قصّة تسبيحة الزهراء عليها السّلام
• روى الشيخ الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السّلام حديثاً طويلاً جاء فيه: انّ فاطمة عليها السّلام استَقَتْ بالقِربة حتّى أثّر في صدرها، وطَحَنت بالرَّحى حتّى مَجَلت(13) يداها، وكَسَحَت البيت حتّى اغْبَرّت ثيابُها، وأوقَدَتْ تحت القِدر حتّى دَكُنَتْ ثيابُها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فأتت أباها رسول الله صلّى الله عليه وآله خادماً يكفيها ممّا هي فيه، فقال لها صلّى الله عليه وآله: أفلا أُعلّمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم ؟ إذا أخذتُما منامكما فكبِّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبِّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة. فأخرَجَتْ فاطمة عليها السّلام رأسها وقالت: رَضِيتُ عن الله وعن رسوله، رَضِيتُ عن الله وعن رسولهِ(14).
• وروى الحرّ العاملي في الوسائل عن الإمام الصادق عليه السّلام ( ضمن حديث ) أنّه قال: سَبِّح تسبيح فاطمة عليها السّلام... فواللهِ لو كان شيء أفضل منه لعلّمه رسول الله صلّى الله عليه وأله إيّاها(15).
• وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام ذَكَر فيها قصّة تعليم النبيّ صلّى الله عليه وآله فاطمة عليها السّلام التسبيحة، جاء فيها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لها بعد أن علّمها التسبيحة: وذلك خيرٌ لكِ من الذي أرَدتِ، ومن الدنيا وما فيها؛ فلَزمَتْ صلوات الله عليها هذا التسبيح بعد كلّ صلاة، ونُسب إليها(16).
لقد طلبت الزهراء من أبيها خادماً تعينها في عمل البيت بعد أن أصابها الضرّ الشديد وهي النحيفة الرهيفة، فعلّمها صلّى الله عليه وآله تسبيحةً عُرفت فيما بعد بتسبيحة الزهراء عليها السّلام، فقالت عليها السّلام: رَضِيتُ عن الله وعن رسوله. وإنّما أراد النبيّ صلّى الله عليه وآله بذلك أن تكون فلذة كبده وبضعته الطاهرة مثالاً كاملاً لنفسه الشريفة في الزهد في الدنيا وتحمّل مشاقّها، وقد قال عنها صلّى الله عليه وآله: فاطمة بضعة منّي.
وجاء نظير هذه القصّة في شأن جعفر بن أبي طالب عليه السّلام لمّا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله من الحبشة، حيث رُوي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قام إليه واستقبله وقبّل عينيه وبكى، وقال: لا أدري بأيّهما أنا أشدّ سروراً: بقُدومك يا جعفر، أم بفتح الله على أخيك خيبر ؟! فعلّمه صلاةً سُمّيت باسمه(17).
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السّلام، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال له: يا جعفر، ألا أمنحك ؟ ألا أُعطيك ؟ ألا أحبوك ؟ فقال له جعفر: بلى يا رسول الله.
قال: فظنّ الناس أنّه يُعطيه ذهباً أو فضّة، فتشوّق الناس لذلك، فقال له: إنّي أُعطيك شيئاً إنْ أنتَ صنعتَه في كلّ يوم، كان خيراً لك من الدنيا وما فيها. ثمّ علّمه صلّى الله عليه وآله صلاةَ جعفر(18). وهي الصلاة المعروفة بصلاة التسبيح.
--
13 ـ مجلت اليد: ظهر فيها المَجل، والمجلة قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل الشاقّ.
14 ـ من لا يحضره الفقيه 211:1 / ح 32.
15 ـ وسائل الشيعة 1025:4 / ح 3.
16 ـ بحار الأنوار للمجلسي 336:85 / ح 25.
17 ـ بحار الأنوار للمجلسي 24:21 / ح 18.
18 ـ بحار الأنوار للمجلسي 24:21 ـ 25 / ح 20.
المتهجّدة في المحراب
• روي الشيخ الصدوق وأبو جعفر الطبري عن الإمام الحسن عليه السّلام ( والنصّ للصدوق ) أنّه قال: رأيتُ أمّي فاطمة عليها السّلام في محرابها ليلة جمعتها، فلم تَزَل راكعةً ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم وتُكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلتُ لها: يا أمّاه، لِمَ لا تدعونّ لنفسك كما تدعونّ لغيرك ؟ فقالت: يا بُنيّ، الجار ثمّ الدار(19).
• وروى الشيخ الصدوق أيضاً عن أبان بن تَغلِب، قال: قلت لأبي عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام: يا بن رسول الله، لِمَ سُمّيت الزهراءُ عليها السّلام زهراء ؟
فقال: لأنّها تَزهر لأمير المؤمنين عليه السّلام في النهار ثلاث مرّات بالنور، كان يَزهر نور وجهها صلاةَ الغَداة والناس في فرشهم، فيَدخُل بياض ذلك النور إلى حجراتهم بالمدينة فتبيضّ حيطانُهم فيعجبون من ذلك، فيأتون النبيَّ صلّى الله عليه وآله فيسألونه عمّا رأوا، فيُرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السّلام، فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلّي والنور يسطع من محرابها ومن وجهها، فيعلمون أنّ الذي رأوه كان من نور فاطمة.
فإذا نَصَفَ النهار وترتّبت للصلاة زَهَرَ وجهُها عليها السّلام بالصُّفرة، فتدخل الصفرة حجرات الناس، فتصفرّ ثيابهم وألوانهم، فيأتون النبيّ صلّى الله عليه وآله فيسألونه عمّا رأوا، فيُرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السّلام، فيرونها قائمة في محرابها وقد زَهرَ نورُ وجهها بالصفرة، فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجهها. فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس، احمرّ وجه فاطمة عليها السّلام، فأشرق وجهها بالحُمرة فَرَحاً وشُكراً لله عزّوجلّ، فكان يدخل حُمرة وجهها حجرات القوم وتحمرّ حيطانُهم، فيعجبون من ذلك، ويأتون النبيّ صلّى الله عليه وآله ويسألونه عن ذلك، فيُرسلهم إلى منزل فاطمة، فيرونها جالسة تسبّح الله وتمجّده ونورُ وجهها يَزهر بالحُمرة، فيعلمون أنّ الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة عليها السّلام. فلم يزل ذلك النور في وجهها حتّى وُلد الحسين عليه السّلام، فهو يتقلّب في وُجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمّة منّا أهل البيت، إمامٍ بعد إمام(20).
نرى أنّ الحديث الشريف يتحدّث عن علاقة خاصّة بين الصدّيقة الزهراء عليها السّلام والمحراب والعبادة والتهجّد، فهي تسبق الناس إلى المحراب والناس في فرشهم، مجسّدةً أحد أبرز مصاديق الآية الكريمة تتجافى جُنوبُهم عن المضاجع يَدعونَ ربَّهم خوفاً وطمعاً (21). كما نلاحظ أنّ الناس كانوا يأتون النبيّ صلّى الله عليه وآله وقد عَجِبوا من النور الذي غمر بيوتهم حتّى ابيضّت منه حيطانهم، فيسألونه عن سرّ ذلك، فيُرسلهم صلّى الله عليه وآله إلى منزل فاطمة عليها السّلام، فيرونها في محرابها تصلّي، ثمّ يأتونها ظهراً فيرونها قائمة في محرابها، ثمّ يأتونها آخر النهار فيرونها جالسةً في محرابها تسبحّ الله وتمجّده.
ولا عجب، فإنّ بيت فاطمة عليها السّلام من أفضل بيوت الأنبياء ـ كما في حديث سابق ـ ومن البيوت التي أذِن اللهُ أن تُرفع ويُذكَر فيها اسمه، ومن البيوت التي ساكنوها ممّن لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بَيع عن ذِكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
ونلاحظ من الحديث الشريف السابق أنّ ذلك النور انتقل إلى الإمام الحسين عليه السّلام، ومنه إلى الأئمّة من ولده عليهم السّلام، فهو يتقلّب في وجوههم إلى يوم القيامة، وهو في عصرنا هذا في وجه صاحب العصر والزمان عليه السّلام، فإذا أذِن الله تعالى له بالظهور، استغنى العباد بنور وجهه عن نور الشمس والقمر(22).
• وروى الشيخ الصدوق عن محمّد بن عمارة، قال: سألت أبا عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام عن فاطمة، لِمَ سُمّيت الزهراء ؟ فقال: لأنّها كانت إذا قامت في محرابها زَهَرَ نورُها لأهل السماء كما تَزهَر نور الكواكب لأهل الأرض(23).
• ومن ألقاب فاطمة عليها السّلام: المتهجّدة الشريفة(24)، وهو لقب أُطلق عليها لكثرة تهجّدها في محرابها، وقد سبق أن ذكرنا رواية عن الحسن البصري أنّها عليها السّلام كانت تقوم في محرابها حتّى تتورّم قدماها، ورواية عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال عنها: إنّ ابنتي لَفي الخيل السوابق.
• ولقّبها أبو نعيم الاصفهاني بأنّها كانت من ناسكات الأصفياء، وصفيّات الأتقياء(25).
• وروى ابن شهرآشوب أنّها عليها السّلام ربّما اشتغلت بصلاتها وعبادتها، فربّما بكى ولدُها، فرُؤي المهد يتحرّك، وكان مَلَك يحرّكه(26).
• وروى عن الإمام الباقر عليه السّلام، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله سلمان إلى فاطمة. ( قال سلمان: ) فوقفت بالباب وقفةً حتّى سلّمت، فسمعتُ فاطمة تقرأ القرآن من جوّا وتدور الرَّحى من برّا(27) ما عندها أنيس.
وجاء في آخر الخبر: فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال: يا سلمان، ابنتي فاطمة ملأ اللهُ قلبَها وجوارحَها إيماناً إلى مُشاشها(28)، تفرّغت لطاعة الله، فبعث اللهُ ملَكاً ( وفي خبر: جبرئيل ) فأدار لها الرّحى، وكفاها الله مؤونة الدنيا مع مؤونة الآخرة(29).
وقد أوردنا أنّ من دعائها عليها السّلام « اللهمّ فَرِّغْني لِما خَلقَتَني له ( أي لعبادتك )، ولا تَشْغَلني بما تكفّلتَ لي به ( أي بمؤونة الدنيا )... وألهِمني طاعتَك والعملَ بما يُرضيك ».
19 ـ علل الشرايع 239:1 ـ 240 / ح 1 ـ الباب 145 ، دلائل الإمامة 56.
20 ـ علل الشرايع للصدوق 238:1 / ح 2 ـ الباب 143.
21 ـ السجدة:16.
22 ـ انظر: تفسير قوله تعالى « وأشرقَتِ الأرضُ بنورِ ربِّها » في التفاسير المرويّة عن أهل البيت عليهم السّلام.
23 ـ علل الشرايع 239:1 / ح 3 ـ الباب 143.
24 ـ مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 357:3.
25 ـ حلية الأولياء 39:2.
26 ـ المناقب لابن شهرآشوب 337:3.
27 ـ المراد بالجوّا: داخل البيت، والبرّا: ظاهره.
28 ـ المشاش: جمع المشاشة: رأس العظم الليّن.
29 ـ المناقب لابن شهرآشوب 337:3 ـ 338.