وسأله سائل : ما الذاريات ذروا ؟
قال : الرياح.
قال السائل : ما الحاملات وقرا ؟
قال : السحاب.
قال السائل : فالجاريات يسرا ؟
قال : السفن.
قال السائل : فالمقسمات أمرا ؟
قال : الملائكة.
وقال : إنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء.
وسمع قائلا ً يقول : قوس قزح.
فقال الإمام : لا تقولوا قوس قزح , وقولوا : قوس الله , وأمان من الغرق.
أما وصف الإمام الأرض والسماء , ونظام الكون , وأسراره وعجائب مخلوقاته , كالطاووس والخفاش والنملة والنحلة والغراب والجرادة وما إلى ذاك فإن فيه من الصدق والعمق , ودقة التصوير وبلاغة التعبير ما يرفعه فوق الفلاسفة والعلماء والأدباء مجتمعين.
قال مشيراً إلى الأدوار التي يمر بها الإنسان : (( أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام , وشغف الأستار نطفة دهاقا , وعلقة محاقا , وجنيناً وراضعا , و وليداً يافعا , ثم منحه قلباً حافظا ولساناً لافظا , وبصراً لاحظا , ليفهم معتبرا , ويقصر مزدجرا )) .
وقال : (( علق بنياط(1) هذا الإنسان بضعةٌ هي أعجبُ منه , وذلك القلب , وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها , فإن سنح له الرجاء أذله الطمع , وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص , وإن ملكه اليأس قتله الأسف , وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ , وإن أسعده الرضا نسي التحفظ , وإن ناله الخوف شغله الحذر , وإن اتسع له الأمن استلبته الغيرة , وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى , وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع , وإن عضته الفاقة شغله البلاء , وإن جهده الجوع قعد به الضعف , وإن أفرط به الشبع كظته البطنة , فكل تقصير به مضر , وكل إفراط له مفسد )) (2).
والقلب أول عضو يتحرك في بدن الإنسان , وآخر ما يسكن فيه , وبسكونه تنتهي حياة صاحبه , وله خواص وصفات متضاربة متناقضة , وشيطانية وإنسانية , وبهذه الخواص يختلف عما عداه من المخلوقات , حيث لا نعرف شيئاً واحداً تختلف آثاره وتتباين بالكنه والحقيقة , كما هي الحال بالقياس إلى القلب الذي يجمع بين بواعث الخير والشر , والفضيلة والرذيلة , ومن هنا كان الموقف بين هذه الدواعي والبواعث من أحرج المواقف وأخطرها , لا يثبت فيه إلا الحكيم العاقل الذي يستطيع الصمود , والوقوف موقفاً وسطا لا تقصير فيه ولا إفراط.
وقال الإمام مشيراً إلى ضعف الإنسان : (( ما لابن آدم والفخر ؟ أوله نطفة , وآخره جيفة , لا يرزق نفسه , ولا يدفع حتفه )) .
وقال أيضاً: (( مسكين ابن آدم , ومكتوم الأجل , مكنون العلل , محفوظ العمل , تؤلمه البقة , وتقتله الشرقة , وتنتنه العرقة )) .
وقال مشيراً إلى عظمة الإنسان ومقدرته : (( الإنسان يشارك السبع الشداد ))أي أن موهبته لا تقف عند حد الوضع الذي هو فيه .. بل تتعداه إلى ما هو أسمى وأرفع , بل وإلى مشاركة القمر والزهرة والمريخ , وسائر الكواكب , يسخرها لحاجاته وأغراضه..
أشار الإمام إلى ضعف الإنسان , كي لا يركن إلى قوته ويغتر بها فيطغى , وأشار إلى قوته , كي لا يستسلم للضعف إن أصابه , فينصرف عن الجهاد والعمل.. والعاقل من يناضل وهو على حذر من المخبئات والمفاجئات.
---------
(1) النياط : عرق متصل بالقلب.
(2) وقد عبر عن هذا المعنى الأديب الفرنسي المعاصر ( هنري لو فيفر ) عبر عنه بأسلوب آخر , حيث قال : إن الإنسان مجموعة من المتناقضات تماما ً كالمجتمع الذي يعيش فيه , ويجب أن يحلل التركيب الفردي المتناقض , كما يجلل المجتمع المتناقض الذي يعيش فيه الفرد. وقال بسكال : إن الإنسان مخلوق شاذ غريب الخلقة لا سبيل إلى فهمه.