من أبرز الحالات التي تصل إليها المجتمعات كنتيجة طبيعية للفوضى هي حالة الأناركية أو اللاسلطوية بمعنى انعدام أثر السُلطة المركزية بما يسمح لانتشار الفوضى وعموم الصِراع بين الطبقات والتيارات، وهذه الحالة هي من أخطر الحالات التي تمر بها المجتمعات الثورية، وقد حدثت هذه الحالة في مصر واستمرت عِدة أشهر، وهناك شكوك لاحتمال استمراريتها حتى بعد إجراء الإنتخابات التشريعية، بمعنى أن الحالة قد تكون هدفاً لخصوم الثورة بحيث تُنشئ حالة سخط عامة قد تجلب العنُف، وطبيعة عمل ما بعد الثورات تتسم في العادة بالحرص على السيطرة على الأوضاع في ظل تربص الخصوم السياسيون أملاً في اقتناص مقاعد الحُكم.
يعني ذلك أن بقاء المجتمع في حالة اللاسلطوية هو تهديد حقيقي لهوية المجتمع، بمعنى أنه كلما طالت مُدة الحالة كلما تراكمت سلبيات الحالة كأعباء على كافة الخصوم السياسيين، وبالتالي ينشأ دافع لدى أغلب الأطراف المتصارعة يدفعهم للصدام دفاعاً عن أنفسهم في ظل مجتمع يَعِجّ بالسلبيات، ومن تفريعات هذه الحالة تخرج حالة العِصيان المدني، وهذه الحالة وإن كانت في مضمونها وسيلة سلمية للصراع وتُخرج المجتمع من شَبح العُنف إلا أنها قد تصلح في مجتمعات مثقفة كآداه للصراع، أما المجتمع القائم على الفرز إما الطائفي أو الأيدلوجي فالعصيان المدني فيه ستكون نتائجه أقرب إلى العنف منه إلى اللاعنف.
من أخطر السلوكيات الغير منتظمة تلك التي تستهدف أرواح الأبرياء، فيما يُعرف لدينا بالأعمال الإرهابية المقصود منها إثارة الذُعر وإراقة أكبر كم من الدماء ، هذا السلوك وإن كان وراءه من مستفيد إلا أن أضراره على المدى البعيد في منتهى الخطورة على الجميع بلا استثناء، حيث تعمل تلك الأفعال الحمقاء على تفكيك البِنية الروحية للأفراد والجماعات، وتخلق واقعاً كئيباً ملئ بالسلبيات، علاوة على كونها مؤثرا مُرعباً على أرواح وأنفس الصِغار، أتساءل لماذا لايستحي إعلامنا المبارك من نشر مناظر وصور الدماء والأشلاء، وهل انتبه هؤلاء "العباقرة"إلى النتائج الوخيمة لتلك المشاهد على صور وأذهان الناس.
إن من الظُلم البائن أن يدفع الأبرياء فاتورة الحرب السياسية، وأن يعمل الإعلاميون والسياسيون على خلق حالة من البلبلة قد تتسبب في تفكيك المجتمع تفككاً معنوياً بحيث يضعف الإنتماء ويتقوقع كل طرف في محصنه ذائداً عن أهدافه مهما بلغ عدد الضحايا، إنه الكٍِبرُ بعينه، أن يرى المتصارعون الأرواح وهي تُزهق دون مقابل، وأن تتناثر أشلاء الضحايا دون اعتبار، وأن يُذبح الناس وعُقلائهم في غمرة التمترس خلف شعاراتهم الكاذبة، لا أغلى عند الله من أرواح ودماء البشر، وخير الناس من عمل على الصُلح وحقن الدماء ولو كان جاهلاً، وشر الناس من استحل دماء الأبرياء ولو كان عالماً
إن النُظم التي تحاول تغيير المجتمعات بالقوة تفشل دائماً، وأي وسائل تعتمد على العنف والقهر فهي عاجزة، فالحب لا يأتي بالإرغام ، فهو كالنبات الربّاني الذي لا يستغني عن الطين والتراب والماء والشمس..هكذا أستشعر حديث الدكتور مصطفي محمود حين تحدث عن أولياء الشيطان الذي ظنّوا بجهلهم أنهم مَلَكوا العالم بقوتهم أو انداحت لهم الأرض طوعاً وكرها...وكما هؤلاء لا يحفظون حق الغير فهم لا يحفظون حق أنفسهم التي لولا وجود الغير ما كان لهم وجود في هذا الكوكب...فالشعور بالنفس يقوم على الشعور بالوجود، والعقل البشري يتصور تجاربه وجود،ولو ما كانت التجربة لكان الشعور بالعدم..إنه شعور حقيقي بالفشل.
أنا من أنصار ضرورة وجود الإصلاح الديني الذي يسبق ثورات الشعوب ، أو أن يسري هذا الإصلاح بالتوازي مع الفِعل الثوري، فحركة الإصلاح الديني في المجتمع العربي عامة أظنها نادرة إن لم تكن معدومة بدلالة جمود الإجتهاد المترافق مع الصعود الإعلامي والسياسي للأصوليين الإسلاميين..وهنا أفرّق بين حركة الإصلاح الديني في أوروبا وبين مثيلتها في العقل المسلم لأسباب كثيرة لا تتسع الصفحات لذِكرها، ولكن سأكتفي بالإشارة إلى وجود عِدة أزمات ثقافية وأخلاقية حادة عند المواطن العربي والمسلم، حيث أجبرته هذه الأزمات على قبول التناقض والتعايش معه بعدم الشعور.
هذا التناقض الذي جعل من العربي يمارس شعائره الدينية في بلاد الغرب والشرق بكل أريحية، لكن تراه في ذات الوقت لا يستطيع ممارستها في بلاده ووسط أقرانه، هذا التناقض الذي جعلنا نصرخ من ضرواة.."الحرب على الإسلام"..بمجرد منع بناء المآذن في مساجد سويسرا، لكن في ذات الوقت لا مانع من هدم أو محاربة بناء الكنائس في بلادنا،هذا التناقض الذي جعلنا نرصد تمدد الإسلام في أوروبا استغلالاً لحُرية العبادة والدعوة في تلك البلاد البعيدة، ولكن في ذات الوقت وبمجرد رصد أي دعوة لدين آخر أو مذهب آخر في بلادنا تثور ثورتنا مُنذرةً بقُرب القيامة وأهوالها بقبول الدعوةِ إلى الكُفر والزندقة..ياله من تناقض..!
نترك مسألة الإصلاح الديني فالحديث فيها يطول..
ما أود قوله هو أن الحِراك الجماهيري قد يُنتج مشاريعاً فكرية في حال بروز حركة إصلاح ديني قبيل القيام بهذا الحراك، أما وأنّ حركة الإصلاح الديني معدومة فلا أستطيع تصور مشروع هذا الحِراك بعيداً عن كونه أصبح مشروعاً للغضب وليس مشروعاً للنهضة، ومشروع الغضب هذا سهل القيام به والجميع قادر على أن يغضب، ولكن ليس لهذا الجميع القُدرة على أن يُحوّل غضبه إلى نهضة إلا بعد توفر شروط أهمها شرط .."القُدرة على التغيير".. وفي هذه قد نختلف، فتصور القوة نسبي-أحياناً-وفي المحصلة تخضع هذه القوة لميزان الحق والعدل، فإذا غابت روح العدل خارت القوى، وإذا اختلفنا في الحق فلا قوة حاضرة.
على جانبٍ آخر فقد لا تأتي الثورات بأي مشروع ولكنها تخلق -في حال تمكنها- فراغاً يؤسس لمنطقة عمل لقوى المستقبل، هذا فقط في حال التمكين ولهذا نُشدد مراراً على ضرورة وجود قوى التغيير الحقيقية وليست المتوهمة، وفي الحالة السورية لا أجد حقيقةً هذه القوى ، فجميع من على الساحةِ ضعيف ولا يملكون هؤلاء من أمرهم إلا ما صاغه لهم الآخرون، حتى النخبة لديهم مُعطلة ، فلا مشاريع حقيقية يطرحونها في الإعلام، حتى تحليلاتهم وتوقعاتهم السياسية في الغالب تطيشُ طيشاً غريباً لم نعهده على رؤى هذه النخبة من قبل، تلك النُخبة التي كانت رؤاها في الماضي تنبؤاتاً تتدارسها كُبرى المراكز السياسية والإستراتيجية.
استفزني منذ أقل من عام تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية التي وجهته للمعارضة وقالت فيه بضرورة التسلح للمعارضين وعدم إلقاء السلاح كما طلبت الحكومة كشرط وحيد للتفاوض ونزع فتيل الأزمة هذا منذ أقل من عام، تخيلوا لو كانت المعارضة ألقت السلاح في هذا التوقيت هل كان لنا أن نرى هؤلاء الشهداء والقتلى تغص شوارع سوريا بأجسادهم...بالطبع سيكون الوضع مختلف، وقد تكون المعارضة حينها قد حصلت على ما يمكنها من المنافسة الحقيقية على الحُكم عبر حشد قواها الثورية في الإنتخابات،ولو أرهبهم هاجس التزوير فكان بالإمكان طلب أي رقابة دولية لضمان نزاهة الإنتخابات، وهذا الطلب لا أتوقع أن ترفضه الحكومة، فهو يمثل لها طوق نجاه عبر كونه النفق الوحيد لعودة الشرعية الدولية لها..
لا أرى حُسن نية من الجانب الأمريكي فلو أرادوا السلام وحقن الدماء لدعوا الجميع إلى طاولة المفاوضات، أما ما حدث فلا أستطيع تفسيره إلا بصب الزيت على النار...وكأنه إثباتٌ لما رصدناه في السابق بوجود حقيقي للفوضى الخلاقة، فلا هم يريدون انتصار المعارضة أو تقدمها، وفي ذات الوقت يقومون وبشتى قواهم على تسليح المعارضة كي تُشغّب على الحكومة...إذاً ماذا نستشف من هذا الوضع الغائم؟!..أعتقد أنه لو كان هناك وجوداً حقيقيا للمشروع الفكري على أجندة المعارضة لما كان لنا الوصول إلى تلك الحالة الواضح أنها لا تخدم أي طرف سوى أعداء الشعب السوري في الخارج، حتى فكرة الديمقراطية التي يتغنى بها الثوريون فيتناسون أن الديمقراطية في حقيقتها عبارة عن آلية وليس مشروعاً فكرياً نهضوياً.