|
عضو نشط
|
رقم العضوية : 54647
|
الإنتساب : Aug 2010
|
المشاركات : 154
|
بمعدل : 0.03 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
محب الائمة للموت
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
بتاريخ : 27-12-2010 الساعة : 04:26 PM
خطبة زهير بن القين
ثم خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب، شاكٌ في السلاح فقال:
" يا أهل الكوفة نذارِ لكم من عذاب الله نذار، إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الان إخوة وعلى دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وأنتم أمة. إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صلى الله عليه وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا سوء عمرِ سلطانهما كله، لّيُسَمِّلان أعينكم ويُقطَّعان أيديكم وأرجلكم ويُمَّثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حُجر بن عَدِيّ وأصحابه وهانئ بن عُروة وأشباهه".
فسبوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما.
فقال لهم زهير:
" عباد الله إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام ".
قال فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: اسكت أسكت الله نَأمَتَكَ، أبرمتنا بكثرة كلامك.
فقال له زهير:
" ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة والله ما أظنّك تُحْكِمَ من كتاب الله ايتين فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم "
فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.
قال:
" أفبالموت تخوفني فوالله للموت معه أحب إليّ من الخلد معكم".
ثم أقبل زهير على الناس رافعاً صوته فقال:
" عباد الله لا يغرنكم من دينكم هذا الجَلِفُ الجَافي وأشباهه فوالله لا تنال شفاعة محمد صلى الله عليه وآله قوماً أراقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم "
فناداه رجل فقال له: إن أبا عبد الله عليه السلام يقول لك:
" أقبل فلعمري لئن كان مؤمن ال فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ".
خطبة بُرَيرِ بن خُضَير
وروي أن الحسين عليه السلام قال لبرير بن خضير الهمداني:
" كلّم القوم يا برير وعظهم "
فتقدم برير حتى وقف قريباً من القوم، والقوم قد زحفوا إليه عن بكرة أبيهم، فقال لهم برير:
" يا هؤلاء! إتّقوا الله فإنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه! فهاتوا ما عندكم؟ وما الذي تريدون أن تصنعوا بهم؟! "
فقالوا: نريد أن نمكّن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى رأيه فيهم؟
فقال برير:
" أفلا ترضون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي أقبلوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة! أنسيتم كتبكم إليه وعهودكم التي أعطيتموها من أنفسكم وأشهدتم الله عليها، وكفى بالله شهيداً! ويلكم دعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم من دونهم، حتى إذا أتوكم أسلمتوهم لعبيد الله! وحلأتموهم عن ماء الفرات الجاري! بئسما خلفتم محمداً في ذرِّيته! ما لكم! لا سقاكم الله يوم القيامة! فبئس القوم أنتم! "
فقال له نفر منهم: يا هذا ما ندري ما تقول؟
فقال برير:
" الحمد الله الذي زادني فيكم بصيرة، اللّهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم! اللّهم ألقِ بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان! "
فجعل القوم يرمونه بالسهام، فرجع برير إلى ورائه.
خطبة الحسين عليه السلام الثانية
وتقدم الحسين عليه السلام ورأى صفوفهم كالسيل فخطب ثانياً فقال:
" الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغَرور".
ومنها:
فنعم الرب ربنا وبئس العباد انتم، أقررتم بالطاعة وامنتم بالرسول محمد صلى الله عليه وآله، ثم أنتم رجعتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين.
تباً لكم أيتها الجماعة وترحا استصرختمونا والهين (1)، فأصرخنا كم مُوجفين (1)، سَلَلتُم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشتُم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدو كم، فأصبحتم إلباً (2) لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم. فهلا لكم الويلات، تركتمونا والسيف مَشيم (3)، والجأشُ (4) طامن، والرأيُ لما يُستحصَف (5)، ولكن أسرعتم إليها كطيرة (6) الدَبا (7)، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش (8)، فسحقاً (9) يا عبيد الأمّة (10) وشُذاذ (11) الأحزاب، ونَبذةَ الكتاب، ومُحرفي الكَلِم، وعصبة الاثام ونفثةَ (12) الشَيطان، ومطفئي السنن، أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ أجل والله الغدر فيكم قديم، وشَجَت (13) إليهِ أصولكم وتأزرت (14) عليه فروعكم، فكُنتُم أخبثَ ثمرٍ، شجّاً (15) للناظر وأُكلة للغاصب، ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السِلة (16) والذِلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حَمية ونفوسٌ أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحفٌ بهذه الأسرةِ مع قِلةِ العدد وخُذلةِ الناصر.
فإن نُهزم فهزامون قِدمَا***وما إن طَبنَا (1) جُبنٌ ولَكِن
إذا ما الموتُ رَفِعَ عن أُناسِ***فَأفنى ذَلِكُم سَرواةِ قَومي
فلو خُلِّد المُلوك إذاً خُلّدنا***فقُل للشامتينَ بنا أفيقوا
وإن نُغلَب فغيرُ مُغلَبينا***مَنَايانا ودَولةُ اخرينا
كَلاكِلَه (2) أناخَ باخرينا***كما أفنى القُرونَ الأولينا
ولو بقيَّ الكِرامُ إذاً بقينا***سيَلقى الشامتونَ كما لَقينا
ثم أيم الله لا تلبثون بعدها إلا كريث (3) ما يُركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدي. فاجمعوا أمر كم وشركائكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، إني توكلت على الله ربى وربكم، ما من دابة إلا هو اخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبّرةً (4)، فإنهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربنا عليكَ توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير "
ثم نزل عليه السلام ودعا بفرس رسول الله صلى الله عليه وآله المرتجز، فركبه وعبأ أصحابه للقتال، واستدعى عمر بن سعد وكان كارهاً لا يحب أن يأتيه فلما حضر قال له عليه السلام:
" أي عمر، أتزعم انك تقتلني ويوليك الدعي ابن الدعي، بلاد الري (1) وجرجان (2)؟ والله لا تهنأ بذلك أبداً، عهدٌ معهود، فاصنع ما أنتَ صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا اخرة، وكأني برأسك على قصبة قد نُصب بالكوفة، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضاً بينهم "
فغضب ابن سعد من كلامه، وصرف وجه عنه، ثم نادى بأصحابه: ما تنتظرون، احملوا باجمعكم، إنما هي أكلة واحدة.
موقف الحر الرياحي
وجاء الحر بن يزيد الرياحي، إلى عمر بن سعد، فقال له:
" أمقاتل أنت هذا الرجل؟ "
قال إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
قال الحر:
" أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضاً "
قال عمر بن سعد: أما والله لو كان الأمر إليّ لفعلت ولكن أميرك قد أبى ذلك.
فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل من قومه يُقال له قرة بن قيس، فقال:
يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟
قال: لا.
قال: أما تريد أن تسقيه؟
قال: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال وكره أن أراه حين يصنع ذلك.
فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فساقيه.
قال: فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه فأخذ يدنو من حسين قليلا قليلاً.
فقال له رجل من قومه يُقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟
فسكت وأخذته رعدة.
فقال له صاحبه: يا ابن يزيد والله إن أمرك لمريب والله ما رأيت منك في موقفٍ قط مثل شيء أراه الان، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة رجلاً ما عدوتك، فما هذا الذى أرى منك؟
قال الحر:
"إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وحرقت".
ثم ضرب فرسه فلحق بحسين عليه السلام فقال له:
"جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ولا يبلغون منك هذه المنزلة. فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أني خرجت من طاعتهم. وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى ذلك لي توبة؟".
قال عليه السلام:
" نعم يتوب الله عليك ويغفر لك. ما اسمك؟ "
قال:
" أنا الحر بن يزيد "
قال عليه السلام:
" أنت الحر كما سمتك أمك، أنت الحر إن شاء الله في الدنيا والاخرة انزل "
قال:
" أنا لك فارساً خير مني راجلاً أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري "
قال الحسين عليه السلام:
" فاصنع يرحمك الله ما بدا لك "
فاستقدم أمام أصحابه ثم قال:
" أيها القوم ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟
قالوا: هذا الأمير عمر بن سعد فكلمه، فكلمه بمثل ما كلمه به قبل وبمثل ما كلم به أصحابه.
قال عمر: قد حرصت، لو وجدت إلى ذلك سبيلاً فعلت.
فقال:
" يا أهل الكوفة لأُمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته وأصبح في أيدكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضراً وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري (..) وهاهم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمداً في ذريته لا أسقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه "
فحملت عليه رجالة لهم ترميه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين عليه السلام.
بداية الحرب
وتقدم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر الحسين عليه السلام بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى وأقبلت السهام من القوم كأنها المطر.
فقال عليه السلام لأصحابه:
" قوموا رحمكم الله إلى الموت الذى لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم "
فلما ارتموا بالسهام خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان، وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم!
فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن خضير، فقال لهما الحسين عليه السلام:
" اجلسا.. "
فقام عبد الله بن عمير الكلبي، فقال:
" أبا عبد الله! رحمك الله، ائذن لي فلأخرج اليهما "
فأذن له، فشد عليهما وقتلهما.
فأخذت أم وهب امرأته عموداً ثم أقبلت نحو زوجها تقول له:
" فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية محمد "
فأقبل إليها يردها نحو النساء، فأخذت تجاذب ثوبه، وهي تقول:
" لن أدعك دون أن أموت معك "
فناداها الحسين عليه السلام:
"جزيتم من أهل بيت خيراً، ارجعي رحمك الله إلى النساء، فإنه ليس على النساء قتال".
الحملة الأولى
وكانت الحملة الأولى على معسكر الإمام الحسين عليه السلام، فحمل عمرو بن الحجاج في ميمنة جيش عمر بن سعد من نحو الفرات فاضطربوا ساعة، وما ارتفعت الغبرة إلا ومسلم بن عوسجة الأسدي صريع، فمشى إليه الحسين عليه السلام فإذا به رمق، فقال له:
" رحمك الله يا مسلم، " منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً " "
ودنا منه حبيب بن مظاهر، فقال:
" عزّ عليّ مصرعك يا مسلم! أبشر بالجنة! "
فقال له مسلم قولاً ضعيفاً:
" بشرك الله بخير "
فقال له حبيب:
" لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك من ساعتي لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك ".
فقال له مسلم:
" فإني أوصيك بهذا وأشار إلى الحسين عليه السلام فقاتل دونه حتى تموت "
فقال له حبيب:
" لأنعمنك عيناً "
ثم فاضت روحه الطاهرة، رضوان الله عليه.
وهجم شمر بن ذي الجوشن في أصحابه، على خيم الحسين عليه السلام، فحمل عليهم زهير بن القين رحمه الله في عشرة من أصحاب الحسين عليه السلام فكشفهم عن الخيم، وقُتل بعضهم وتفرق الباقون.
وخرج يزيد بن معقل من جيش ابن سعد فقال: يا برير بن خضير كيف ترى الله صنع بك؟
قال:
" صنع الله والله بي خيراً وصنع الله بك شراً "
قال: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّاباً.
فقال له برير:
".. لندع الله أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل ثم اخرج فلأبارزك "
قال: فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحق المبطل. ثم برز كل واحد منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضره شيئاً وضربه برير بن خضير ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ، فخرّ كأنما هوى من حالق، وإن سيف ابن خضير لثابت في رأسه.
ثم تراجع القوم إلى الحسين عليه السلام فحمل شمر بن ذي الجوشن لعنه الله على أهل الميسرة فثبتوا له فطاعنوه، وأحيط بالحسين عليه السلام وأصحابه من كل جانب، وكان أصحاب الحسين عليه السلام أطواد بصيرة وهدى وثبات، يقتلون كل من يبرز إليهم.
فقال عمرو بن الحجاج وكان على الميمنة ويلكم، ياحُمَقاء. مهلاً! أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر وقوماً مستميتين، لا يبرزن منكم أحد إلا قتلوه على قلتهم، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم.
فقال ابن سعد: صدقت. الرأي ما رأيت، فأرسل في العسكر يعزم عليهم أن لا يبارز رجل منكم، فلو خرجتم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة. فأخذت الخيل تحمل، وأصحاب الحسين عليه السلام يثبتون، وإنما هم اثنان وثلاثون فارساً، ولم يكونوا يحملون على جانب من هذا الجيش إلا كشفوه. فلما رأى عزرة بن قيس وهو على خيل أهل الكوفة أن خيله تنكشف من كل جانب بعث إلى عمر بن سعد فقال: أما ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العِدة اليسيرة ابعث إليهم الرجال والرماة (..) فبعث المجففة وهي قوة كانت تحتمي مع خيولها بالدروع وخمسمائة من (الرماة) فأقبلوا حتى إذا دنوا من الحسين عليه السلام وأصحابه رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجالة كلهم.
صلاة الظهيرة
وبقي القتال على أشده حتى انتصف النهار، فكان إذا قُتل الرجل والرجلان من أصحاب الحسين عليه السلام يبين ذلك فيهم لقلتهم، ولا يبين القتل في جيش عمر ابن سعد مع كثرة من يُقتل منهم لكثرتهم، وكان قد قُتل من أنصار الإمام عليه السلام أكثر من أربعين.
واقترب وقت زوال الشمس، فقال أبو ثمامة الصائدي:
" يا أبا عبد الله! نفسي لك الفداء، إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، لا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها "
فرفع الحسين عليه السلام رأسه ثم قال:
" ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها "
ثم قال عليه السلام:
" سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي "
ففعلوا. فقال لهم الحصين بن تميم: إنها لا تُقبل.
فرد عليه حبيب بن مظاهر:
" زعمت الصلاة من ال الرسول صلى الله عليهم لا تقبل، وتقبل منك ياخَمَّار! " (1).
فحمل عليه الحصين بن تميم فخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف، فشبّ ووقع عنه، وحمله أصحابه فاستنقذوه.
وأخذ حبيب يقول:
أنتم أعد عدة وأكثر***ونحن أعلى حجة وأظهر
ونحن أوفى منكم وأصبر***حقا وأتقى منكم وأعذر
وقاتل قتالا شديدا حتى استشهد، فهدّ ذلك الحسين عليه السلام، وقال:
" عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي "
وكان حبيب من خواص أمير المؤمنين عليه السلام، ومن السبعين الذين نصروا الحسين عليه السلام ولقوا جبال الحديد واستقبلوا الرماح بصدورهم والسيوف بوجوههم وهم يُعرض عليهم الأمان والأموال فيأبَون ويقولون لا عذر لنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله إن قُتل الحسين عليه السلام ومنا عين تطرف حتى قُتلوا حوله..
ولما قتل حبيب أخذ الحر يقاتل راجلاً، فحمل على القوم مع زهير بن القين، فكان إذا شد احدهما فاستلحم شد الآخر واستنقذه، ففعلا ذلك ساعة.
فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر يحمل على القوم مٌقْدِماً، فبرز له يزيد بن سفيان، فما لبَّث الحر أن قتله.
واستبسل يضربهم بسيفه وتكاثروا عليه حتى استشهد رضوان الله عليه، فحمله أصحابه ووضعوه بين يدي الإمام الحسين عليه السلام وبه رمق، فجعل الحسين عليه السلام يمسح وجهه ويقول:
" أنتَ الحر كما سمتك أمك، وأنت الحر في الدنيا وأنت الحر في الآخرة "
وصلّى الحسين عليه السلام بأصحابه صلاة الظهر.
فوصل إلى الحسين عليه السلام سهم فتقدم سعيد بن عبد الله الحنفي ووقف يقيه بنفسه ما زال ولا تخطى، حتى سقط إلى الأرض وهو يقول:
" اللهم العنهم لعن عاد وثمود اللهم أبلغ نبيك عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك "
ثم التفت إلى الحسين عليه السلام، فقال له:
" أوفيّتُ يا ابن رسول الله؟ "
فقال الإمام عليه السلام:
" نعم، أنتَ أمامي في الجنة "
ثم قضى نحبه رضوان الله عليه فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح.
يوم عاشوراء
الحملة الثانية
ثم قال الحسين عليه السلام لبقية أصحابه:
" يا كرام، هذه الجنة فُتحت أبوابها واتصلت انهارها وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم، ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيه، وذبوا عن حرم رسول الله".
وجعل أصحاب الحسين عليه السلام يسارعون إلى القتل بين يديه، وكانوا كما قيل فيهم:
قومٌ إذا نودوا لدفع مُلمةٍ***لبسوا القلوب على الدروع
كأنهم
والخيلُ بينَ مُدعَس ومُكردَس***يتهافتون إلى ذهاب الأنفس
وكان كل من أراد القتال يأتي إلى الحسين عليه السلام يودعه، ويقول:
" السلام عليك يا ابن رسول الله "
فيجيبه الحسين عليه السلام:
" وعليك السلام، ونحن خلفك. ويقرأ: " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً " "
أفدي قرابين الإله مجزرين على الفرات***خير الهداية أن يكون الهَدْيُ من الهداة
من بعد ما قضوا الصلاة قضوا فداءً للصلاة
وأستأذن الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي الإمام الحسين عليه السلام بالمبارزة فأذن له، فنزل إلى الميدان شاداً وسطه بالعمامة، رافعاً حاجبيه بالعصابة لكبر سنّه، فلما راه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة، بكى، وقال له:
" شكر الله لك يا شيخ "
وكان هذا الصحابي ممن سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله، عن شهادة الحسين عليه السلام، والحث على نصرته، وقد قاتل رضوان الله تعالى عليه قتال الأبطال حتى نال الفوز بالشهادة.
ثم تقدم زهير بن القين وكان سبب التحاقه بالحسين عليه السلام، ما سمعه من الصحابي الجليل سلمان الفارسي عن كربلاء واستأذن بالقتال، ووضع يده على منكب الحسين عليه السلام وهو يقول:
أقدم فُديتَ هادياً مهدياً***وحسناً والمرتضى عليا
فاليوم نلقى جدّك النبيا***وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا
ثم برز وهو يرتجز ويقول:
أنا زهير وأنا ابن القين***أذودكم بالسيف عن حسين
وانبرى يقاتل قتالاً لم يُر مثله ولم يُسمع بشبهه، وكان يحمل على القوم وهو يقول:
إن حسيناً أحد السبطين***أضربكم ولا أرى من شين
من عترة البر التقي الزين***يا ليت نفسي قسمت نصفين
وقاتل قتالاً شديداً حتى استشهد.
فقال الحسين عليه السلام:
" لا يبعدنك الله يا زهير، ولعن الله قاتليك! "
وكان بُرير بن خضير الهمداني من خواص أمير المؤمنين عليه السلام، ناسكاً، من شيوخ القرّاء، وله كتاب يرويه عن علي عليه السلام، وقد توجه من الكوفة إلى مكة والتحق فيها بالحسين عليه السلام فبرز إلى الميدان وهو يقول:
" اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين، اقتربوا مني يا قتلة أولاد البدريين، اقتربوا مني يا قتلة أولاد رسول رب العالمين وذريته الباقين "
فقاتل حتى استشهد رضوان الله تعالى عليه.
واشتد القتال والتحم وكثر القتل والجراح في أصحاب أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
وتقدم حنظلة بن سعد الشبامي بين يدي الحسين عليه السلام فنادى أهل الكوفة:
" يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، يا قوم لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى "
ثم تقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله.
وتقدم بعده شوذب مولى شاكر فقال:
" السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، أستودعك الله وأسترعيك "
ثم قاتل حتى قتل رحمه الله.
ثم برز إلى الميدان عابس بن أبي شبيب الشاكري فسلم على الحسين عليه السلام وقال:
" يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعز علي ولا أحب إلي منك، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشئ أعز علي من نفسي ودمي لفعلت، السلام عليك يا أبا عبد الله أشهد أني على هداك وهدى أبيك "
ثم مضى بالسيف نحوهم، فقاتل حتى استشهد.
بأبي من شروا لقاء حسين***بفراق النفوس والأرواح
وقفوا يدرؤون سمر العوالي***عنه والنبل وقفة الأشباح
فوقوه بيض الظُّبا بالنحور ألب***يض والنبل بالوجوه الصِّباح
أدركوا بالحسين أكبر عيد***فغدوا في منى الطفوف أضاحي
مصرع علي الأكبر عليه السلام
ولما لم يبق مع الحسين عليه السلام إلا أهل بيته خاصة. تقدم علي الأكبر بن الحسين عليه السلام وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً فاستأذن أباه في القتال فأذن له، ثم نظر إليه نظرة ايسٍ منه وأرخى عليه السلام عينيه وبكى، محترقاً قلبه، مظهراً حزنه إلى الله تعالى، رفع سبابتيه نحو السماء وقال:
" اللهم اشهد على هؤلاء، فقد برز إليهم أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمد صلى الله عليه وآله، وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه، اللهم امنع عنهم بركات الأرض، وفرقهم تفريقا، ومزقهم تمزيقا، واجعلهم طرائق قدداً ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا يقاتلونا "
وصاح عليه السلام بعمر ابن سعد:
" ما لك يا ابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله "
ثم رفع الحسين عليه السلام صوته وتلا قوله تعالى:
" إن الله اصطفى ادم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم "
ثم حمل علي بن الحسين عليه السلام على القوم، وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي***والله لا يحكم فينا ابن الدعي
أضربكم بالسيف أحمي عن أبي***نحن وبيت الله اولى بالنبي
أطعنكم بالرمح حتى ينثني***ضرب غلام هاشمي علوي
فلم يزل يقاتل حتى ضج الناس من كثرة من قتل منهم.
ثم رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة فقال:
" يا أبه! العطش قد قتلني وثقل الحد يد أجهدني، فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوى بها على الأعداء؟ "
فبكى الحسين عليه السلام وقال:
" يا بنى يعز على محمد وعلى علي وعلى أبيك، أن تدعوهم فلا يجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك... "
ودفع إليه خاتمه وقال:
" خذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوك، فإني أرجو أنك لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً".
فرجع إلى موقف النـزال وقاتل أعظم القتال، فاعترضه مرة بن منقذ فطعنه فصرع، واحتواه القوم فقطعوه بأسيافهم، فنادى بأعلى صوته:
" يا أبتاه! هذا جدي رسول الله صلى الله عليه وآله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول لك: العجل! فإن لك كأساً مذخورة "
فصاح الحسين عليه السلام:
" واولداه... "
وأقبل الحسين عليه السلام إلى ولده وكان في طريقه يلهج بذكره ويكثر من قول:
" ولدي علي.. ولدي علي "
حتى وصل إليه، فأرخى رجليه معاً من الركاب، ورمى بنفسه على جسد ولده، وأخذ رأسه فوضعه في حجره، وجعل يمسح الدمَ والتراب عن وجهه، وانكب عليه واضعاً خده على خده، وجعل يقول:
" قتل الله قوماً قتلوك يا بُني! ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله ".
وانهملت عيناه بالدموع ثم قال:
"على الدنيا بعدك العفا"
فخرجت زينب ابنة علي عليها السلام مسرعة وخلفها النساء والأطفال، وهي تنادي:
" وا حبيباه، يا ثمرة فؤاداه، واولداه، وامهجة قلباه "
فجاءت وانكبت عليه، فبكى الحسين عليه السلام رحمةً لبكائها، وقال:
" إنا لله وإنا إليه راجعون.. "
وقام وأخذ بيدها وردها إلى الفسطاط، وطلب إلى فتيانه من بني هاشم وقال لهم:
" احملوا أخاكم فحملوه من مصرعه، وجاؤا به إلى الفسطاط الذين يقاتلون أمامه "
مقاتل آل عقيل عليهم السلام
ثم برز أبناء عقيل بن أبي طالب، وأبناء مسلم وأبناء جعفر بن عقيل وجعلوا يقاتلون قتالاً شديداً والحسين عليه السلام يقول لهم:
" صبراً على الموت يا بني عمومتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم "
فجعلوا يستبسلون في الدفاع عن ابن رسول الله صلى الله عليه وآله حتى استشهدوا رحمهم الله.
القاسم بن الحسن عليه السلام
وتقدم القاسم بن الإمام الحسن عليه السلام، يستأذن عمه للقتال وكأن الإمام الحسن عليه السلام أبى إلا أن يكون حاضراً في كربلاء بخمسة من أولاده، وهو القائل: لايوم كيومك يا أبا عبد الله فخرج القاسم وهو يرتجز ويقول:
إن تُنكروني فأنا فرع الحسن***سبط النبي المصطفى والمؤتمن
هذا الحسين كالأسير المرتهن***بين أناس لا سقوا صوب المزن
وفيما كان يجول في الميدان ويصول، انقطع شسع نعله، فانحنى ليصلحه.
قال من شهد الواقعة: فقال لي عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه. فقلت له سبحان الله وما تريد إلى ذلك؟ يكفيك قتله هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه، فقال والله لأشدن عليه. فما ولىّ حتى ضرب رأسه بالسيف فوقع الغلام لوجهه فقال:
"يا عماه!".
فجلى الحسين عليه السلام كما يجلي الصقر، وانجلت الغبرة فإذا.. بالحسين عليه السلام قائم على رأس الغلام والغلام يفحص برجليه، والحسين عليه السلام يقول:
" بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك "
ثم قال:
" عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك، صوتٌ والله كثر واتره وقل ناصره "
قال الراوي: ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض وقد وضع حسين صدره على صدره قال فقلت في نفسي ما يصنع به فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين عليه السلام وقتلى قد قتلت حوله من أهل بيته فسألت عن الغلام فقيل هو القاسم بن الحسن بن على بن أبى طالب عليهم السلام.
وقد روي أن الشهداء في كربلاء من أولاد الإمام الحسن بن علي عليه السلام، ثلاثة غير القاسم، وقد جرح منهم خامس، وقطعت يده، وهو الحسن المثنى، رضوان الله عليهم أجمعين.
مقاتل إخوة العباس عليهم السلام
ثم إن أبا الفضل العباس عليه السلام، قال لإخوته من أبيه وأمه أم البنين وهم عبد الله وجعفر وعثمان سمي الصحابي الجليل عثمان بن مظعون:
"تقدموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، تقدموا، بنفسي أنتم، فحاموا عن سيدكم حتى تقتلوا دونه".
فتقدموا جميعاً. فصاروا أمام الحسين عليه السلام، يقونه بوجوههم ونحورهم.
فكان أول من برز منهم عبد الله بن أمير المؤمنين، وقاتل قتالاً شديداً. حتى استشهد ثم برز بعده جعفر، ثم عثمان وجدوا في القتال حتى قتلوا رضي الله عنهم أجمعين.
شهادة العباس عليه السلام
قال الراوي: وبقي العباس بن علي قائما أمام الحسين عليهم السلام يقاتل دونه، ويميل معه حيث مال.
فقد كان له كما كان جده أبو طالب وأبوه علي للنبي صلى الله عليه وآله.
وكما عرضت قريش الأمان على المولى أبي طالب، ليسْلم محمداً المصطفى صلى الله عليه وآله، فقد عرض الشمر موفداً من ابن زياد الأمان في اليوم التاسع من محرم على العباس وإخوته، ليتركوا الحسين عليه السلام، فكان جوابهم جميعاً:
" لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا، وابن رسول الله لا أمان له؟ "
وقد عُرف العباس عليه السلام في كربلاء بالسقاء لكثرة تردده إلى الماء ليوصله إلى مخيم سيد الشهداء عليه السلام، وفي اليوم العاشر من المحرم سمع أبو الفضل عليه السلام الأطفال ينادون:
" العطش العطش "
فخرج يطلب الماء ليوصله إليهم.
بذلت أيا عباس نفساً نفيسة***لنصر حسين عز بالجَد عن مثل
فأنت أخو السبطين في يوم مفخر***وفي يوم بذل الماء أنت أبو الفضل
ولما توجه أبو الفضل عليه السلام نحو المشرعة يطلب الماء، فحملوا عليه وحمل هو عليهم، ففرقهم وهو يقول:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا***حتى أوارى في المصاليت لُقى
نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا***إني أنا العباس أغدو بالسقا
ولا أخاف الشر يوم الملتقى
قلب اليمين على الشمال وغاص في***الأوساط يختطف النفوس ويحطم
ما كر ذو بأس له متقدماً***إلا وفرَّ ورأسه المتقدم
بطل تورث من أبيه شجاعة***فيها أنوف بني الضلالة تُرغم
أوَ تشتكي العطشَ الفواطمُ عنده***وبصدر صعدته الفرات المُفعم
في كفه اليسرى السقاء يُقِلُّه***وبكفه اليمنى الحسام المخذم
ومضى عليه السلام يشق الصفوف، ويفرق الكتائب، فلما رأوا جولاته العلوية، وما يلقون من شدة بأسه الحيدري، وما صنعت يمينه، واستبد بهم العجز عن مواجهة أبي الفضل لجأوا إلى الحيلة والغدر.
فكمن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن طفيل السنبسي فضربه على يمينه)فقطعها(فأخذ السيف بشماله، وضم اللواء إلى صدره، وحمل عليهم وهو يرتجز:
والله إن قطعتم يميني***وعن إمام صادق اليقين
إني أحامي أبدا عن ديني***نجل النبي الطاهر الأمين
فقاتل عليه السلام حتى ضعف عن القتال، وأصبح كل هم القوم هذه اليد اليسرى التي تفري وكأنها اليمنى. فكمن له الحكم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة فضربه على شماله فقطعها.
ولما رأى أبو الفضل أن ساعة اللقاء بالمصطفى الحبيب، قد حانت، فقال عليه السلام:
يا نفس لا تخشي من الكفار***وأبشري برحمة الجبار
قد قطعوا ببغيهم يساري***فأصلهم يا رب حر النار
مع النبي السيد المختار
فضربه ملعون بعمود من حديد، وكأني بأبي الفضل العباس عليه السلام يردد في هذه اللحظات:
يا نفس من بعد الحسين هوني***وبعده لا كنت أو تكوني
" أخي أبا عبد الله. عليك مني السلام "
فمشى لمصرعه الحسين وطرفه***بين الخيام وبينه متقسم
ألفاه محجوب الجمال كأنه***بدر بمنحطم الوشيج ملثم
فأكب منحنياً عليه ودمعه***صبغ البسيط كأنما هو عندم
قد رام يلثمه فلم ير موضعاً***لم يدمه: عض السلاح فيلثُم
فلما رآه الحسين عليه السلام صريعاً على شط الفرات بكى بكاءً شديداً وأنشأ يقول:
تعديتم يا شر قوم بفعلكم***وخالفتم قول النبي المسدد
أما كانت الزهراء أمي دونكم***أما نحن من نسل النبي محمد
ويروى أن الحسين عليه السلام أدركه وبه رمق الحياة، فأخذ رأسه الشريف ووضعه في حجره، وجعل يمسح الدم والتراب عنه ثم بكى بكاءً عالياً، قائلاً:
"الان انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي".
ثم انحنى عليه واعتنقه، وجعل يُقبّل موضع السيوف من وجهه ونحره وصدره.
وقد ترك الحسين عليه السلام أخاه العباس في مكانه، وقام عنه بعد أن فاضت نفسه الزكية، ولم يحمله إلى الفسطاط الذي كان يحمل القتلى من أهل بيته وأصحابه إليه.
مصرع الإمام الحسين عليه السلام
ولما رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى:
" هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟ "
فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدم إلى باب الخيمة وقال لزينب عليه السلام:
" ناوليني ولدى الصغير حتى أودعه "
فأخذه وأومأ إليه ليقبله فرماه حرملة بن الكاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه.
فقال لزينب عليها السلام:
" خذيه "
ثم تلقى الدم بكفيه فلما إمتلأتا، رمى بالدم نحو السماء ثم قال:
" هون على ما نزل بي إنه بعين الله "
قال الإمام الباقر عليه السلام:
" فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض "
ثم إن الحسين عليه السلام دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من بزر إليه حتى قتل مقتله عظيمة وهو في ذلك يقول:
القتل أولى من ركوب العار***والعار أولى من دخول النار
قال بعض الرواة فوالله ما رأيت (مكثورا) قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربطَ جأشاً منه، وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيه الذئب، ولقد كان يحمل عليهم ولقد تكمّلوا ثلاثين ألفا فيهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول:
" لا حول ولا قوة إلا بالله "
فلما رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن ذلك استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجالة، وأمر الرماة أن يرموه، فرشقوه بالسهام حتى صار جسمه كالقنفذ من كثرة السهام النابتة فيه، فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه.
قال الراوي ولم يزل عليه السلام يقاتلهم حتى حالوا بينه وبين رحله فصاح عليه السلام:
" ويلكم يا شيعة ال أبى سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون "
قال فناداه الشمر ما تقول يا ابن فاطمة؟.
فقال عليه السلام إني أقول:
"أقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا".
فقال شمر: لك ذلك يا ابن فاطمة.
فقصدوه بالحرب، فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد حتى أصابه اثنان وسبعون جراحة فوقف يستريح ساعة، وقد ضعف عن القتال، فبينا هو واقف، إذ أتاه حجر فوقع على جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته، فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه.
فقال عليه السلام:
" بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله ".
ثم رفع رأسه إلى السماء وقال:
" الهي أنت تعلم إنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره "
ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كأنه ميزاب، فضعف عن القتال ووقف، فكلما أتاه رجل انصرف عنه كراهة أن يلقى الله بدمه.
حتى جاءه رجل من كندة يقال له مالك بن النسر، فشتم الحسين عليه السلام وضربه على رأسه الشريف بالسيف فقطع البرنس، ووصل السيف إلى رأسه فامتلأ البرنس دماً..
قال الراوي: فاستدعى الحسين عليه السلام بخرقة فشد بها رأسه، واستدعى بقلنسوة فلبسها، وأعتم.
فلبثوا هنيهة ثم عادوا إليه وأحاطوا به، فخرج عبد الله بن الحسن بن علي عليه السلام وهو غلام لم يراهق من عند النساء، يشتد حتى وقف إلى جنب الحسين عليه السلام فلحقته زينب عليها السلام لتحبسه فأبى وامتنع امتناعاً شديداً فقال:
" لا والله لا أفارق عمي "
فأهوى بحر بن كعب وقيل حرملة بن كاهل إلى الحسين عليه السلام بالسيف. فقال له الغلام:
" ويلك يا بن الخبيثة أتقتل عمي؟ "
فضربه بالسيف فاتقى الغلام بيده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة فنادى الغلام:
"يا أماه".
فأخذه الحسين عليه السلام وضمه إليه وقال:
" يا بن أخي اصبر على ما نزل بك وأحتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بابائك الصالحين "
قال فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه الحسين عليه السلام.
ثم إن شمر بن ذى الجوشن حمل على فسطاط الحسين عليه السلام فطعنه بالرمح ثم قال: عليّ بالنار أحرقه على من فيه.
فقال الحسين عليه السلام:
" يا بن ذي الجو شن أنت الداعي بالنار لتحرق على أهلي، أحرقك الله بالنار"
قال: ولما أثخن الحسين عليه السلام بالجراح (..) طعنه صالح ابن وهب المري على خاصرته طعنةً فسقط الحسين عليه السلام إلى الأرض على خده الأيمن وهو يقول:
" بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ثم قام عليه السلام ".
وحملوا عليه من كل جانب، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى وضرب الحسين عليه السلام زرعة فصرعه، وضربه اخر على عاتقه المقدس بالسيف ضربة كبا عليه السلام بها لوجهه، وكان قد أعيا وجعل ينوء ويكب، فطعنه سنان ابن أنس ألنخعي في ترقوته، ثم أنتزع الرمح فطعنه في بواني صدره، ثم رماه سنان أيضا بسهم فوقع السهم في نحره فسقط عليه السلام وجلس قاعدا.
فنزع السهم من نحره وقرن كفيه جميعاً، فكلما امتلأتا من دمائه خضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول:
" هكذا ألقى الله مخضباً بدمى مغصوباً على حقي "
وروي عنه عليه السلام أنه قال:
"اللهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغُ النعمةِ، حَسَنُ البلاءِ، قريبٌ إذا دُعيتَ، محيطٌ بما خلقتَ، قابلُ التوبةِ لمن تاب إليكَ، قادر على ما أردت، تدرك ما طلبت، شكور إذا شُكرت، ذكور إذا ذُكرت، أدعوك محتاجاً وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي مكروباً، واستعين بك ضعيفاً وأتوكل عليك كافياً.
اللهم احكم بيننا وبين قومنا، فإنهم غرونا وخذلونا، وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيك، وولد حبيبك محمد الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين..
صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، مالي رب سواك ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث من لا غياث له، يا دائماً لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كل نفسٍ بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين".
قال أحد رواة السيرة: كنت واقفاً مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ أبشر أيها الأمير فهذا شمر قتل الحسين، قال فخرجت بين الصفين فوقفت عليه وإنه ليجود بنفسه، فوالله ما رأيت قط قتيلاً مضمخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله، فاستسقى في تلك الحال ماءً فسمعت رجلاً يقول: والله لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها.
فسمعته يقول:
" يا ويلك أنا لا أرد الحامية ولا أشرب من حميمها بل أرد على جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر وأشرب من ماءٍ غير اسن وأشكو إليه ما ارتكبتم مني وفعلتم بي "
قال: فغضبوا بأجمعهم حتى كأن الله لم يجعل في قلب واحد منهم من الرحمة شيئاً.
وجلس الشمر على صدر الحسين عليه السلام وقبض على لحيته وضربه بسيفه اثنتا عشرة ضربة ثم حز رأسه المقدس المعظم.
ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين عليه السلام فيواطئ الخيل ظهره وصدره فانتدب منهم عشرة. فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم حتى رضوا صدره وظهره.
فأي شهيدٍ أصلت الشمس جسمه***ومشـــهدها من نوره متولدُ
وأي ذبيحٍ داست الخيل صـدره***وفرســـانها من ذكره تتجمّدُ
ألم تك تدري أن روح محمد***كـــقرآنه في سبطه متجسّدُ
فلو علمت تلك الخيول كأهلها***بـأن الذي تحت السنابك أحمد
لثارت على فرسانها وتمردت***عليهم كما ثاروا بها وتمرد
وخرجت عند ذلك مولاتنا زينب عليها السلام تندب الحسين عليه السلام وتنادي بصوتٍ حزين وقلبٍ كئيب:
"يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء، يا محمداه، هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا واحزناه، واكرباه، اليوم مات جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يا أصحاب محمداه هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا".
وفى رواية:
"يا محمداه بناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليهم ريح الصبا وهذا حسين محزوز الرأس من القفا مسلوب العمامة والرداء، بأبي من أضحى عسكره في يوم الاثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العُرى، بأبي من لا غائب فيرتجى ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء، بأبي من جده محمد المصطفى، بأبي من جده رسول إله السماء، بأبي من هو سبط نبي الهدى، بأبي محمد المصطفى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي علي المرتضى، بأبي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، بأبي من ردت له الشمس وصلى".
فأبكت والله كل عدوٍ وصديق.
يا صاحب الأمر أدركنا فليس لنا***ورد هني ولا عيش لنا رغد
فانهض فدتك بقايا أنفس ظفرت***بها النوائب حتى خانها الجلد
طالت علينا ليالي الانتظار فهل***يابن الزكي لليل الانتظار غد
ـــــــــــــــــ
هوامش
(1) واله: شديد الحزن.
(1) مُوجفين: مسرعين.
(2) إلبا: مجتمعين على العداوة.
(3) مشيم: مغمد.
(4) الجأش: مكنون الصدر.
(5) يستحصف: يستحكم.
(6) الطيرة: الخفة.
(7) الدبا: أصغر الجراد والنمل.
(8) الفراش: حشرة تتساقط على الضوء ليلاً.
(9) سحقاً له: أي أبعده اللّه.
(10) الأمّة: الجارية كناية عن الذل.
(11) شُذاذ: هم المتفرقون.
(12) النفث: قذف القليل من الريق.
(13) وشجت: اشتبكت.
(14) تأزرت: قوى بعضها بعضاً.
(15) الشجا: أي الهم والحزن.
(16) السلِة: استلال السيف.
(1) طَبنَا: الشأن والعادة.
(2) الكلكل: الصدر أو ما بين الترقوتين.
(3) الريث: المهلة من الزمن.
(4) المصبرة: كأس مرة.
(1) الري: مدينة إيرانية بالقرب من طهران.
(2) جرجان: مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان.
(1) في مثير الأحزان: وتقبل منك وأنت تشرب الخمر
|
التعديل الأخير تم بواسطة Dr.Zahra ; 28-12-2010 الساعة 05:21 AM.
|
|
|
|
|