقيع.
وكان عمره يوم وفاته ثمان وأربعين سنة وقيل ست وأربعين سنة.
فسلام عليه يوم ولد ويوم عاش من الإسلام وبه وإليه ويوم جاهد وكافح من أجل إعلاء كلمته وبنى صروحه الشامخة عالية ورفع رايته خفاقة مشرقة، ويوم مات شهيداً ويا لها من شهادة مشرقة تعطر بها التاريخ واكتسى بها أروع حلله.
`~'*¤!||!¤*'~`((ألوان من العطر الطاهر..الملامح الشخصيه))`~'*¤!||!¤*'~`
السبط (ع) في الكتاب والسنة
للحسن السبط عليه السلام كما لسائر أهل البيت عليهم السلام , مكانة عظمى في كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وآله .
فهذا القرآن الكريم , دستور الأُمة ومعجزة الاسلام الخالدة يحمل بين طياته الآيات البينات التي تنطق بمكانة الحسن عليه السلام واهل البيت عند الله تعالى ورسالته . منها :
1ـ آية التطهير : (انما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). (الاحزاب-33)
فقد ورد في سبب نزولها ان النبي صلى الله عليه وآله دعا بعباءة خيبرية , وجلّل بها علياً عليه السلام وفاطمة وحسنا وحسينا , ثم قال : (اللهم ان هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا). فنزلت آية التطهير , استجابة لدعاء المصطفى محمد صلى الله عليه وآله . وهكذا تحمل الآية الكريمة شهادة الله تعالى بطهارة أهل البيت عليه السلام ونأيهم عن الرجس , وكونهم الاسلام الحي المتحرك .
2ـ آية المباهلة : (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) . (آل عمران – 61)
ففي اسباب نزول هذه الآية الكريمة قال المفسرون وأولوا العلم القرآني إنها نزلت عندما اتفق نصارى نجران مع رسول الله صلى الله عليه وآله ان يبتهل كلا الطرفين إلى الله تعالى , ان يهلك من كان على الباطل في دعوته واعتقاده , وخرج الرسول صلى الله عليه وآله بأهل بيته : علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين , دون سواهم من البشر للمباهلة , وحين راى النصارى الوجوه الزكية التي خرج بها الرسول صلى الله عليه وآله لمباهلتهم اعتذروا للرسول صلى الله عليه وآله عن مباهلته واذعنوا لسلطان دولته بدفعهم الجزية ... وانت ترى ان الآية الكريمة عبرت عن الحسنين عليهما السلام بالابناء , وعن محمد وعلي بأنفسنا , أما فاطمة عليها السلام , فقد مثلت نساء المسلمين جميعا في ذلك , كما وردت بلفظ(نساءنا) الامر الذي يشير بصراحة إلى ما يحظى به أهل بيت الرسالة عليهم السلام من مقام كريم عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله .
2ـ آية المودة : ( .. قُل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى) . (الشورى – 23) .
قال المفسرون ان الآية نزلت في علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ففي الصحيحين ومسند احمد بن حنبل وتفسير الثعلبي , عن أبي عباس : قال لما نزلت : قل لا أسألكم عليه اجرا إلا المودة في القربى . قالوا : يا رسول الله سل الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وإبناهما.
واذ نكتفي بهذا القدر اليسير من الايات , تؤكد مكانة الحسن السبط عليه السلام واهل البيت عليهم السلام جميعا عند الله تعالى يحسن بنا ان نشير إلى بعض النصوص التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله بشأن الحسن عليه السلام ومكانته الرفيعة في دنيا الرسالة الاسلامية , ورسولها القائد صلى الله عليه وآله :
روي البخاري ومسلم عن البراء قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله والحسن بن علي عليهما السلام على عاتقه, وهو يقول : (اللهم اني احبه فأحبه).
روي الترمذي عن ابن عباس انه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله حاملا الحسن بن علي عليهما السلام , فقال رجل نعم المركب ركبت يا غلام , فقال النبي صلى الله عليه وآله : ونعم الراكب هو .
عن الحافظ أبي نعيم عن أبي بكر قال : كان النبي صلى الله عليه وآله يصلي بنا فيجيء الحسن عليه السلام وهو ساجد , وهو اذ ذاك صغير فيحل على ظهره ومرة على رقبته , فيرفعه النبي صلى الله عليه وآله رفعا رقيقا , فاذا فرغ من الصلاة , قالوا : يا رسول الله انك تصنع بهذا الصبي شيئا لا تصنعه بأحد؟ فقال صلى الله عليه وآله : (إن هذا ريحانتي).
عن انس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله : ايّ أهل بيتك احب اليك؟ قال : (الحسن والحسين) .
وعن عائشة قالت : ان النبي صلى الله عليه وآله كان يأخذ حسناً فيضمه اليه ثم يقول : ( الله ان هذا ابني, وأنا احبه, فأحبه واحب من يحبه).
وعن جابر بن عبد الله , قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( من سره ان ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر الحسن بن علي) .
عن يعلي بن مرة قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وقد دعينا إلى طعام فإذا الحسن عليه السلام يلعب في الطريق فأسرع النبي صلى الله عليه وآله امام القوم ثم بسط يده فجعل يمر مرة هاهنا , ومرة هاهنا يضاحكه حتى أخذه فجعل احدى يديه في رقبته والاخرى على رأسه ثم اعتنقه فقبله , ثم قال : حسن مني وانا منه احب الله من احبه .
وعن الغزالي في الاحياء ان النبي صلى الله عليه وآله قال للحسن: اشبهت خلقي وخلقي .
هذا غيض من فيض , ومن شاء الاستزادة فليراجع ينابيع المودة للقندوزي الحنفي , والفضائل الخمسة من الصحاح الستة للفيروز آبادي. ومسند احمد بن حنبل , وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي وغيرها.
وهكذا تتجلى مكانة الحسن السبط عليه السلام في دنيا الاسلام , من خلال الكتاب العزيز والسنة الشريفة ...
`~'*¤!||!¤*'~`((ألوان من العطرالطاهر..الملامح الشخصيه))`~'*¤!||!¤*'~`
اوصاف الامام المجتبى(عليه السلام)
كان سلام الله عليه أشبه الناس من رأسه إلى صدره بجدّه رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن أحد في زمانه أشبه بالنبي صلى الله عليه وآله منه، وكان وجهه الشريف أبيض مشربا حمرة، أدعج العينين بمعني سوادهما مع سعتهما، وسهل الخدين بمعنى ملاسمتهما وعدم حزونتهما، رقيق الوجه، كث اللحية، ذا وفرة كأنَّ عنقه ابريق فضة، عظيم الكراديس(وهما عظمان ألتقيا في المفصل بعيد ما بين المنكبين) وربعة(وهوالرجل المتوسط الذي ليس بالطويل ولا القصير) بخلاف ابيه أمير المؤمنين عليه السلام فإنه الى القصر أقرب منه الى الطول.
والحاصل ان الحسن عليه السلام كان مليحا جدا، بل من أحسن الناس وجها، وكان حسن البدن، جعد الشعر، يختصب بالسواد، والخلاصة انه عليه السلام كان مضرب المثل في الحسن والجمال، حتى قيلت في حسنه روايات كثيرة.