بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هزَّاتٌ تمتحن صمود الإيمان:
جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى:
﴿ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت/ 1- 3)
الإيمان قناعةٌ راسخةٌ في العقل، وعواطف صادقةٌ في القلب، وحركة مستقيمة في السلوك...
وليس الإيمان مجرد كلمة تُطلق، فما أكثر الذين يُطلقون هذه الكلمة، ولكنَّهم يسقطون أمام التحدِّيات، والابتلاءات والامتحانات...
فحينما تواجه قناعاتهم العقليَّة شبهات عقيديَّة أو فكريَّة أو ثقافيَّة تهتز هذه القناعات...
وحينما تواجه عواطف الإيمان في داخلهم، نوازع ذاتية وانفعالات تصادم الإيمان، فإنَّ تلك العواطف الإيمانية تنهار وتسقط، وتُسيطر عليهم الأنانياتُ والأهواءُ والشهوات...
وحينما يواجه التزامهم العملي ضغوط، وتحدِّيات، ومصالح ذاتية، وإغراءات، ومساومات، فإنَّ التزامهم السلوكي يتهاوى ويتراجع وينحرف...
فالابتلاءُ بكلِّ أشكاله الذهنيَّة والعاطفيَّة والسلوكيَّة هو امتحانٌ للإيمان..
·﴿الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾. (العنكبوت/ 2)
ليس الإيمان نزهة مريحة خالية من المُنغِّصات والصعوبات، وليس مجرد كلمة تُقال لتُعبِّر عن صدق الإيمان، بل لا بّد من الامتحان والابتلاء.
وأشكال هذا الامتحان والابتلاء متعدِّدة ومتنوعة وعلى درجات مختلفة، وكلَّما ارتقى مستوى الإنسان الإيماني تصاعدت درجات الابتلاء.
في حديثٍ عن الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
«إنَّ أشدَّ الناسِ بلاءً الأنبياء، ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الأمثل فالأمثل»[1].
والابتلاء يكونُ تكريمًا تارةً...
ففي الحديث:
«ما أثنى الله تعالى على عبدٍ من عباده من لدن آدم إلى محمدٍ (صلَّى الله عليه وآله) إلَّا بعد ابتلائِه ووفاء حقِّ العبودية فيه، فكرامات الله في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء»[2].
وتارةً أخرى يكون الابتلاء امتحانًا واختبارًا..
﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
وليس معنى هذا حدوث العلم لله تعالى، فهو العالم بحقيقة الإنسان، وبمستقبله، بل المراد ظهور الحقيقة للنَّاس أنفسهم من خلال علامات الصدق أو الكذب في سلوكهم...
فكثيرون يتوهمون أو يُوهمون أنفسهم بأنَّهم صادقون في إيمانهم، وكذلك يظنّنهم الآخرون، فتأتي الابتلاءات والامتحانات فتكشف مدى صدقهم أو كذبهم...
وتارة ثالثة يكون الابتلاء تذكيرًا وتنبيهًا للإنسان فكثيرًا ما يعيش هذا الإنسان الغفلة، فيظل سائرًا في الغي والضلال والانحراف، فتأتي الابتلاءات مذكرةً ومنبِّهةً، لعلَّه يتذكَّر أو يتنبَّه..
قال تعالى:
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {السجدة/ 21} ﴾
وتارة رابعة يكون الابتلاء تمحيصًا للذنوب...
في الحديث عن الإمام الباقر عليه السَّلام:
«إنَّ الله تبارك وتعالى إذا كان من أمره أن يكرم عبدًا وله عنده ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل فبالحاجة، فإن لم يفعل شدَّد عليه عند الموت، وإذا كان من أمره أن يهين عبدًا وله عنده حسنة أصحَّ بدنه، فإن لم يفعل وسَّع عليه في معيشته، فإن لم يفعل هوَّن عليه الموت»[3].
نعود للنص الذي افتتحنا به الحديث...
فبعد أن ذكَّر الله تعالى سنة الابتلاء والامتحان قال سبحانه: «ولقد فتنَّا الذين مِن قبلهم».
الابتلاء والامتحان سُنّة جارية منذ خلق الله الخلق، فكلّ الأمم السابقة، حينما أُرسل إليهم الرسل، وأُنزل عليهم الكتب، وأوضحت لهم الطرق، تعرضوا للابتلاءات والامتحانات فثبت الصادقون، وسقط الكاذبون...
وقد قاسى المؤمنون في تلك الأمم أشدّ ألوان الأذى والعذاب، والقتل، فما كان ذلك إلَّا ليزيدهم إصرارًا، وصمودًا، وثباتًا، وتضحية...
يُحدِّثنا القرآن عن أصحاب الأُخدود...
ففي الأزمان السابقة على الإسلام، كان جماعة من المؤمنين بنبوة عيسى عليه السَّلام، وكانوا صادقين كلّ الصدق في إيمانهم، واجهوا ضغوطًا قاسيةً من قبل الطغاةِ المتحكِّمين في ذلك العصر...
ومن الوسائل التي اعتمدها طغاةُ ذلك العصر، أن حفروا أخدودًا وهو حفيرة كبيرة في الأرض، وملأوها نارًا، ثمَّ عرضوا أولئك المؤمنين على النَّار، فإمَّا أن يتراجعوا عن إيمانهم، وإلَّا فيكون مصيرهم الإلقاء في هذا الأخدود المملوء بالنيران المستعرة، الملتهبة..
فماذا كان موقف المؤمنين الصَّادقين؟
أصرّوا على الإيمان، وتحدّوا هذه التهديدات، وأخذوا يتهافتون على النار الواحد تلو الآخر، عاشقين الشهادة في سبيل الله...
وتحدِّثنا كتب التفاسير، أنَّ امرأة مؤمنة جاءت ومعها صبي عمره شهر واحد، فلمَّا هجمت على النَّار هابت ورقَّت على ابنها، فناداها الصبي – وكان ممَّن تكلَّم في المهد-: أمَّاه لا تهابي وارمي بي وبنفسك في النار، فإنَّ هذا واللهِ في الله قليل... فرمتْ بنفسها وصبيِّها في النار...
واستمرت وجبةُ التعذيب القاسية، وكان الطغاة جالسين، يراقبون هذا المشهدَ المرعب، وهم في أعلى درجات النشوة واللذَّة، فلم تبق في داخلهم ذرةٌ من حسٍّ أو ضمير...
وقد سجّل القرآن الكريم هذا الحديث سورة البروج حيث قال الله تعالى:
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُود، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُود، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾. (البروج/ 4-8)