شيعي حسني
|
رقم العضوية : 24389
|
الإنتساب : Oct 2008
|
المشاركات : 5,056
|
بمعدل : 0.84 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
حيدر القرشي
المنتدى :
المنتدى الفقهي
بتاريخ : 13-03-2009 الساعة : 11:18 PM
كذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمّفي معركة بدر, حيث أسرَ المسلمون الكفّار, وأحضروهم, فقد أسروا آنذاك سبعين مقاتلاً من الكفّار, وأوثقوهم بالحبال وأحضروهم إلى المدينة, وكان من جملتهم عمّ النبي "العبّاس", حيثُ كانت مخارجُ معركة بدر في أَحَدِ الأيّام على نفقة العبّاس,حيثُ إنّهم كانوا يتقاسمونها فيما بينهم, وحينما وقع معهم أسيراً, كان العبّاس يئنُّ طوال الليل, لِمَا كانوا قد أوثقوا عليه الحبال كي لا يهرب, فلمْ ينمْ النبي في تلك الليلة حتّى الصباح, فسألوه: لماذا لم تنم يا رسول الله؟ أجابهم: سببُ ذلك أنينُ عمّي العبّاس وتألمّه, هلْ أُطلقُ سراحه؟! لا يمكن ذلك, لأنّي لست أنا من أسره.. أأنا الذي قمتُ بأسره؟! لا أبداً فلست الذي أَسَرَه, إنّما هو الله, لمْ أقمْ أنا بفعل شيء, وجميع هؤلاء الأسرى على السواء, لا بدّ وأنْ يُتعامل معهم بنفس المنوال ـ وهنا محلّ الشاهد ـ فجاء النبي وتمشّى أمامهم, ثمّ تبسّم, وكانوا سبعين نفراً, فقال أحدهم: يقولون إنّ محمداً رحمةٌ للعالمين! فها هو قد أوثقنا بالأغلال والزناجير.. وهو يضحك.. فوقف النّبي وقال: أنا مسرور جداً.. أنْ أَوْكَلَ الله إليَّ مهمّة الجذبِ إلى الجنّة حتّى ولو بالسلاسل والأغلال والزناجير..
فلكل نبيٍّ مهمّته ومأموريّته التي لا بدّ وأن يقوم بها, اذهب وبلّغ.. أَسمِع النّاس.. افعل كذا.. لا تفعلْ ذلك.. أو يقال لأحدهم: بلّغْ دعوةَ ربّك وتشدّد ولا تتهاون.. نعم! ويقال لآخر: اذهبْ وبلّغْ, حتّى وإنْ كلّفَ ذلك الضرب بالسّيف ـ (كما حصلَ في معركة بدر, حيث استشهد ابن عمّ النبيّ, فهو من أجلّة الصحابة, فيعتبر من حيث الشجاعة عدلاً لأمير المؤمنين ولـ حمزة, حيث بُترتْ رجله, وحملوه ليأخذوه إلى المدينة, فتوفّي بين بَدْر والمدينة, فقد كانت تلك المعركة عجيبة ومليئة بالصعوبات, وتعتبرُ من أهمّ المعارك وأصعبها, فهي من أعقد الحروب التي واجهها النبيّ والمسلمون) ـ ويقال لآخر: اذهب وجرّ نفسك وتكلّف المشقّة, وخذْ معك كلّ القوم والعشيرة, لأجل هداية المشركين, وقل لهم: تعالَوا وأسلموا, هيّا أسلموا, اهجروا هذه الأفعال المشينة وأسلموا.
فالنّبي قال: تبسّمتُ لأنّ الله أمرني أن أقاتلكم, وأجرّكم إلى الجنّة ولو بالسلاسل, فمن لا يسير ويسلك إلى الجنّة فليس له إلا السلاسل, لتكون تلك السلاسل وذاك الحبل الذي توثق به أكتافكم هي الجنّة بعينها, فأنتم في هذا الحال الذي ترون, وجميع ما أفعله بكم, كلّ ذلك إنّما يبلغ بكم الجنّة ويوصلكم إليها.
حتّى أنزل الله وَحيَه من السّماء: أنْ يا أيّها النبي, إن شئت أَطلق أسرَهم جميعاً, وإنْ شئت فاقطع رقابهم جميعاً, فهؤلاء السبعون شخصاً هم من وجوه أهلِ الشرّ والفساد, فإن قطعتَ رقابهم فلا شيء عليك, وأما لو أطلقتَ سراحهم وأخذتَ الفدية ـ أي عِوض الدم ـ فسوف تستطيع بالطبع تسديدَ كُلفة عتاد الحرب, من الأفراس والسيوف,كما وستأخذونمقداراً لكم كذلك, لأنّ الفدية في أمثال هذه الحالة تبلغُ مالاً وفيراً, فبإمكانك أنْ تجهّز العسكرَ أيضاً, ولكن في العام القادم سوف تنشب حربٌ جديدة, وسوف يَقتلُ هؤلاء منكم ما يعادل عددهم, وهو ما حصل في معركة أحد, حيث قُتِلَ سبعون نفراً. فالنبي تحدث مع الناس بذلك, وقال لهم ما أوحى الله إليه, وأخبرهم بأنّ دَمَ هؤلاء مهدور, وأنّهم مستحقون القتل, فيمكننا قتلهم ويمكننا أَخذَ الفدية عوضَ رقابهم)فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِدَاء([19]) فقال المسلمون: يا رسول الله, أجِز لنا أخذَ الفدية, لأنّنا ضُعفاء.. لا مال لنا.. قدْ خِسرنا في معركة بدر أفراسنا وجِمالنا وسيوفنا ـ والحال أنّ عدد جميع المسلمين آنذاك ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصاً, وكم كان عندهم من الفرسان! وكم كان لديهم من السيوف!! بالطبع المال زائد ووفير جداً بالنسبة إلى عددهم وعتادهم ـ فنشتري السيوف, أو نقوم بتصنيعها, ونجهّز أنفسنا لمواجهة الكفّار ـ نعم ليس مهمّاً.. أن يُقتل منّا سبعون نفراً في العام القادم فهو في سبيل الله!! ـ لم يخالفهم النبيّ وقَبِلَ بذلك, فأخذوا عوض كلّ شخصٍ فديةً مقابل تحرير رقبته, ولمّا وصلت النوبة إلى العبّاس عمّ النبيّ قال: يا ابن أخي وقرّة عيني! أنتَ تعلمُ أنّي مكسور لا أملك مالاً ولا معين لديّ, لا أملك شيئاً أعطيه وأفدي نفسي به, فأنا معيل.. فقال حضرةُ النبي: لا بدّ لك من ذلك, فأعاد يصرّ على النبيّ مرّة ثانية, والنبيّ يقول له: لا بدّ أنْ تدفعَ الفِدية, والحال أنّ الفدية التي ينبغي بذلها كبيرة جداً, فقال: ألا تعلم يا رسول الله أني لا أملك شيئاً! فقال النبي: بل عندك!! وعليك أنْ تُعطي!! فقال: ما عندي, فقال حضرته: إنّ في منزلك الذي كنتَ قد انطلقتَ منه كيساً من الذهب, وقد أوصيتَ عيالك أنْ يحفظوه, وقلت لهم: إنْ أنا رجعتُ فسوف أتصرّف بنفسي, وأما لو متُّ فافعلوا كذا وكذا.. أليس ذلك بمقدار فديتك؟! وفجأة ارتفع صوته قائلا: يا محمّد.. مَنْ الذي قالَ لك؟ مَنْ؟ غير معقول, إنّ ذلك كان بينه وبين زوجته, والنبي يخبره به هنا, فقال النبي: الله.. الله.. ربي, ربي, جبرائيل, حبيبي جبرائيل أخبرني بذلك عن الله.. وحينئذ قال العبّاس: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأنّك رسول الله, وأحضر الأموال من مكّة, وسلّمها إلى النبي ثم تحرّر.
فالمقصود من ذلك, هو أنّ وظيفة هذا النبيّ إخراج الناس من جهنّم إلى الجنّة, حتّى ولو بالسيف أو السلاسل, وهذا هو مقام رحمة رسول الله الواسعة, فلا بدّ للنّاس أن يدخلوا الجنّة, فالناس لم يخلقوا لأجل جهنم (خلقتم للبقاء لا للفناء)([20]).
ولو كان تفكير الإنسان منحطّاً ومتدنيّاً, فسوف يضلّ ويضيع في المتاهات, لذلك نرى أنّ القرآن المجيد يشير دائماً إلى مادة "ضلال" (أنتم ضللتم أو في ضلال مبين...), فهم كذلك في أفكارهم ضائعون, لا يستطيعون أن يترقّوا إلى الأعلى, فهم كفّار, مشركون, هم ضائعون تائهون, أي إنّهم ضالّون, يعني هم ضائعون متورّطون, لا يستطيعون أنْ يتجاوزوا أفكارهم ونيّاتهم, أمّا المؤمنون فلا يضلّون ولا يتقهقرون, بل يترقّون بواسطة ذاك النور, وحينئذ يتّخذ كلٌّ منهم مكانته ـ كلٌّ حسب مقامه ودرجته ـ فمن كانَ نوره أكثر, وكانت معرفته أكثر.. تقواه أعلى.. طهارته أشدّ.. فستكون مكانته أعلى وأرفع.
كما ولا بدّ لهذا المسير أن يُطوى بالاختيار, فلا فرق في ذلك بين النبي أو الإمام أو الإنسان العادي, فكلّ ما بَلَغَهُ النبي من المقامات وأدركه من الدرجات إنّما أحرزه بالمجاهدة, ومن خلال الالتزام بالتكليف الصادر من الله:
يَأَيهَُّا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا*نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً*أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً*إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلاً*إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطًْا وَ أَقْوَمُ قِيلا( ([21]) فانهضْ! وقمْ بإحياء الليل, فالنّبي الذي قامَ بجميع عباداته في غار حراء, في أماكن العزلة تلك, ولمدة أربعين سنة, وطوى كلّ الدرجات وحاز على جميع الكمالات, والآن وبعد أن صار نبيّاً, يقال له: يجب عليك أنْ تقومَ الليل واقفاً على قدميك, لابدّ وأنْ تستيقظَ نصفَ الليل أو أكثر أو أقل, يجبُ أن تقفَ على قدميك في محراب العبادة.. تدعو الله.. تذكره.. تتوجّه إليه في الليالي.. حسناً, وحينما ينقشع النّهار, اذهب واسبَحْ في بحرٍ من عالمِ الكثرة, وأما الليل, فتزوّد, وفي النّهار أنفقْ.. يجب أن تتزودَ في الليل, وإنْ تنمِ الليل فسينقصُ من زادك, بل سوف لا تتزوّد أبداًَ, وماذا ستنفقُ حينئذٍ في النّهار!! فالصندوق خال.. وما عساك تنفق؟! فتعالَ واملأه في الليل.. ثم اذهب وأنفق في النّهار, حينئذ لا ينقص رأس مالك أبداً, ولا ينقص شيءٌ من وجودك, بل هناك نشاطٌ وابتهاج.. عزّة نفس.. قدرةٌ وكمالٌ معنوي.. وأمّا لو أردت أن تستهلك من ذاتك, فسوف ينتهي صندوقك ويفرغ, وسوف تبقى يدك خالية ( إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلاً)([22]) سوف نلقي عليك قولا بليغاً وثقيلاً جداً, ما هي هذه الوظائف؟ هي للنبي صاحب مقام (أَوّلُ ما خَلَقَ الله)([23]) وأشرف بني آدم وأشرف المخلوقات, وتكليفه إنّما يتناسب مع درجاته ومقاماته, والنبي يرحّب بذلك.. أهلاً وسهلاً ومرحباً.. يأخذه بصدرٍ واسع ويقول: على عيني.. أنا خادمك.. إلهي أنا عبدك.. إلهي أنت أعنّي.. إلهي أعنّي.. إلهي لا تكلني إلى نفسي.. فأنا عبدٌ لك فقير حقير مسكين ( َ وَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لَا نَفْعًا وَ لَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَ لَا حَيَوةً وَ لَا نُشُورًا )([24]) فحضرتك أنت كنت قد أعطيتني المنوِّم وأخضعتني لمبضع الجراحة([25]), فضعفنا جليّ واضح كالشمس, أليس كذلك! ألم ترَوا ذلك في نفوسكم!!فنحن كسائر الموجودات, ضعف وهوانوعجز.. لا حول لنا ولا قوّة.. أفقر من كلّ الفقراء.. وأصغر من كلّ صغير.. فنحن كنّا ميّتين, أليس كذلك؟! ألم نكن ميّتين؟! فالذي أحيانا هو الله, هل حياتنا من أنفسنا؟! هل نحن الذين أوجدنا ذاتنا وأنفسنا؟! فالحياة والموت كلاهما بيد الله, فإن أراد الله إبعاد الموت عن أحدٍ فسوف يخلد حيّاً, وسوف لن يطاله الموت أبداً, بل سوف لا يستطيع تغييب الوعي عن نفسه, حتّى وإن اجتمع تمام أطبّاء العالم!! فحينما أراد الله, أصبحنا بكامل وعينا, وحينما أراد الله, أصبحنا في سبات عميق, فبإرادة الله تعطّلت العين, وحينما أراد صلحتْ. نعم! فنحن جميعاً قابعون تحت سلطة الأمر والنهي التكويني, ومدرَجون تحتَ شعاعِ الوجودِ الخارجي لله تعالى, والله العليّ الأعلى يقول لنبيّه: أيّها الرسول, يجب أن تنكشفَ لك هذه الحقيقة ـ وقد انكشفت له فعلاً ـ إنّ تلكَ الدرجات العالية والتوحيد الخالص والفائق على توحيد جميع الأنبياء, وأشرف من كلّ الأنبياء, فتوحيد رسول الله أعلى من الجميع, يجب أن تعلم أنّك لا تملك لنفسك أيَّ نفعٍ ولا ضرٍّ, ولا حياةً, ولا نشوراً, بيده الملك وهو على كلّ شيء ( بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلىَ كلُِّ شىَْءٍ قَدِير )([26]) ولذلك نرى القرآن والذي يمثّل صحيفة إلهية نزلت على رسول الله, نراه كيف يبيّن ويوضّح هذه المسألة, وأيُّ توحيدٍ يبيّن لنا ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِتُؤْتىِ الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَ تَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَ تُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيرُْ إِنَّكَ عَلىَ كلُِّ شىَْءٍ قَدِير)([27]) فلا أحدَ يمتلك ملكاً غيرك, تعطي يوماً بدون حساب, وليس الرزق مجرّد الخبز واللحم, فتفكير الإنسان هو رزق من الله, عقل الإنسان رزق من الله, حياة الإنسان هي رزق من الله, اعتقادات الإنسان رزق الله, إيمان الإنسان رزق الله.. فمن اللازم علينا نحن الأناس الحقيرون أن نرفع يدنا إلى الله ونقول: إلهي, نحن عبيدٌ لك.. متمحّضون في العبوديّة, وكلّ ما نريده إنّما نطلبه منك, لو أردنا خبزاً, نأخذه منك.. نريد اللباس فنطلبه منك.. إن مُزّقت ثيابنا واحتجنا إلى إبرة لرقعها, فلا نطلب إلا منك, نطلب منك وحدَك.. لا نطلب من غيرك.. وهذا لا يكون بأن نقول للخيّاط لا تخِطْ!! بل بأنْ لا نرى الخيَّاط غيرَك, لا نعتمد على الخيّاط, وإلا نتخلّف ونتأخر ونتعطّل عن السير إلى يوم القيامة!! وتبقى ملابسنا ممزّقة ولا يستطيع أحدٌ رقعها!!فلا نحن نستطيع, ولا يد الخيّاط تقوى على الحركة!! فالخيّاط, والبقّال, والفلاّح, هذا العامل, ذاك, هؤلاء جميعهم آياتك, كلّ هؤلاء عبيدُك, و حاملوا أوامرك, فأنتَ الذّي أمرتَهم أنْ يقوموا بتلك الأفعال على هذا المنوال, ونحن كذلك عبيدك, وكلّنا عبارةٌ عن يدك, ولا فرق حينئذ بين الروحانيّات والمعنويّات والماديات, فالكلّ لله. وحينئذ حيث نشاهد وندرك بالوجدان كيف أنّك وهبتنا هذه الأمور المادية وأعطيتنا إيّاها, ثمّ وهبتنا العقل, وأوصلتنا إلى هذا العالم وأبعدت عنّا المهالك, ففي كلّ لحظة يمرّ علينا الآلاف من المنحدرات والمزالق والمطبّات والعقبات والتشعبات الوعرة والمرتفعات المهلكة والعجيبة في حياتنا, كلّ لحظة يمرّ علينا الآلاف بل الملايين ممّا يتهدّد حياتنا ويُميتنا..ومعَ كلّ ذلك قد عَبرتَ بنا وجاوزت بنا جميع ذلك وأتيت بنا إلى هنا, والآن, نَحسبُ أنّ جميعَ هذه القدرة من عندنا, نتخيّل أنّ هذا المنزل من عندنا, هذا السروال من عندي, هذه السيارة من عندي, هذا الإصبع من عندي, هذه الطاولة من عندي, ونشرع نقول: إلهي أعطنا أشياء قيّمة!! ملّكنا إياها.. اجعلها ملكاً لنا نحن!!
لا.. فالكل لك, وكلّ شيء هو لك أنت, وليس لنا, فالكلّ لك دون تفاوت, وشكرنا إليك وحمدنا لك, إنّما هو بالمقدار الذي أدركنا وفهمنا فحسب, وإن لم نفهم ذلك بأنْ بقينا كذلك إلى آخر عمرنا نتخيّل أنّنا شركاء لك ونتوهم أنّه لا بدّ وأن تقسّم الأمور فيما بيننا, بأن تكون الأمور المادية بقوة الإنسان وقدرته, والأمور المعنويّة بيد الله, فنحن مثل الإيرانيين القدماء من الثنويّين من عبدة الأصنام, حيث كانوا يعتقدون بإله الظلمة وإله النور, كانوا يؤمنون بـ "يزدان" و "اهرمن".
إلهي لا مؤثر في عالم الوجود غيرك, لا حول ولا قوة لغيرك, فأنت متفرِّد بالحياة, وأنت متفرِّد بالقدرة, وأنت متفرد بالحكمة, وأنت المتفرد بالرازقيّة, ولا فرق في ذلك سواء أردت أن ترزقنا رزقاً مادياً أم معنوياً, ترزقنا عقلاً أو تعطينا روحاً ونفساً, لا فرق في كلّ ذلك, وهو واحد بالنسبة لك, فهو يفرق بالنسبة لنا نحن,فنحن الذين إنْ أردنا حملَ شيءٍ أو وعاءٍ.. فسوف يفرق حالنا إن كان 500 غرام أو 100 غرام فنقول هذا خفيف, وأما لو كان مثلا عشر كيلوات فنقول: هذا ثقيل, وما ذلك إلا لأنّ قدرتنا محدودة, و من خلال هذه القدرة نراه خفيفاً أو نستثقله, فيكون ثقيلاً وأثقل.. وأمّا بالنسبة لك, فلا حدّ ولا أشدّية ولا أضعفيّة, لا وجود للأقلّ والأكثر بالنسبة لك, ولا معنى للأزيد ولا للأقل, قدرتك واحدة بالنسبة لجميع الموجودات, تريد أن تخلق جبرائيل أم تريد أن تخلق بعوضة.. كلاهما واحد على السواء, وهذا هو حقيقة الأمر, لا فرق في أن يريد الله خلق جبرائيل أو خلق رسول الله أو خلق بعوضة, فلو أراد أن يخلق ذرّة أو مجرّة, أو يُعدم المجرّة أو الذرّة, كلّ ذلك على السواء, لأنّ القدرةَ من ناحيته على نسق واحد.
وها هي بصيرتنا قد تفتّحت, وأعيننا قد أبصرتَ, وصِرنا متنبّهين ومقرّين ومعترفين كذلك, والحال أنّ نفس يقظتنا هذه هي منك, وإن لم تشأ, فسوف نبقى في تلك الغفلة.. وننامُ في سباتٍ عميق, ونهوي في غياهب ذاك الانحطاط السحيق, تماماً كالذي نشاهده من آلاف الأفراد مثلنا غارقين في سباتِ الغفلة لا يستيقظون ولا يتنبّهون.. أليس كذلك؟! فأنت الذي أيقظتنا ونبّهتنا كي نسجد لك ونشكرك, فنحمدك ونشكرك ونثني عليك, ونقول: كم هو لطيف هذا الإله.. أيّ إلهٍ رقيق ولطيف أنت, أيّ إله عطوف أنت.. فأنت أعطيتنا الحُسن والنعَم, وبإرادتك كان ذلك.. إرادتك أنت..فجعلت أبي حسناً.. وجُدتَ بالحُسن على أمّي.. على أخي.. جدي.. جدّي الأكبر.. أعطيتني الحُسن لي أنا.. هذا الحُسن من أين؟ غير أنّه من عطائك أنت.. فأنتَالجميل.. أنتَ الجميل..
فكلُّ جميلٍ حسنه من جمالها معارٌ له بلْ حسن كلّ مَليحة([28])
فهي ترشّحاتٌ منك, وهي انعاكاساتٌ من نور وجودك, الذي لم يصلْ منه إلا النزر اليسير إلى الموجودات, كذلك لك الشكر والثّناء على أنْ أحببتنا.. ولو شئتَ لما أحببتنا, ولا يستطيع أحدٌ أن يلزمك بذلك ويجبرك على القيام به أبداًً ( لَا يُسَْلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسَْلُون ) ([29]).
ولو أردتَ أن تتولّدنا من مخلوقٍ غليظٍ حادٍ وشقي وأن تجعلنا من نسله, لما استطاع أحدٌ أن يقف في وجه تقديرك, أو يمنعك من إرجائه, كذلك لو قدّرت لنا أنْ ننتسب لأبٍ شقيّ, أو أمٍّ شقيّة, جدٍّ شقي, بل حتّى لو أردتَ أن تجعلنا مع الأشقياء كذلك, فمآل الأمر إليك, والأمور طُراّ بيدك, ونحن كما تقضي وتقدّر أنت, وكذلك الأمر بيدك, فها نحن الآن نشكرك ونحمدك على قدر طاقتنا ومعرفتنا, بل إنّ نفس ذلك نراه منك, ونعترف أنّ حُسنَ الأمّ وطيبتها هي منك.. كذلك أبوّة الأب نراها منك أنت, كذلك نفس حُسنك أنتَ فهومنك دون غيرك, ونُذعنُ أنّ الكمال منك لا شريك معك فيه.
|