عرض مشاركة واحدة

الصورة الرمزية ابو غدير الساعدي
ابو غدير الساعدي
عضو برونزي
رقم العضوية : 64616
الإنتساب : Mar 2011
المشاركات : 324
بمعدل : 0.06 يوميا

ابو غدير الساعدي غير متصل

 عرض البوم صور ابو غدير الساعدي

  مشاركة رقم : 3  
كاتب الموضوع : ابو غدير الساعدي المنتدى : المنتدى العقائدي
افتراضي
قديم بتاريخ : 09-05-2011 الساعة : 02:26 AM


6 ـ بطلان قاعدة الفرق بين النوع والشخص المعيّن
وتشهد هذه الشواهد أيضاً لبطلان قاعدة نسجها أبو حامد الغزالي وآخرون ممّن سلك مسلكه، في أنّ اللعن الجائز هو لعن الأنواع بأوصافهم، حيث كتب يقول: «إن اللعن الجائز هو لعن الأنواع بأوصافهم كقولك: لعنة الله على الكافرين والمبتدعين والظالمين وآكلي الربا... الخ. أما لعن الشخص المعين فهذا فيه خطر كقولك: زيد لعنه الله، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع، والتفصيل فيه أن كل شخص ثبتت لعنته شرعاً فتجوز لعنته كقولك: فرعون لعنه الله، وأبو جهل لعنه الله، لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعاً.
وأما شخص بعينه في زماننا كقولك: زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلاً فهذا فيه خطر فإنّه ربّما يسلم فيموت مقراً عند الله فكيف يحكم بكونه ملعوناً؟
فإن قلت: يلعن لكونه كافراً في الحال، كما يقال للمسلم: رحمه الله، لكونه مسلماً في الحال، وإن كان يتصور أن يرتد، فاعلم أن معنى قولنا: رحمه الله، أي ثبته الله على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى الطاعة، ولا يمكن أن يقال: ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة، فإن هذا سؤال للكفر وهو في نفسه كفر، بل الجائز أن يقال: لعنه الله إن مات على الكفر، ولا لعنه الله إن مات على الإسلام. وذلك غيب لا يدرى، والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر، وليس في ترك اللعن خطر. وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق أو زيد المبتدع أولى، فلعن الأعيان فيه خطر لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلاّ من أعلم به رسول الله(صلى الله عليه وآله) فإنّه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر، ولذلك عين قوماً باللعن، فكان يقول في دعائه على قريش: «اللهمّ عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة»، وذكر جماعة قتلوا على الكفر، حتى أنّ من لم يعلم عاقبته كان يلعنه فنهى عنه، إذ روي: أنّه كان يلعن الذي قتلوا أصحاب بئر معونة في قنوته شهراً، فنزل قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنّهم ظالمون) يعني أنهم ربّما يسلمون فمن أين تعلم أنهم ملعونون؟ وكذلك من بان لنا موته على الكفر جاز لعنه وجاز ذمّه إن لم يكن فيه أذى على مسلم، فإن كان لم يجز، كما روي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) سأل أبا بكر عن قبر مرّ به وهو يريد الطائف، فقال: هذا قبر رجل كان عاتياً على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص، فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال: يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من أبي قحافة، فقال أبو بكر: يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام؟ فقال(صلى الله عليه وآله): «اكفف عن أبي بكر» فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال: «يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمّموا فإنّكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء» فكف الناس عن ذلك، وشرب نعمان الخمر فحدّ مرات في مجلس رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال بعض الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال(صلى الله عليه وآله): «لا تكن عوناً للشيطان على أخيك»، وفي رواية: «لا تقل هذا فإنّه يحب الله ورسوله»، فنهاه عن ذلك، وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز. وعلى الجملة ففي لعن الأشخاص خطر فليجتنب ، ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره.
فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنّه قاتل الحسين أو أمر به؟ قلنا: هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنّه قتله أو أمر به ما لم يثبت، فضلاً عن اللعنة، لأنّه لا تجوز نسبة مسلم الى كبيرة من غير تحقيق. نعم، يجوز أن يقال قتل ابن ملجم عليّاً(عليه السلام) وقتل أبو لؤلؤة عمر ، فإن ذلك ثبت متواتراً. فلا يجوز أن يرمى مسلم بفسق أو كفر من غير تحقيق. قال(صلى الله عليه وآله): «لا يرمي رجل رجلاً بالكفر ولا يرميه بالفسق إلاّ ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» ، وقال(صلى الله عليه وآله): «ما شهد رجل على رجل بالكفر إلاّ باء به أحدهما، إن كان كافراً فهو كما قال، وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إيّاه»، وهذا معناه أن يكفره وهو يعلم أنه مسلم فإن ظن أنّه كافر ببدعة أو غيرها كان مخطئاً لا كافراً ، وقال معاذ: قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أنهاك أن تشتم مسلماً أو تعصي إماماً عادلاً، والتعرض للأموات أشدّ» قال مسروق: دخلت على عائشة فقالت: ما فعل فلان لعنه الله؟ قلت: توفي. قالت: رحمه الله، قلت: وكيف هذا؟ قالت: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لا تسبّوا الأموات فإنّهم قد أفضوا الى ما قدموا»، وقال(عليه السلام): «لا تسبّوا الأموات فتؤذوا به الأحياء»، وقال(عليه السلام): «أيها الناس احفظوني في أصحابي وإخواني وأصهاري ولا تسبّوهم، أيّها الناس إذا مات الميت فاذكروا منه خيراً».
فإن قيل; فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله؟ أو الآمر بقتله لعنه الله؟ قلنا: الصواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله، لأنّه يحتمل أن يموت بعد التوبة، فإن وحشيّاً قاتل حمزة عمّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر والقتل جميعاً ولا يجوز أن يلعن، والقتل كبيرة ولا تنتهي الى رتبة الكفر، فإذا لم يقيّد بالتوبة وأطلق كان فيه خطر وليس في السكوت خطر فهو أولى.
وإنّما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة وإطلاق اللسان بها. والمؤمن ليس بلعّان فلا ينبغي أن يطلق باللعنة إلاّ على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين فالاشتغال بذكر الله أولى فإن لم يكن ففي السكوت سلامة»[43].
وكتب ابن تيمية مؤيداً ذلك :
«وقد ثبت في صحيح البخاري ما معناه أن رجلاً يلقب خمّاراً وكان يشرب الخمر، وكان كلما شرب أُتي به إلى النبي(صلى الله عليه وآله) جلده، فاُتي به إليه مرة فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي(صلى الله عليه وآله)، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله. وكل مؤمن يحب الله ورسوله، ومن لم يحب الله ورسوله فليس بمؤمن، وإن كانوا متفاضلين في الإيمان، وما يدخل فيه من حب وغيره، هذا مع أنه(صلى الله عليه وآله) لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها، وقد نهى عن لعنة هذا المعيّن لأن اللعنة من باب الوعيد، فيحكم به عموماً، وأما المعين فقد يرتفع عنه الوعيد لتوبة صحيحة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو غير ذلك من الأسباب التي ضررها يرفع العقوبة عن المذنب»[44].
ونقل عنه قوله: «وحقيقة الأمر في ذلك، أن القول قد يكون كفراً فيطلق القول تكفير ]بتكفير [قائله، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعيّن الذي قاله لا يكفّر حتّى تقوم عليه الحجّة التي يكفّر تاركها من تعريف الحكم الشرعي من سلطان أو أمير مطاع.
كما هو المنصوص عليه في كتب الأحكام، فإذا عرّفه الحكم وزالت عنه الجهالة قامت عليه الحجّة، وهذا كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب والسنّة، وهي كثيرة جداً والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعيّن شخصاً من الأشخاص، فيقال: هذا كافر، أو فاسق، أو ملعون، أو مغضوب عليه، أو مستحق للنار، لا سيّما إن كان للشخص فضائل وحسنات، فإنّ ما سوى الأنبياء يجوز عليهم الصغائر والكبائر، مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صدّيقاً ، أو شهيداً ، أو صالحاً، كما قد بسط في غير هذا الموضع، من أن موجب الذنوب تتخلف عنه بتوبة، أو باستغفار، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو لمحض مشيئة الله ورحمته.
فإذا قلنا بموجب قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمّداً)[45] الآية وقوله: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)[46]. وقوله: (ومن يَعصِ الله ورسوله ويتعدّ حدوده)[47]. الآية وقوله: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)[48] إلى قوله: (ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً)[49]، الآية، إلى غير ذلك من آيات الوعيد، قلنا بموجب قوله(صلى الله عليه وآله): «لعن الله من شرب الخمر»[50]، أو «من عقّ والديه»[51] أو «من غيّر منار الأرض»[52]، أو «من ذبح لغير الله»[53]، أو «لعن الله السارق»[54]، أو «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه»[55]، أو «لعن الله لاوي الصدقة والمتعدي فيها»[56]، أو «من أحدث في المدينة حدثاً، أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»[57]، إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد، ولم يجز أن تعين شخصاً ممن فعل بعض هذه الأفعال، وتقول: هذا المعيّن قد أصابه هذا الوعيد، لإمكان التوبة وغيره من مسقطات العقوبة، إلى أن قال: «ففعل هذه الاُمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد ونحو ذلك، وغايته أنه معذور من لحوق الوعيد به لمانع، كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبة، أوحسنات ماحية، أو مصائب مكفّرة، أوغير ذلك، وهذه السبيل هي التي يجب اتّباعها، فإنّ ما سواها طريقان خبيثان، أحدهما: القول بلحوق الوعيد بكل فرد من الأفراد بعينه، ودعوى أنها عمل بموجب النصوص، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفّرين بالذنوب، والمعتزلة وغيرهم، وفساده معلوم بالاضطرار، وأدلته معلومة في غير هذا الموضع، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعيّن الذي فعله لا يُشهد عليه بالوعيد، فلا يُشهد على معيّن من أهل القبلة بالنار لفوات شرط، أو لحصول مانع، وهكذا الأقوال الذي يكفر قائلها، قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها، أو قد عرضت له شبهات يعذره الله به، فمن كان مؤمناً باللهوبرسوله مُظهراً للإسلام محباً لله ورسوله، فإنّ الله يغفر له ولو قارف بعض الذنوب القولية أو العملية، سواء اُطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي، هذا الذي عليه أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)وجماهير أئمة الإسلام، لكن المقصود أنّ مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بالفرق بين النوع والعين»[58]
وهذا الكلام إنّما سقناه بطوله وعرضه لشدّة هذه الشبهة، وغموض الحقّ فيها غموضاً كبيراً. وبامكاننا استجلاء الحقيقة، من خلال بيان ملاحظات ترد على هذه القاعدة من جهات متعدّدة، هي:
أـ إن اللعن ليس إخباراً عن حال الملعون، حتى يرد عليه بأن الفرد الذي جرت عليه اللعنة قد يتوب ويستغفر، وقد تدركه الرحمة الإلهية. وإنّما هو ـ كما مرّ ـ دعاء بطرد ذلك الفرد من رحمة الله سبحانه وتعالى ، وقد يستجيب الله سبحانه وتعالى له وقد لا يستجيب، وقد يتوب ذلك الفرد ويصبح من الصالحين فيما بعد، وقد لا يتوب، فالله يعمل بمقاييسه ، والمؤمن يعمل بتكاليفه، فإذا رأى فرداً ارتكب عملاً من الأعمال التي جرت عليها اللعنة في الكتاب والسنّة النبوية، وجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبه الثلاث بيده أو بلسانه أو بقلبه، واللعنة من جملة المرتبة اللسانية والقلبية ، فإن استطاع إبرازها وإظهارها واعلانها فهي من المرتبة اللسانية، وان لم يستطع ذلك فهي من المرتبة القلبية.
وليس في هذه اللعنة ما يسلتزم كشفاً وإخباراً عن حال الفرد الملعون عند الله سبحانه وتعالى، كما هو واضح، إلاّ إذا جرت اللعنة على شخص معيّن من قبل الله سبحانه وتعالى في كتابه، أو من قبل رسوله(صلى الله عليه وآله) في كلامه، فمثل هذه اللعنة تنطوي على جنبة إخبارية تكشف عن حال ذلك الشخص عند الله سبحانه وتعالى، وقاعدة الفرق بين لعن النوع ولعن الفرد المعين جاءت نتيجة الخلط بين لعن المؤمن لشخص معين، وبين لعن الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) له، فإنّ لعن المعين من قبل الناس لا ينطوي على جنبة إخبارية، بخلاف لعنه من قبل الله ورسوله، وما نحن فيه لعن الناس له الخالي عن أي جنبة إخبارية اُخروية، فلا وجه لقول الغزالي عن لعن المؤمن لليهوديّ، بأن: «في هذا خطر فإنّه ربّما يسلم فيموت مقرّاً عند الله فكيف يحكم بكونه ملعوناً»، فإن معنى اطلاق اللعنة عليه أن الله سبحانه قد أجاز لعنته بحسب حالته الحاضرة، ويبقى الحكم عليه بكونه ملعوناً عند الله أم لا متروكاً للباري سبحانه وتعالى، بحسب ما عنده من الموازين الكلية واللحاظات المتكاملة، ولا خطر في ذلك بل ربّما كان الخطر في خلافه عندما يضعف في المؤمن حسّ الانتماء للحق وروحية الاستنكار للباطل، وهذا هو وجه الخطر في ترك اللعن الذي أنكره الغزالي.
ب ـ إنّ آية : (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذّبهم فإنّهم ظالمون)[59] التي قيل إنّها نزلت في لعن النبي(صلى الله عليه وآله) قاتلي أصحاب بئر معونة في صلاته شهراً كاملاً، ليس فيها ما يدلّ على نهي الله للنبي عن هذا اللعن، وغاية ما تدل عليه أن الدعاء باللعن ليس ملاكاً في عاقبة أصحاب الباطل، فربّما يتوب الله عليهم وربّما يعاقبهم، وهذا لا يستلزم النهي عن لعنهم، كما فسّرها الغزالي.
ج ـ وهذا ينسجم تمام الانسجام مع حادثة شارب الخمر، الذي أجرى الرسول(صلى الله عليه وآله) عليه الحد مرّات عديدة ونهى عن لعنه[60] ، فقد يكون ذلك النهي لأجل علم خاص عند النبي(صلى الله عليه وآله)بحسن عاقبة ذلك الشخص في المستقبل وعند الله سبحانه وتعالى، فنهى النبي(صلى الله عليه وآله)أصحابه عن لعنه، اشارة منه الى أن دعائهم عليه سوف لا يستجاب، وأ نّهم يدعون على شخص له عاقبة حميدة، فيكون هذا الحديث من قبيل الحكم في واقعة خاصة بصاحبها ولا يشمل غيره، وتفسيره بذاك الوجه دون هذا ترجيح بلا مرجّح، فكلاهما محتمل، التفسير بالنهي عن لعن المعين، والتفسير بكون النهي هنا حكماً في واقعة، وقد قيل : إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، هذا إذا كانت قاعدة التفريق بين لعن الأنواع ولعن الأشخاص صحيحة، أما إذا تم إبطالها ولم يثبت لها دليل ـ كما هو الصحيح ـ يصبح الحق منحصراً بالتفسير الثاني فقط، لا محالة حينئذ. ولا تصل النوبة الى الترجيح.
د ـ وقد نوافقه على أن في لعن الأشخاص خطر، ولكن لا نوافق على أن مقتضى هذا الخطر اجتناب اللعن، وإنّما مقتضاه التحفظ الشديد فيمن تجري عليه اللعنة، فلا يُلعن إلاّ من يُقطع باستحقاقه ذلك استحاقاً خالياً من كل شائبة.
هـ ـ ولا نوافقه على عدم وجود الخطر في السكوت عن لعن إبليس فضلاً عن غيره، لأنّ اللعن وسيلة أدبية وثقافية يمكن للمجتمع من خلالها أن يحصّن نفسه عن مسارب الانحراف، ويردع بها عن نفسه معاول التهديم والتخريب الداخلي، والسكوت عن اللعن يعني القضاء على وسيلة من وسائل المناعة الذاتية التي تضمن للمجتمع سلامته واستقامته، ولذا لعن الله سبحانه وتعالى في كتابه أشخاصاً معينين مثل إبليس، والشجرة الملعونة التي هي الحكم بن أبي العاص وابناؤه .
و ـ وفي كلام الغزالي عن لعن قاتلي الحسين(عليه السلام)، بأن: «الصواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله ، لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة...» إقرار بجواز لعن الأشخاص من المسلمين، لعدم مدخلية التوبة في مسألة اللعن ، لأن جرمه معلوم مشهود، فهو الآمر بقتل الحسين(عليه السلام) والمتشفّي به، ولم تُعلم له توبة، وإذا كان ذلك قد حصل منه فقبول توبته أمر مجهول عندنا، والمهم أن يزيد في حسابات الغزالي ليس ممّن مات على الكفر ، فكيف أجاز لعنه مع ما حكم به من عدم جواز اللعنة إلاّ على من مات على الكفر؟
ز ـ وأما كلام ابن تيمية بعدم جواز «أن تعيّن شخصاً ممّن فعل بعض هذه الأفعال وتقول هذا المعيّن قد أصابه هذا الوعيد، لإمكان التوبة وغيره من مسقطات العقوبة». فإنّه إذا كان بلحاظ وعيد الله في الآخرة وما سيكون عليه حال الأفراد في يوم القيامة فهو صحيح ولا اشكال فيه، إذ أن أحداً من الناس لا يستطيع أن يقطع بما سيكون عليه حال الأشخاص في يوم القيامة لخفاء حقائق الاُمور وخفايا النفوس علينا.
وإذا كان بلحاظ الآثار الدنيوية المترتبة على أعمالهم المرفوضة شرعاً، فهي مما لا يمكن القول بها فضلاً عن تطبيقها، لوضوح أن الردّة والنفاق وبعض موارد الفسق تترتب عليها آثار جزائية شرعية، كوجوب قتل المرتد، فإذا عملنا بهذه القاعدة وتوقفنا عن إلحاق الوعيد الجزائي الشرعي بالأشخاص، ولم يجز لنا أن نشير إلى شخص معيّن، ونقول: إنّه مرتد أو فاسق أو ملعون، لا نستطيع أن نطبق الأحكام الجزائية الإسلامية المترتبة على هذه العناوين، والدليل على ذلك من عمل الخليفة الاُول، فإنّه لو لم يشخص جماعة بأعيانها قد ارتدّوا عن الدين فبأي مبرر جاز له مقاتلتهم؟
فعمل الخليفة الأول أوضح ردّ من داخل مدرسة الخلفاء على بطلان قاعدة التفريق بين النوع والشخص في الوعيد، ومن الواضح أن إجراء الآثار الجزائية وغيرها على المرتد والفاسق والمنافق إنّما هو بلحاظ ظاهر الحال، ولا نستطيع أن نتّخذ منه دليلاً على سوء العاقبة في الآخرة، فللآخرة حساباتها التي هي خافية علينا، والوعيد الاُخروي بهؤلاء الأشخاص لا طريق عندنا إليه سوى إخبار الله والرسول عنه، كما اتّضح آنفاً.
ومن الواضح أيضاً أن إجراء هذه الآثار الدنيوية يحتاج إلى تثبّت شديد، لأن الحكم على المسلم بالكفر أو النفاق أو الفسق أمر عظيم لا يستهان به، كما اتفقت على ذلك كلمة المذاهب الإسلامية قاطبة، سوى الشاذ النادر منهم كالخوارج، والنتيجة أن القاعدة المذكورة إذا كانت بلحاظ الآخرة فهي صحيحة باستثناء من أخبر الله والرسول بلحوق الوعيد بهم بأشخاصهم. وإذا كانت بلحاظ الآثار الدنيوية فهي غير صحيحة، ولا يمكن القول بها، نعم تثبيت هذه الآثار الشرعية على الأفراد بأعيانهم يحتاج إلى شروط إثباتية كافية، وإلى تشدّد في إحراز من هو المصداق الحقيقي للكفر والردّة والنفاق والفسق، وأن لا يكون الأمر على نحو من الهرج والمرج.
ط ـ ومما يشهد على بطلان هذه القاعدة الآثار التاريخية الدالة على أن الصحابة كانوا يخاطبون أشخاصاً بأعيانهم، ويشيرون إليهم بكفر أو نفاق، كخبر عائشة في مروان وأبيه[61]، وكلامها الذي ذكره الغزالي آنفاً، وكلامها بحق عثمان[62]، والكلام المعروف لأبي سعيد الخدري، أنه قال: إنّا كنّا لنعرف المنافقين ـ نحن معاشر الأنصار ـ ببغضهم علي بن أبي طالب[63]، فهو كلام يتناول أشخاصاً معينين في ضمير المتكلم، ويطلق عليهم وصف النفاق فرداً فرداً.
ح ـ وردّ ابن عقيل العلوي على الغزالي بقوله:
قلت: كيف حمل ابن المنير والغزالي ومن تبعهما نهي النبي(صلى الله عليه وآله)أصحابه عن لعن حمّار المحب لله ولرسوله على منع التعيين، والنهي في الحديث معلل بمحبة الله ورسوله، واقع بعد إقامة الحد، ولا يفهم للتعيين وعدمه معنى من متن الحديث، مع أن عمل النبي(صلى الله عليه وآله)وعمل كثير من أصحابه وكثير من أكابر السلف بعدهم في مواطن كثيرة يخالف ما حملا عليه الحديث.
وأقوى حجة في مشروعية لعن المسلم المعيّن كتاب الله تعالى، حيث قال في يمين الملاعن: (والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين)[64] وقد حلّف النبي(صلى الله عليه وآله) الملاعن مكرراً، وجعل ذلك شرعة باقية في اُمّة محمد(صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة، والتعيين هنا بضمير المتكلم أقوى من التعيين بالإسم العَلَم، كما هو مذكور في محله من كتب العربية، ولم يقل أحد من الاُمّة أصلاً بكفر الكاذب من المتلاعنين، حتّى يوجه قول الغزالي ومن تبعه أن اللعن بالتعيين لا يجوز إلاّ على الكافر، وقد لعن النبي(صلى الله عليه وآله) أشخاصاً سماهم وماتوا على الإسلام، كأبي سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن العاص، وأبي الأعور السلمي، والحكم بن أبي العاص، وابنه مروان وغيرهم، ولعن كثير من أجلّة الصحابة اُناساً سموهم باسمائهم، كمعاوية، وعمرو بن العاص، وحبيب وعبدالرحمن بن خالد، والضحاك بن يزيد، وبسر بن أرطأة، والوليد وزياد، والحجاج بن يوسف، وغيرهم ممّن يعسر عدّهم وسردهم، وقد لعن حسان بن ثابت هنداً بنت عتبة، وزوجها أبا سفيان، وهو إذ ذاك يكافح عن النبي(صلى الله عليه وآله) بأمره ولم ينكر عليه بل أقره عليه. قال من أبيات له:
لَعَنَ الإلهُ وزَوجَها معها***هند الهنود عظيمةَ...![65]
وقد لعن عمر بن الخطاب خالد بن الوليد، حين قتل مالك بن نويرة[66].
ولعن علي(عليه السلام) عبدالله بن الزبير يوم قُتل عثمان، إذ لم يدافع عنه[67].
وقد لعن عبدالله بن عمر ابنه بلالاً ثلاثاً ، كما ذكره ابن عبدالبر، قال: عن عبدالله بن هبيرة السبائي، قال: حدثنا بلال بن عبدالله بن عمر أن أباه عبدالله بن عمر، قال يوماً: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد» فقلت: أما أنا فسأمنع أهلي فمن شاء فليسرح أهله، فالتفت إليّ وقال: لعنك الله لعنك الله لعنك الله! تسمعني أقول إن رسول الله(صلى الله عليه وآله)أمر أن لا يمنعن وقام مغضباً[68].
وصح عن الإمام مالك;أنه قال: لعن الله عمرو بن عبيد ـ يعني الزاهد المشهور ـ وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله سمعت أبا حنيفة، يقول: لعن الله عمرو بن عبيد.
ونقل ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى، باسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: إن قوماً ينسبونا إلى تولي يزيد، فقال: يا بنيوهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله، ولم لا نلعن من لعنه الله في كتابه؟ فقلت: وأين لعن الله يزيد في كتابه؟ فقال: في قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم* اُولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)[69] فهل يكون فساد أعظم من هذا القتل، وفي رواية: يا بني ما أقول في رجل لعنه الله في كتابه[70].
ونقل البخاري في خلق أفعال العباد، قال: قال وكيع: على بشر المرّيسي لعنة الله، يهودي أو نصراني، قال له رجل: كان أبوه أو جده نصرانياً، قال وكيع: عليه وعلى أصحابه لعنة الله[71].
وقد لعن بكر بن حماد، والقاضي أبو الطيب، وأبو المظفر الاسفرائيني وكثير غيرهم، عمران ابن حطان في ردّهم المشهور على أبياته التي امتدح بها أشقى الآخرين ابن ملجم لعنه الله[72].
ولعن يحيى بن معين الحسين بن علي الكرابيسي الشافعي البغدادي، كما ذكره في تهذيب التهذيب[73] ، وما زال اللعن فاشياً بين المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي لعنه. وإذا تتبعت كتب الحديث والسير والتاريخ وجدتها مشحونة بذلك، ولهذا أقول لطالب التحقيق لا يهولنك ما تظافر هؤلاء عليه من منع التعيين، مع أنه قد ورد عن نبيّهم وكثير من أصحابه، ومن أكابر السلف ما يخالفه، فليفرخ روعك فإن الهدى هدى محمد وأصحابه»[74].






يتبع


توقيع : ابو غدير الساعدي
اللهم عجل لوليك الفرج
من مواضيع : ابو غدير الساعدي 0 عجيبة غريبة !!!!؟؟
0 هل أسم الأمام علي "ع" ثقيل على عائشة ؟؟
0 المخالفة الجلية في نصرة سبط خير البرية
0 الأثبات الكبير لظلامة السبط البشير "ع"
0 أين ذهبت ( حي على خير العمل ) من الآذان ؟؟
رد مع اقتباس