بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمّْدُ للهِ رَبِّ العَاْلَمِيْنَ .. عَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ وَبِهِ نَسْتَعِيْن
وَصَلَّى اللهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِيْن
-------------------
« حكم الصوم في السفر »
من المسائل المهمة والابتلائية في صوم شهر رمضان بل سائر أنواع الصوم هو حكم الصوم مع السفر وأنه إذا عرضت على المكلف الحاجة الى السفر فهل يجب أو يصح منه الصوم أو لا ؟
وقد أشار القرآن الكريم الى هذه المسألة في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1) .
ونلاحظ تكرار الإشارة الى المريض والمسافر ، وقيل إن ذلك من باب التأكيد فـ ( أعاد ذكر المرض والسفر للتأكيد بأن شهر رمضان يجوز فيه الإفطار في حالات معينة ردا على المتزمتين الذين يظنون ان الإفطار لا يجوز بحال ) (2) ، فتكرار الحكم مرتين ( قد يكون سبب كراهية بعض المسلمين أن لا يصوموا أيام شهر رمضان حتى ولو كانوا مرضى أو مسافرين . والقرآن بهذا التكرار يفهم المسلمين أن الصوم في حالة السلام والحضر حكم إلهي ، والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضا لا تجوز مخالفته ) (3) ، وقيل بل ( ايراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار ) (4) ، وقيل ( إنما كرر تمهيدا لقوله " يُرِيدُ اللَّه بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " ولذا أمركم بالإفطار في السفر والمرض ) (5) .
وعلى أي حال وأياً كان سبب التكرار فالقرآن الكريم أشار الى أن المسافر حكمه الإفطار وعليه أن يصوم في أيام أُخَر أي بعد شهر رمضان في إشارة الى القضاء ، واختلفوا في أن ذلك على نحو الرخصة أو العزيمة ؟ فهل يجب على المسافر الإفطار والقضاء بعد شهر رمضان ؟ أو أنه مخيّر بين الصيام في شهر رمضان وبين الإفطار والقضاء بعده ؟
ذهب أكثر العامة الى الثاني وقالوا الحكم على نحو الرخصة ، فللمسافر أن يصوم ويصح منه كما يجوز له الإفطار ويقضيه بعد ذلك ، واختلفوا في أفضلية أحد الخيارين فقال بعضهم الصوم أفضل وقال آخرون بل الإفطار والقضاء أفضل ، بينما ذهب الإمامية الى أن الحكم على نحو العزيمة فلا يصح الصوم من المسافر بل يحرم عليه الصوم ولو فعله عالماً عامداً فقد فعل معصية وتشريعاً محرماً لأن حكم المسافر الإفطار ووجوب القضاء كما هو صريح الآية ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) حيث أوجبت القضاء ، وإيجاب القضاء فرع عدم شرعيّة الصوم ، والا لو صح الصوم من المسافر لما كان معنى لإطلاق إيجاب القضاء على المسافر .
إذن حكم المسافر هو الإفطار ولا يصح منه الصوم بل يحرم عليه - الا في بعض الموارد كما سيأتي إن شاء الله تعالى - ، ولذا ذكر الفقهاء أن من شرائط صحة الصوم أن يكون المكلف حاضراً غير مسافر والا لم يصح منه الصوم .
لكن الحكم بعدم صحة الصوم من المسافر ليس على إطلاقه ولا يشمل كل مسافر بل خصوص المسافر الذي حكمه قصر الصلاة فهذا لا يصح منه الصوم وأنّ حكمه القضاء ، أما المسافر الذي حكمه التمام فهذا كالحاضر غير المسافر يجب عليه الصوم ويصح منه . لذا قال الفقهاء في شرائط صحة الصوم ( ومنها : أن لا يكون مسافراً سفراً يوجب قصر الصلاة مع العلم بالحكم ) فإن لم يكن السفر يوجب قصر الصلاة فالصوم صحيح ، لذا قالوا في موضع آخر ( يصح الصوم من المسافر الذي حكمه التمام ، كناوي الإقامة والمسافر سفر معصية ونحوهما ) (6) .
وعلى أساس ذلك أسّس الفقهاء قاعدة فقهية عامة مفادها التلازم بين الصلاة والصوم في القصر والتمام فقالوا : ( من قصّر أفطر ومن أتمّ صام ) أي كل مسافر حكمه قصر الصلاة فحكمه الإفطار أيضاً ، وكل من كان حكمه إتمام الصلاة فإن حكمه الصيام .
قال الشيخ الصدوق رضوان الله عليه : ( وأعلم أن كل من وجب عليه التقصير في الصلاة في السفر فعليه الإفطار وكل من وجب عليه التمام في الصلاة فعليه الصيام ، متى أتم صام ومتى قصر أفطر ) (7) . وقال السيد اليزدي قدس سره : ( المدار في تقصير الصوم على تقصير الصلاة فكل سفر يوجب قصر الصلاة يوجب قصر الصوم وبالعكس ) (8) ، ويقصد بتقصير الصوم الإفطار .
ولذا جعلوا شرائط قصر الصلاة نفس شرائطَ الإفطار فكل شرط معتبر لقصر الصلاة فهو شرط أيضا لجواز الإفطار في السفر ، فقالوا : ( الشرائط المعتبرة في قصر الصلاة معتبرة في قصر الصوم ) (9) ، ورتّبوا على ذلك - مضافاً الى الأدلة الخاصة - بعض الأحكام من قبيل عدم جواز الإفطار للمسافر قبل أن يتجاوز حد الترخص كما لا يصح قصر الصلاة قبله ، ومن قبيل ما إذا صام المسافر جهلاً ولم يلتفت الا بعد انقضاء النهار فإن صومه صحيح كما أنه إذا أتم صلاته في موضع القصر جهلاً تصح الصلاة ، وهكذا .
وقد دلّت على هذه القاعدة وهذه الملازمة الأخبار منها ما روي عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : ( ..... قال : قلت : إن دخلت بلداً أول يوم من شهر رمضان ولست أريد أن أقيم عشراً ، قال : قصّر وأفطر ، قلت : فان مكثت كذلك أقول غداً أو بعد غد فأفطر الشهر كله وأقصر ؟ قال : نعم هذا ( هما ) واحد ، إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت ) (10) ، وما روي عن سماعة قال : قال أبو عبد الله عليه السلام في حديث : ( وليس يفترق التقصير والافطار ، فمن قصّر فليفطر ) (11) ، وعنه عليه السلام أنه قال : ( من سافر قصّر وأفطر إلا أن يكون رجلاً سفره إلى صيد أو في معصية الله ) (12) .
وعليه فإذا نوى المسافر الإقامة عشرة أيام في مكان فإنه يجب عليه الصيام كما يجب عليه التمام ، وكذا المتردد إذا مضى عليه ثلاثون يوماً ، وكذا من كان سفره سفر معصية ، وكذا من كان عمله السفر كالسائق فإنه كما يتم الصلاة فإنه يصوم ، وكذا من كان عمله في السفر كالموظف أو الطالب أو العامل أو البائع وغيرهم الذين يقطعون مسافة للوصول الى محل عملهم فإنه كما يتمّون يصومون ، كل ذلك للقاعدة المذكورة والتلازم بين التمام والصيام .
وطبعاً المقصود بالصلاة التي يلزم من إتمامها الصيام ومن قصرها الإفطار هي صلاة الظهر ، فمتى ما كان الحكم وجوب إتمام صلاة الظهر وجب الصيام ، وإن كان الحكم قصرها وجب الإفطار .
وكأي قاعدة أُخرى فإن لهذه القاعدة بعض الاستثناءات ، فقد يجب قصر الصلاة مع وجوب الصوم ، وقد يجب إتمام الصلاة مع وجوب الإفطار ، وفي الجملة فقد يرتفع التلازم ولا يكون حكم الصيام تابعاً لحكم الصلاة ، وذلك في موارد :
1. الجاهل بعدم صحة الصوم في السفر الذي يوجب قصر الصلاة إذا صام فإن صومه صحيح وإن كان قد قصر الصلاة ، بشرط أن يستمر على جهله حتى انقضاء النهار ، أما إذا علم في أثناء النهار عدم صحة الصوم في السفر فلا يصح صومه .
2. إذا سافر بعد الزوال فإنه يتعين عليه البقاء على الصوم ويصح منه وإن كان حكمه قصر الصلاة ، كما إذا دخل الزوال ولم يصلّ الظهرين في بلده ثم سافر فإنه يصليهما بعد تجاوز حد الترخص قصراً مع بقائه على الصوم فاجتمع القصر والصيام .
3. إذا رجع من السفر الى وطنه في شهر رمضان بعد الزوال وكان ممسكاً تعيّن عليه الإفطار وإن وجب عليه إتمام الظهرين إذا لم يكن قد صلّاهما في السفر ، فاجتمع الإفطار والإتمام .
4. في الأماكن الأربعة وهي : مكة والمدينة والكوفة وحرم الحسين عليه السلام ، فحكم الصلاة فيها للمسافر الذي يجب عليه القصر هو التخيير بين القصر والتمام أما الصوم فلا يصح ولا يشمله التخيير بل يجب الإفطار والقضاء .
5. صوم بدل الهدي فإنه يجتمع مع قصر الصلاة ، وهو الصوم الذي يجب على من حجّ حجّ التمتع إذا لم يجد الهدي فإنه يصوم بدله عشرة أيام ، ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع الى بلده كما قال تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) (13) ، فثلاثة أيام من العشرة يجب على الحاج الإتيان بها وهو في الحج وإن كان حكمه القصر في الصلاة .
6. صوم بدل البدنة ، وهو صوم ثمانية عشر يوماً تجب على الحاج إذا أفاض من عرفات قبل الغروب ، فيجب عليه الرجوع الى عرفات فإن لم يرجع وجب عليه التكفير ببدنة فإذا لم يقدر عليها صام ثمانية عشر يوماً ، وله أن يصومها في مكة أو في الطريق أو عند الرجوع الى أهله ، ولا يجب عليه تأخيرها الى حين الرجوع الى أهله فلو صامها في مكة أو في الطريق فهذا يعني اجتماع الصوم والقصر .
7. الصوم المنذور إيقاعه في السفر أو الأعم منه ومن الحضر ، كما إذا نذر أن يصوم الأيام البيض في كربلاء أو صيام يوم عرفة في مكة مثلاً فحينئذٍ يجب عليه الصوم وفاء للنذر مع أن حكمه قصر الصلاة .
8. صيام ثلاثة أيام للحاجة في المدينة ، فالمعروف بين الفقهاء عدم جواز الصوم المندوب في السفر يستثنى صيام ثلاثة أيام في المدينة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقضاء الحاجة ، فيصوم مع أنه مسافر حكمه قصر الصلاة . وأوجب أكثر الفقهاء - فتوى أو احتياطاً - أن يكون ذلك في الأربعاء والخميس والجمعة ، وقال بعضهم بل هو أفضل أو الأحوط استحباباً .
9. سفر الصيد للتجارة يتعين فيه الإفطار أما الصلاة فذهب بعضهم الى أن حكمها الإتمام فيكون قد اجتمع الإفطار والإتمام ، بيان ذلك : أن من سافر لأجل الصيد فسفره على ثلاثة أقسام :
الأول : أن تكون الغاية من سفر الصيد التلهّي لا الانتفاع بالثمن ولا التقوّت به وإنما يقصد الترف والأنس كما هو شأن الملوك والأمراء وغيرهم من أبناء الدنيا ويسمى بصيد اللهو ، وهذا لا خلاف في أنه من مصاديق سفر المعصية وحكمه وجوب الإتمام والصيام .
الثاني : أن يسافر للصيد لقوت نفسه وعياله وضيوفه ، ولا خلاف في أن حكمه وجوب القصر والإفطار .
الثالث : أن يسافر للصيد لينتفع بثمنه ويعبر عنه بالصيد للتجارة ، وحكمه وجوب الإفطار واختلفوا في الصلاة فقيل يجب فيها الإتمام وقال بعضهم بالاحتياط بالجمع بين القصر والتمام ، وبالتالي فيكون حكم الصيام في هذا النوع غير تابع لحكم الصلاة ولا تلازم بينهما ، لكن الرأي المعروف هو وجوب القصر فالتلازم موجود حتى في هذه الصورة .
الخلاصة /
يشترط في صحة الصوم الحَضَر بمعنى أن يكون المكلف حاضراً في وطنه غير مسافر ، أما المسافر فلا يصح منه الصوم بل يحرم ، هذا فيما إذا كان سفره يوجب قصر الصلاة ، أما إذا كان حكمه التمام كما إذا نوى الإقامة عشرة أيام أو كان عمله السفر أو عمله في السفر أو كان سفره سفر معصية ونحو ذلك فحينئذٍ صومه صحيح بل يجب عليه إذا كان واجباً معينّاً كصوم شهر رمضان ، وعلى هذا الأساس فهناك ملازمة بين قصر الصلاة وعدم صحة الصوم وبين إتمامها وصحة الصوم ، فكل سفر يوجب قصر الصلاة لا يصح الصوم فيه ، وكل سفر يوجب إتمام الصلاة يصح فيه الصوم بل قد يجب ، نعم يستثنى من هذه القاعدة والملازمة بعض الموارد ، فقد يجب أو يصح الصوم مع كون السفر يوجب قصر الصلاة ، وقد يكون السفر موجباً لإتمام الصلاة ومع ذلك لا يصح الصوم فيه ، وقد تقدم ذكر هذه الموارد .
والحمد لله رب العالمين
وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين
------------------------
(1) سورة البقرة / 183 - 185 .
(2) التفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية : 1 / 285 .
(3) تفسير الأمثل : 1 / 520 .
(4) تفسير الميزان : 2 / 24 .
(5) تقريب القرآن الى الأذهان للسيد محمد الشيرازي : 1 / 219 .
(6) لاحظ مثلاً منهاج الصالحين للسيد الخوئي : 1 / 274 - 275 ، وغيره .
(7) المقنع / 196 .
(8) العروة الوثقى : 3 / 622 .
(9) شرائع الإسلام للمحقق الحلي : 1 / 155 .
(10) وسائل الشيعة : 5 / 528 .
(11) المصدر : 7 / 131 .
(12) المصدر .
(13) سورة البقرة / 196 .