|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 77639
|
الإنتساب : Mar 2013
|
المشاركات : 741
|
بمعدل : 0.17 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
alyatem
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
بتاريخ : 15-03-2013 الساعة : 02:05 PM
أليس زين العابدين(ع) مع أنّه عليل أسير ـ والأسير لا يُقتل ـ قد أمر ابن زياد بقتله لجواب خفيف وقول طفيف، فإنّ ابن زياد بعد أن فرغ من تحدّي زينب وأخرجته بقوّة العارضة والبيان من الميدان مكعوماً(49)بالخزي والخذلان التفت إلى زين العابدين، فقال: « من هذا؟!
فقيل له: هو عليّ بن الحسين(ع).
فقال: أليس قد قتل الله عليّاً؟!
فقال سلام الله عليه: كان لي أخ يقال له عليٌ قتله الناس.
فقال ابن زياد: بل الله قتله!
فقال الإمام: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (50).
فقال له: أَوَبـِكَ جرأةٌ على ردّ جوابي؟! يا غلمان! خذوه فاضربوا عنقه!
فتعلّقت به زينب، وقالت: يا بن زياد! حسبك من دمائنا ما سفكت، فإن عزمت على قتله فاقتلني معه.
فقال الطاغية: عجباً للرحم! فوالله لَوَدَّتْ أن تموتَ دونه، اتركوه لِما به»(51).
وما تركه رحمةً لها، ولكن قد رأى أنّ العلّة والإسار والأغلال والجامعة(52) ستقضي عليه وتكفي ابن زياد مؤنة قتله.
فإنّ سلامة زين العابدين وبقاء حياته كان من خوارق العادة، وعلى خلاف مجاري الأسباب، ولو قُتل أو مات في تلك البرهة لانقَطَعَ نسل الحسين، ولكن مشيئة الله سبحانه وقضاءه السابق بأنّ الأئمّة من ذرّيّته لا يردّ ولا يُغلب، وكانت زينب هي السبب في حفظه على الظاهر.
فليكن هذا وجهاً خامساً لحمل العيال، فلعلّ الحسين عرف العلّة والمرض لا يكفي في سلامة ولده، وأنّهم قد يقتلونه على مرضه، وأنّ لزينب موقفها الباهر في المفاداة والدفاع عنه.
وكلّ غرضنا من سحب أذيال هذا المقال، أن يتجسّم لديك كيف كان الحال في كمّ الأفواه، وعقل الألسن، وإرجاف القلوب، ومشق الحسام لضرب الهام على أقلّ الكلام.
إذاً فمَن يَردّ تلك الأمانة ويؤدّي تلك الوديعة، وديعة الحقّ، وأمانة الصدق، والانتصار للحقيقة، وإزهاق الباطل؟!
نعم، قُمْنَ بكلّ تلك الوظائف على أوفى ما يرام، وأتمّ ما يحصل به الغرض، قُمْنَ به ودائع النبوّة وحرائر الوحي والرسالة، نهضن بتلك الأعباء الثقيلة التي تعجز عنها الأبطال وأُسود الرجال.
كأنّ الحسين(ع) علم ـ ولا شكّ أنّه علم ـ أنّه سيُقتل هو وجميع أهل بيته وأنصاره، ولا يبقى رجل يتسنّى له الكشف لجمهرة ذلك الخلق التعس عن فظاعة تلك الجناية وشناعة تلك الجرائم السيّئة، ولو أهمل هذه الناحية المهمّة لذهب قتله سدىً، ولفات الغرض والغاية، فلم يجد بُدّاً من حمل تلك المصونات معه لتكميل ذلك المشروع الذي ابتذل نفسه ونفوس أعزّته في سبيله.
وعلم سلام الله عليه أنّ بني أُميّة مهما بلغوا في خرق النواميس وهتك الحرمات والتجاوز على الشناشن(53) العربية، والشرائع الإسلامية، ولكنّهم لا يقدرون على قتل النساء ; لا يقدرون على قتل امرأة مصابة مفجوعة تكلّمت بشيء من الكلام تبريداً وتسكيناً للوعتها.
ويوم الطفّ وإنْ قَتَلَ حزبُ بني أُميّة عدّةً من النساء الوديعات(54)، كما قتلوا الأطفال(55)، ولكنّ الحربَ لها أحكام وشواذّ لا تجري في غيرها.
لا، وكلاّ، لا يستطيع ابن زياد ـ مهما طغى وتجبّر ـ أن يقتل ساعة السلم امرأة عزلاء، أسيرة بين يديه، لا تحمل من السلاح إلاّ قلبها ولسانها، قلبها درعها، ولسانها ] سيفها [، لا يستطيع أن يقتل امرأة مهما تجرّأت عليه، بل ولا يستطيع أن يمدّ يده إليها فيضربها.
إنّ زينب العقيلة لمّا سوّدت وجه ابن زياد ولطمته تلك اللطمة السوداء بقولها: « ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة! »، اسودّت الدنيا في عينه، حيث عرف والحاضرون ما أرادت، فَهَمَّ أن يضربها، ولكنّ عمرو بن حريث، وهو من أكبر القوّاد في جند ابن سعد، وكان أميراً على الرجّالة بعد أن كان من خواصّ أمير المؤمنين في صفّين، أنكر عليه وجاءه بحجّة، وهي أنّها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، فقال ابن زياد: « أما تراها كيف تجرّأت علَيَّ؟! »(56).
كان الحسين وأنصاره قد وقفوا يوم الطفّ موقفاً تجسّمت فيه روح الشجاعة والبسالة، وأصبح المثل الأعلى للعزم والإقدام والاستهانة بهذه الحياة في سبيل العزّ والإباء، ودون موارد الذلّ!
وقفوا موقفاً ما حدّثنا التاريخ بمثله، ولا سمع الدهر بنظيره!
وقف سبعون رجلاً في مقابل سبعين ألفاً، ومددهم إلى الكوفة، بل إلى الشام متواصل، وهؤلاء لا مدد لهم، هؤلاء على شاطئ النهر يكرعون منه، وينتهلون كلّ حين، وأُولئك قد حُبسوا عن الماء يومين أو ثلاث، والعطش وحرّ الهجير ورمال الصحراء أحرق أجسادهم، وفتّت أكبادهم، وأطفالهم يتصارخون من العطش نصب أعينهم، وعلى احتفاف أضعاف ذلك الرزايا والمحن بهم.
نعم، ومع كلّه ما هانوا ولا استكانوا، ولا فشلوا ولا ذلّوا، بل كانوا يزدادون بشراً وطلاقة، وعزماً وصلابة، وعزّاً وشهامة.
حقّاً إنّه لموقف باهر، ومقام قاهر، وحديث مدهش، ونفوس غريبة، بل وفوق الغرابة بمكان!
ولكن ألا أدلّك على أدهى من موقف أنصار الحسين(ع) وأدهش وأبهى وأبهر؟! هو موقف عقائل النبوّة في مجلس يزيد وابن زياد!
أتستطيع أن تستحضر في نفسك، وتتمثّل في أُمّ رأسك مجلس ابن زياد في قصر الإمارة بالكوفة وقد أَدْخَلوا عليه السبايا والرؤوس، وفيهنّ الحرّة الحوراء زينب الكبرى، وهو سكران بنشوة الفتح والظفر، ورؤساء الأرباع والأسباع(57)، ورؤوس القبائل مثول بين يديه، والدنيا مقبلة بكلّ وجهها عليه؟!
دخلت عليه تلك العقيلة وجلست ناحية متنكّرة، فأبت نفسه الخبيثة أن يصفح صفح الكرام، ويغضي إغضاء الأماجد، أبت نفسه إلاّ إظهار الشماتة، ولؤم الملَكة، وخبث الظفر، وسوء الاستيلاء، وقبيح الأثرة، فسأل ـ ولا شكّ أنّه........(58)، ويهتكها ـ وهو المهتوك ـ وقال: « مَن هذه المتنكّرة؟!
فقيل له: هي زينب بنت عليّ(ع).
فقال لها قول الشامت الشاتم: أرأيت كيف صنع الله بأخيك الحسين والعتاة المردة من أهل بيته؟!
فقالت ـ قول الثابت الجَنان، المتدرّع بدلاص(59) اليقين والإيمان، المستحقر له ولكلّ ما له من قوّة وسلطان ـ: ما رأيت إلاّ جميلاً، أُولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن الفلج(60)؟! ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة!
فلمّا لطمته بهذه اللطمة السوداء لم يجد سبيلاً للتشفّي منها والانتقام إلاّ بأسوأ الكلام من السباب والشتيمة، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم، وأكذب أُحدوثتكم.
فقالت ـ غير طائشة ولا مذعورة ـ: إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا.
الهوامش
--------------
(49) الكعام: شيء يجعل على فم البعير، كعم يكعمُ كعماً، فهو مكعوم وكعيم: شدّ فاه، والجمع: كُعُم. انظر: لسان العرب 12 / 110 مادّة « كعم ».
(50) الزمر: 42.
(51) انظر: ترجمة الإمام الحسين ـ لابن سعد ـ: 79، تاريخ الطبري 3 / 337، مقتل الحسين ـ لابن أعثم الكوفي ـ: 150 ـ 151، الكامل في التاريخ 3 / 435.
(52) الجامعة: الغُلُّ ; لأنّها تجمع اليدين إلى العنق. انظر: لسان العرب 2 / 359 مادّة « جمع ».
(53) الشِّنْشِنة: الطبيعة والخليقة والسَّجيّة، والشناشن العربية: يعني السجايا والأخلاق والطبائع العربية. انظر: لسان العرب 7 / 220 مادّة « شنن ».
(54) استُشهدت مع الإمام الحسين(ع) يوم الطفّ امرأةٌ واحدة، هي: أُمّ وهب النمرية القاسطية، ذكر ذلك الطبري في تاريخه، بعد أن سرد قصّة التحاقها هي وزوجها عبد الله بن عمير الكلبي بركب الإمام(ع) يوم الطفّ، وخروج زوجها للمبارزة والقتال بين يدي الإمام(ع)، وخروجها هي أيضاً للقتال شاحذةً همّة زوجها، مناصرةً لإمام زمانها، ولكنّ الإمام(ع) منعها وردّها إلى الخيام، قائلا لها: ارجعي رحمك الله إلى النساء، فإنّه ليس على النساء قتال.
قال: وخرجت إلى زوجها بعد أن استشهد حتّى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئاً لك الجنّة ; فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام له يسمّى رستم: اضرب رأسها بالعمود! فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها.
تاريخ الطبري 3 / 321 ـ 322 و 326، وانظر: أنساب الأشراف 3 / 398، الكامل في التاريخ 3 / 422، البداية والنهاية 8 / 145.
إلاّ أنّ ابن أعثم الكوفي وابن شهر آشوب والخوارزمي وابن طاووس رووا أنّها كانت مع ولدها وهب وزوجته، التي حاولت أن تثنيه عن الخروج والقتال مع الإمام أبي عبد الله الحسين(ع) في بادئ الأمر، لكنّ أُمّه كانت تشدّ من أزره وتحثّه على الاستشهاد بين يدي الإمام(ع) ليكون شفيعاً له عند ربّه يوم القيامة، إلاّ أنّ زوجته أخذت ـ بعد ذلك ـ عموداً فأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأُمّي! قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله(ص) ; فأقبل ليردّها إلى النساء، فأخذت بثوبه وقالت: لن أعود دون أن أموت معك ; وظلّت تقاتل معه إلى أن ردّها الإمام الحسين(ع) إلى الخيمة.
انظر: الفتوح ـ لابن أعثم الكوفي ـ 5 / 116 ـ 117، مناقب آل أبي طالب ـ لابن شهر آشوب ـ 4 / 109 ـ 110، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ 2 / 15 ـ 16، الملهوف على قتلى الطفوف: 161.
(55) واستُشهد مع الإمام أبي عبد الله الحسين(ع) يوم الطفّ من الأطفال الّذين لم يبلغوا الحلم خمسة، وهم: عبد الله بن الحسين الرضيع، وعبد الله بن الحسن، ومحمّد بن أبي سعيد، والقاسم بن الحسن، وعمرو بن جنادة الأنصاري ; وقد ذكر أصحاب السير والتواريخ كيفية استشهادهم.
انظر: تاريخ الطبري 3 / 331 ـ 334، الكامل في التاريخ 3 / 428 ـ 433، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ: 2 / 21 ـ 22، مناقب آل أبي طالب 4 / 104.
(56) انظر: تاريخ الطبري 3 / 337.
(57) الأرباع: جمع الرَّبْع ; أي المنزل والمحلّة والدار. والأسباع: جمع السُّبْع ـ بالضمّ ـ: وهي جزء من سبعة.انظر: لسان العرب 5 / 115 مادّة « ربع »، تاج العروس 11 / 199 مادّة « سبع ». ورؤساء الأرباع والأسباع كناية عن رؤساء العشائر والأحياء والمجاميع التي كانت حاضرة مجلس ابن زياد حين دخول حرم رسول الله سبايا إلى قصره.
(58) كذا في الأصل، والظاهر أنّ هناك سقطاً في الفقرة.
(59) الدِّلاص من الدروع: الليّنة، ودرعٌ دِلاص: برّاقة ملساء ليّنة بيّنة الدَّلَصِ، والجمع: دُلُصٌ. انظر: لسان العرب 4 / 388 مادّة « دلص ».
(60 ) الفَلْجُ: الظَّفَرُ والفوز، وقد فَلَجَ الرجلُ على خصمه يفلجُ فلجاً. انظر: لسان العرب 10 / 314 مادّة « فلج ».
|
|
|
|
|