قال علي عليه السلام: ثم مررت بالصهاكي (1) يوما فقال لي: (ما مثل محمد إلا كمثل نخلة نبتت في كناسة) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله فذكرت له ذلك. فغضب النبي صلى الله عليه وآله وخرج مغضبا فأتى المنبر، وفزعت الأنصار فجاءت شاكة في السلاح لما رأت من غضب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ما بال أقوام يعيرونني بقرابتي؟ وقد سمعوا مني ما قلت في فضلهم وتفضيل الله إياهم وما اختصهم الله به من إذهاب الرجس عنهم وتطهير الله إياهم، وقد سمعتم ما قلت في أفضل أهل بيتي وخيرهم مما خصه الله به وأكرمه وفضله من سبقه في الإسلام وبلاؤه فيه وقرابته مني وأنه بمنزلة هارون من موسى، ثم تزعمون أن مثلي في أهل بيتي كمثل نخلة نبتت في كناسة؟
ألا إن الله خلق خلقه ففرقهم فرقتين، فجعلني في خير الفريقين. ثم فرق الفرقة ثلاث فرق، شعوبا وقبائل وبيوتا وجعلني في خيرها شعبا وخيرها قبيلة. ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2)، فحصلت (3) في أهل بيتي وعترتي وأنا وأخي علي بن أبي طالب.
ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة فاختارني منهم، ثم نظر نظرة فاختار أخي عليا ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي. فبعثني رسولا ونبيا ودليلا، فأوحى إلي أن أتخذ عليا أخا ووليا ووصيا وخليفة في أمتي بعدي.
ألا وإنه ولي كل مؤمن بعدي، من والاه والاه الله ومن عاداه عاداه الله ومن أحبه أحبه الله ومن أبغضه أبغضه الله. لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا كافر. رب الأرض
____________
(1). المراد بالصهاكي عمر بن الخطاب باعتبار أمه الصهاك الحبشية. راجع الحديث 4 من هذا الكتاب.
(2). سورة الأحزاب: الآية 33.
(3). أي فحصلت هذه الآية في هذه الأشخاص.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 236
--------------------------------------------------------------------------------
بعدي وسكنها وهو كلمة الله التقوى وعروة الله الوثقى.
أتريدون أن تطفؤوا نور الله بأفواهكم؟ والله متم نوره ولو كره المشركون. ويريد أعداء الله أن يطفؤوا نور أخي، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
يا أيها الناس، ليبلغ مقالتي شاهدكم غائبكم. اللهم اشهد عليهم.
يا أيها الناس، إن الله نظر نظرة ثالثة فاختار منهم بعدي اثني عشر وصيا من أهل بيتي وهم خيار أمتي منهم أحد عشر إماما بعد أخي واحدا بعد واحد كلما هلك واحد قام واحد منهم. مثلهم كمثل النجوم في السماء كلما غاب نجم طلع نجم لأنهم أئمة هداة مهتدون، لا يضرهم كيد من كادهم ولا خذلان من خذلهم بل يضر الله بذلك من كادهم وخذلهم.
فهم حجة الله في أرضه وشهداءه على خلقه. من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله. هم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا على حوضي.
أول الأئمة أخي علي خيرهم، ثم ابني الحسن ثم ابني الحسين ثم تسعة من ولد الحسين، وأمهم ابنتي فاطمة، صلوات الله عليهم. ثم من بعدهم (1) جعفر بن أبي طالب ابن عمي وأخو أخي، وعمي حمزة بن عبد المطلب.
ألا إني محمد بن عبد الله. أنا خير المرسلين والنبيين، وفاطمة ابنتي سيدة نساء أهل الجنة، وعلي وبنوه الأوصياء خير الوصيين، وأهل بيتي خير أهل بيوتات النبيين وابناي سيدا شباب أهل الجنة.
____________
(1). أي ثم من بعدهم في الفضل.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 237
--------------------------------------------------------------------------------
أيها الناس، إن شفاعتي ليرجوها رجاءكم، أفيعجز عنها أهل بيتي؟ ما من أحد ولده جدي عبد المطلب يلقى الله موحدا لا يشرك به شيئا إلا أدخله الجنة ولو كان فيه من الذنوب عدد الحصى وزبد البحر.
أيها الناس، عظموا أهل بيتي في حياتي ومن بعدي وأكرموهم وفضلوهم، فإنه لا يحل لأحد أن يقوم من مجلسه لأحد إلا لأهل بيتي. إني لو أخذت بحلقة باب الجنة ثم تجلى لي ربي تبارك وتعالى فسجدت وأذن لي بالشفاعة، لم أوثر على أهل بيتي أحدا.
أيها الناس، انسبوني من أنا؟ فقام إليه رجل من الأنصار فقال: نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، أخبرنا - يا رسول الله - من الذي آذاك في أهل بيتك حتى نضرب عنقه وليبر عترته. فقال: انسبوني، أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم حتى انتسب إلى نزار، ثم مضى في نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله (1)، ثم قال: إني وأهل بيتي بطينة طيبة من تحت العرش إلى آدم نكاح غير سفاح لم يخالطنا نكاح الجاهلية.
تحدي الرسول صلى الله عليه وآله لهم في أنسابهم وآخرتهم
فسلوني، فوالله لا يسألني رجل عن أبيه وعن أمه وعن نسبه إلا أخبرته به.
فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ فقال صلى الله عليه وآله: أبوك فلان الذي تدعى إليه. فحمد الله
____________
(1). روي في البحار: ج 15 ص 107 نسب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى آدم عليه السلام هكذا: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن خزيمة بن مدركة بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت حمل بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن سروغ بن هود بن أرفخشذ بن متوشلخ بن سام بن نوح بن لمك بن إدريس بن مهلائيل بن زبارز بن قينان بن أنوش بن شيث وهو هبة الله بن آدم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 238
--------------------------------------------------------------------------------
وأثنى عليه وقال: لو نسبتني إلى غيره لرضيت وسلمت. ثم قام إليه رجل آخر فقال له:
من أبي؟ فقال: أبوك فلان - لغير أبيه الذي يدعى إليه - فارتد عن الإسلام. ثم قام إليه رجل آخر فقال: أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟ فقال: من أهل الجنة. ثم قام رجل آخر فقال: أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟ فقال: من أهل النار.
اعتراض عمر بإهانته لساحة رسول الله صلى الله عليه وآله القدسية
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله - وهو مغضب -: ما يمنع الذي عير أفضل أهل بيتي وأخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي أن يقوم فيسألني من أبوه وأين هو، أفي الجنة أم في النار؟
فقام إليه عمر بن الخطاب فقال (1): أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، أعف عنا يا رسول الله عفا الله عنك، أقلنا أقالك الله، استرنا سترك الله، اصفح عنا صلى الله عليك.
فاستحى رسول الله صلى الله عليه وآله فكف.
اعتراض عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في زكاة أموال العباس
قال علي عليه السلام: وهو صاحب العباس الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله ساعيا فرجع وقال: إن العباس قد منع صدقة ماله. فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: (الحمد لله الذي عافانا أهل البيت من شر ما يلطخونا به. إن العباس لم يمنع صدقة ماله ولكنك عجلت عليه وقد عجل زكاة سنين. ثم أتاني بعد ذلك يطلب أن أمشي معه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله شافعا ليرضى عنه، ففعلت.
اعتراض عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في الصلاة على جنازة المنافق
وهو صاحب عبد الله بن أبي سلول حين تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله ليصلي عليه فأخذ
____________
(1). في الفضائل: فعند ذلك خشي الثاني على نفسه أن يذكره رسول الله صلى الله عليه وآله ويفضحه بين الناس، فقام وقال:
بثوبه من ورائه فمده إليه من خلفه وقال: (قد نهاك الله أن تصلي عليه ولا يحل لك أن تصلي عليه) فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلك، قد آذيتني إنما صليت عليه كرامة لابنه، وإني لأرجو أن يسلم به سبعون رجلا من بني أبيه وأهل بيته. وما يدريك ما قلت، إنما دعوت الله عليه. (1)
اعتراض عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية
وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الحديبية (2) - حين كتب القضية - إذ قال له: أنعطي
____________
(1). روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 200 أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجع إلى المدينة مرض عبد الله بن أبي (وكان من المنافقين) وكان ابنه عبد الله بن عبد الله مؤمنا. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وأبوه يجود بنفسه فقال:
يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إنك لم تأت أبي عائدا كان ذلك عارا علينا. فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله والمنافقون عنده، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله، استغفر الله له. فاستغفر له. فقال عمر:
ألم ينهك الله - يا رسول الله - أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله، وأعاد عليه، فقال له: ويلك، إني خيرت فاخترت. إن الله يقول: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ".
فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن رأيت أن تحضر جنازته؟ فحضره رسول الله صلى الله عليه وآله وقام على قبره؟ فقال له عمر: يا رسول الله، ألم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبدا وأن تقوم على قبره؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلك وهل تدري ما قلت؟ إنما قلت:
" اللهم احش قبره نارا وجوفه نارا وأصله النار ". فبدا من رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن يحب.
(2). روي في البحار: ج 2 ص 334 عند ذكر كتاب الصلح الذي تصالح عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسهيل بن عمرو من جملة ما كتبوه أن سهيلا قال: (على أن لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا، ومن جاءنا ممن معك لم نرده عليك). فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من جاءهم منا فأبعده الله ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا)...
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: يا محمد، هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده... قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت. وكان قد عذب عذابا شديدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 240
--------------------------------------------------------------------------------
الدنية في ديننا؟ ثم جعل يطوف في عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله يشككهم ويحضضهم ويقول: (أنعطي الدنية في ديننا)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أفرجوا عني، أتريدون أن أغدر بذمتي؟ ولأفي لهم بما كتبت لهم، خذ يا سهيل بيد أبي جندل). فأخذه فشده وثاقا في الحديد. ثم جعل الله عاقبة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الخير والرشد والهدى والعزة والفضل.
اعتراض عمر يوم غدير خم
وهو صاحب يوم غدير خم إذ قال هو وصاحبه - حين نصبني رسول الله صلى الله عليه وآله لولايتي - فقال: (ما يألو أن يرفع خسيسته) وقال الآخر: (ما يألو رفعا بضبع ابن عمه) وقال لصاحبه - وأنا منصوب -: (إن هذه لهي الكرامة). فقطب صاحبه في وجهه وقال: لا والله لا أسمع له ولا أطيع أبدا ثم اتكأ عليه ثم تمطى وانصرفا، فأنزل الله فيه: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى) (1)، وعيدا من الله له وانتهارا.
اعتراض عمر في مرض علي عليه السلام واستهزاءه
وهو الذي دخل علي مع رسول الله صلى الله عليه وآله يعودني في رهط من أصحابه، حين غمزه صاحبه فقام وقال: يا رسول الله، إنك قد كنت عهدت إلينا في علي عهدا وإني لأراه لما به فإن هلك فإلى من؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إجلس، فأعادها ثلاث مرات، فأقبل عليهما رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إيه، والله إنه لا يموت في مرضه هذا. والله لا يموت حتى تملياه غيظا وتوسعاه غدرا وظلما، ثم تجداه صابرا قواما. ولا يموت حتى يلقى منكما هنات وهنات، ولا يموت إلا شهيدا مقتولا.
3
إتمام الحجة على أبي بكر وعمر وعثمان في خلافة علي عليه السلام
وأعظم من ذلك كله أن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع ثمانين رجلا، أربعين من العرب وأربعين من العجم - وهما فيهم - فسلموا علي بإمرة المؤمنين. ثم قال: (إني أشهدكم أن عليا أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي ووصيي في أهلي وولي كل مؤمن بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا)، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وسالم ومعاذ بن جبل ورهط من الأنصار. ثم قال:
(إني أشهد الله عليكم).
الانتخاب أو الانتصاب أو الشورى
ثم أقبل علي عليه السلام على القوم فقال: سبحان الله، مما أشربت قلوب هذه الأمة من بليتهما وفتنتهما، من عجلها وسامريها. إنهم أقروا وادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا وأنه أمر بالشورى وقال من قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا وإن نبي الله قال: (إن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت بين النبوة والخلافة)، وقد قال لأولئك الثمانين رجلا: (سلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين) وأشهدهم على ما أشهدهم عليه.
والعجب أنهم أقروا ثم ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا وأنهم أمروا بالشورى، ثم أقروا أنهم لم يشاوروا في أبي بكر وأن بيعته كانت فلتة. وأي ذنب أعظم من الفلتة.
ثم استخلف أبو بكر عمر ولم يقتد برسول الله صلى الله عليه وآله فيدعهم بغير استخلاف فقيل له في ذلك، فقال: (أدع أمة محمد كالنعل الخلق، أدعهم بغير أحد أستخلف عليهم)؟
طعنا منه على رسول الله صلى الله عليه وآله ورغبة عن رأيه!!
ثم صنع عمر شيئا ثالثا. لم يدعهم على ما ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف ولا استخلف كما استخلف أبو بكر، وجاء بشئ ثالث وجعلها شورى بين ستة نفر وأخرج منها جميع العرب. ثم حظى بذلك عند العامة، فجعلهم مع ما أشربت قلوبهم من الفتنة والضلالة أقراني!
ثم بايع ابن عوف عثمان فبايعوه، وقد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله في عثمان ما قد سمعوا من لعنه إياه في غير موطن. (1)
أبو بكر وعمر أسوء حالا من عثمان
فعثمان على ما كان عليه خير منهما.
ولقد قال منذ أيام قولا رققت له وأعجبتني مقالته. بينما أنا قاعد عنده في بيته إذ أتته عائشة وحفصة تطلبان ميراثهما من ضياع رسول الله صلى الله عليه وآله وأمواله التي بيده، فقال: (لا والله ولا كرامة لكما ولا نعمت عنه ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما. فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (النبي لا يورث، ما ترك فهو صدقة). ثم لقنتما أعرابيا جلفا يبول على عقبيه ويتطهر ببوله (مالك بن أوس بن الحدثان) فشهد معكما، ولم يكن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي. أما والله، ما أشك أنه قد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وكذبتما عليه معه. ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما فاذهبا فلا حق لكما.
فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه.
فقال: ارجعا، أليس قد شهدتما بذلك عند أبي بكر؟ قالتا: نعم. قال: فإن شهدتما بحق فلا حق لكما، وإن كنتما شهدتما بباطل فعليكما وعلى من أجاز شهادتكما على أهل هذا البيت لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال عليه السلام: ثم نظر إلي فتبسم ثم قال: يا أبا الحسن، أشفيتك منهما؟ قلت: نعم، والله
____________
(1). راجع عن لعن عثمان: الحديث 4 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 243
--------------------------------------------------------------------------------
وأبلغت وقلت حقا، فلا يرغم الله إلا آنافهما.
فرققت لعثمان وعلمت أنه إنما أراد بذلك رضاي وأنه أقرب منهما رحما وأكف عنا منهما، ح وإن كان لا عذر له ولا حجة بتأميره علينا وادعائه حقنا.
من احتجاجات أمير المؤمنين عليه السلام حول أبي بكر وعمر وعثمان
وصف رجال الحرب
أبان عن سليم، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول قبل وقعة صفين:
إن هؤلاء القوم لن ينيبوا إلى الحق ولا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم حتى يرموا بالعساكر تتبعها العساكر، وحتى يردفوا بالكتائب تتبعها الكتائب، وحتى يجر ببلادهم الخميس تتبعها الخميس، وحتى تشن الغارات عليهم من كل فج عميق، وحتى يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله.
الصحبة الصادقون مع رسول الله صلى الله عليه وآله
والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آبائنا وأبنائنا وأخوالنا وأعمامنا وأهل بيوتاتنا، ثم لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما وجدا في طاعة الله واستقلالا بمبارزة الأقران. وإن كان الرجل منا والرجل من عدونا ليتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس الموت. فمرة لنا من عدونا ومره لعدونا منا. فلما رآنا الله صدقا وصبرا أنزل الكتاب بحسن الثناء علينا والرضا عنا وأنزل علينا النصر.
فرار أبي بكر وعمر في الحروب وسوء أدبهما عند الصلح
ولست أقول: إن كل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك، ولكن أعظمهم وجلهم وعامتهم كانوا كذلك. ولقد كانت معنا بطانة لا تألونا خبالا. قال الله عز وجل: (قد بدت
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 245
--------------------------------------------------------------------------------
البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر " (1).
ولقد كان منهم بعض من تفضله أنت وأصحابك - يا ابن قيس - فارين، فلا رمى بسهم ولا ضرب بسيف ولا طعن برمح (2). إذا كان الموت والنزال لاذ وتوارى واعتل، ولاذ كما تلوذ النعجة العوراء لا تدفع يد لامس، وإذا لقي العدو فر ومنح العدو دبره جبنا ولؤما (3)، وإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم، كما قال الله: " سلقوكم بألسنة حداد
____________
(1) سورة آل عمران: الآية 118. وقوله " لا تألونا خبالا " أي لا تقصرون في فساد الأمور.
(2) روي في البحار: ج 29 ص 564 خطبة أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال فيه:
يا معشر المجاهدين المهاجرين والأنصار أين كانت سبقة تيم وعدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة؟ إلا كانت يوم الأبواء إذ تكاثفت الصفوف، وتكاثرت الحتوف، وتقارعت السيوف؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ود وقد نفح بسيفه، وشمخ بأنفه، وطمح بطرفه؟ ولم لم يشفقا على الدين وأهله يوم بواط إذ اسود لون الأفق، وأعوج عظم العنق، وانحل سيل الغرق؟ ولم لم يشفقا يوم رضوى إذ السهام تطير، والمنايا تسير، والأسد تزأر؟ وهلا بادرا يوم العشيرة إذ الأسنان تصطك، والأذان تستك، والدروع تهتك؟ وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي، والجياد بالصناديد ترتدي، والأرض من دماء الأبطال ترتوي؟ ولم لم يشفقا على الدين يوم بدر الثانية، والرعابيب ترعب، والأوداج تشخب، والصدور تخضب؟ أم هلا بادرا يوم ذات الليوث، وقد أبيح المتولب، واصطلم الشقب، وادلهم الكوكب؟ ولم لا كانت شفقتهما على الإسلام يوم الكدر، والعيون تدمع، والمنية تلمع، والصفائح تنزع.
ثم عدد وقائع النبي صلى الله عليه وآله كلها على هذا النسق، وقرعهما بأنهما في هذه المواقف كلها كانا من النظارة والخوالف والقاعدين، فكيف بادرا الفتنة بزعمهما يوم السقيفة وقد توطأ الإسلام بسيفه، واستقر قراره، وزال حذاره.
(3) روي في البحار: ج 20 ص 228: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر عمر بن الخطاب في يوم الخندق أن يبارز ضرار بن الخطاب، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهما. فقال ضرار: ويلك يا بن صهاك، أرمي في مبارزة؟
والله لئن رميتني لا تركت عدويا بمكة إلا قتلته. فانهزم عنه عمر ومر نحوه ضرار وضرب بالقناة على رأسه، ثم قال: احفظها يا عمر، فإني آليت أن لا أقتل قرشيا ما قدرت عليه. فكان عمر يحفظ له ذلك بعد ما ولي، وولاه!!
وروي في البحار: ج 21 ص 11 ح 7 عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث سعد بن معاذ براية الأنصار إلى خيبر فرجع منهزما. ثم بعث عمر بن الخطاب براية المهاجرين فأتي بسعد جريحا، وجاء عمر يجبن أصحابه ويجبنونه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 246
--------------------------------------------------------------------------------
أشحة على الخير). (1)
فلا يزال قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في ضرب عنق الرجل الذي ليس يريد رسول الله صلى الله عليه وآله قتله، فأبى عليه. (2) ولقد نظر رسول الله صلى الله عليه وآله يوما وعليه السلاح تام،
____________
(1). سورة الأحزاب: الآية 19.
(2). روي في البحار: ج 19 ص 271 عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لما كان يوم بدر وأسرت الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ترون في هؤلاء القوم؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، هم الذين كذبوك وأخرجوك فاقتلهم!!
وروي في البحار: ج 21 ص 94 و 121، وصحيح البخاري: ج 5 ص 9، و ج 8 ص 54، والكشاف للزمخشري: ج 4 ص 511، وتاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 58:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتجهز لفتح مكة، فأتى حاطب بن أبي بلتعة إلى سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام وهي تريد مكة، فكتب معها كتابا إلى أهل مكة... وكتب في الكتاب: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: إن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم). فخرجت سارة.
ونزل جبرئيل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله بما فعل. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام... فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأرسل إلى حاطب فأتاه فقال له: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ صحبتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عزيزا فيهم - أي غريبا - وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي فأردت أ ن أتخذ عندهم يدا. وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وآله وعذره.
فقام عمر بن الخطاب وقال: دعني - يا رسول الله - أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وروي في البحار: ج 21 ص 103 عند ذكر فتح مكة أنه لما أجار العباس أبا سفيان وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله دخل عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه!
وروي في البحار: ج 19 ص 241 و 271 و 277 و 281، ج 21 ص 158 و 173، ودلائل النبوة للبيهقي: ج 3 ص 140: أن ابن الأكوع كان عينا على النبي صلى الله عليه وآله أيام الفتح وأسر يوم حنين. فمر به عمر بن الخطاب، فلما رآه أقبل على رجل من الأنصار وقال: هذا عدو الله الذي كان علينا عينا، ها هو أسير فاقتله. فضرب الأنصاري عنقه، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فكره ذلك وقال: ألم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا؟ وقتل بعده جميل بن معمر بن زهير وهو أسير، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الأنصار وهو مغضب فقال: ما حملكم على قتله وقد جاءكم الرسول أن لا تقتلوا أسيرا؟ فقالوا: إنما قتلناه بقول عمر. فأعرض رسول الله صلى الله عليه وآله حتى كلمه عمير بن وهب في الصفح عن ذلك.
وروي في صحيح البخاري: ج 8 ص 52: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم جاء عبد الله التميمي من ذي الخويصرة فقال: اعدل يا رسول الله فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. قال عمر بن الخطاب:
دعني أضرب عنقه فقال صلى الله عليه وآله: دعه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 247
--------------------------------------------------------------------------------
فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال - يكنيه -: (أبا فلان، اليوم يومك)!!
فقال الأشعث: ما أعلمني بمن تعني إن ذلك يفر منه الشيطان (1) قال عليه السلام: يا بن قيس، لا آمن الله روعة الشيطان إذ قال!
إخبار أمير المؤمنين عليه السلام عن عاقبة أمر أصحابه
ثم قال: ولو كنا - حين كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وتصيبنا الشدائد والأذى والبأس - فعلنا كما تفعلون اليوم لما قام لله دين ولا أعز الله الإسلام. وأيم الله لتحتلبنها دما وندما وحسرة، فاحفظوا ما أقول لكم واذكروه. فليسلطن عليكم شراركم والأدعياء منكم والطلقاء والطرداء والمنافقون، فليقتلنكم ثم لتدعن الله فلا يستجيب لكم ولا يرفع البلاء عنكم حتى تتوبوا وترجعوا فإن تتوبوا وترجعوا يستنقذكم الله من فتنتهم وضلالتهم كما استنقذكم من شركم وجهالتكم.
التعجب من استخلاف أبي بكر وعمر وعثمان على الأمة!!
ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة وضلالها وقادتها وساقتها إلى النار لأنهم قد سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول عودا وبدءا: (ما ولت أمة رجلا قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا)، فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن ولا يدعي أن له علما بكتاب الله ولا سنة نبيه.
وقد علموا يقينا أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله،
____________
(1). يريد بذلك عمر، وقد اختلقوا له حديثا: (إن الشيطان يفر منه). راجع الغدير: ج 5 ص 311 و ج 8 ص 64 و 94. وراجع الحديث 10 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 248
--------------------------------------------------------------------------------
وأقضاهم بحكم الله.
وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله ولا عناء معه في جميع مشاهده، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف جبنا ولؤما ورغبة في البقاء.
وقد علموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف وقتل مسجع بن عوف. (1) وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك. (2)
وقد علموا يقينا أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي، ولا يبارز الأبطال ولا يفتح الحصون غيري، ولا نزلت برسول الله صلى الله عليه وآله شديدة قط ولا كربة أمر ولا ضيق ومستصعب من الأمر إلا قال: (أين أخي علي، أين سيفي، أين رمحي، أين المفرج غمي عن وجهي)، فيقدمني، فأتقدم فأفديه بنفسي ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه. ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول حيث خصني بذلك ووفقني له.
لم يكن لأبي بكر وعمر أي سابقة في الدين
وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ولا فتح ولا نصر غير مرة واحدة، ثم فر ومنح عدوه دبره ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه وقد فر مرارا!(3)
____________
(1). روي في البحار: ج 18 ص 68 و 69 و 74 و 95: أن أبي بن خلف قال للنبي صلى الله عليه وآله بمكة: إني أعلف العوراء - يعني فرسا له - أقتلك عليه . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لكن أنا إن شاء الله. فلقي يوم أحد، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وآله الحربة من الحارث بن الصمة، فمشى إليه فطعن وانصرف. فرجع إلى قريش وهو يقول:
قتلني محمد. قالوا: ما بك بأس قال: إنه قال لي بمكة: (إني أقتلك) ولو بصق علي لقتلني. فمات بشرف. وقصة مسجع لم أعثر عليه.
(2). في البحار: ج 16 ص 117: ومن أسمائه صلى الله عليه وآله (القتال)، (سيفه على عاتقه)، سمي بذلك لحرصه على الجهاد ومسارعته إلى القراع ودؤوبه في ذات الله وعدم إحجامه. ولذلك قال علي عليه السلام: (كنا إذا احمر البأس اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن أحد أقرب إلى العدو منه). وذلك مشهور من فعله يوم أحد إذ ذهب القوم في سمع الأرض وبصرها، ويوم حنين إذ ولوا مدبرين.
(3). روي في البحار: ج 20 ص 107 ح 24: أنه لما انهزم الناس يوم أحد عن النبي صلى الله عليه وآله انصرف إليهم بوجهه وهو يقول: (أنا محمد...). فالتفت إليه أبو بكر وعمر فقالا: الآن يسخر بنا أيضا وقد هزمنا وأورد في البحار: ج 21 ص 70 انهزامهما في غزوة ذات السلاسل.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 249
--------------------------------------------------------------------------------
فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير وأمر ونهى.
ولقد نادى ابن عبد ود - يوم الخندق - باسمه، فحاد عنه ولاذ بأصحابه (1) حتى تبسم رسول الله صلى الله عليه وآله مما رآى به من الرعب وقال صلى الله عليه وآله: (أين حبيبي علي؟ تقدم يا حبيبي يا علي).
عبادتهما الأصنام بعد الإسلام!!
وهو القائل يوم الخندق لأصحابه الأربعة - أصحاب الكتاب والرأي -: (والله إن ندفع محمدا إليهم برمته نسلم من ذلك، حين جاء العدو من فوقنا ومن تحتنا) كما قال الله تعالى: (وزلزلوا زلزالا شديدا)، (وظنوا بالله الظنونا)، (وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا). (2) فقال له صاحبه: (لا، ولكن نتخذ صنما عظيما نعبده لأنا لا نأمن أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا ولكن يكون هذا الصنم لنا ذخرا فإن ظفرت قريش أظهرنا عبادة هذا الصنم (3) وأعلمناهم أنا لن نفارق ديننا، وإن رجعت دولة ابن أبي كبشة كنا مقيمين على عباد ة هذا الصنم سرا).
فنزل جبرئيل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وآله بذلك، ثم خبر به رسول الله صلى الله عليه وآله بعد قتلي ابن عبد ود. فدعاهما فقال: (كم صنم عبدتما في الجاهلية)؟ فقالا: يا محمد، لا تعيرنا بما مضى في الجاهلية. فقال صلى الله عليه وآله لهما: (فكم صنم تعبدان يومكما هذا)؟ فقالا: والذي بعثك بالحق نبيا ما نعبد إلا الله منذ أظهرنا من دينك ما أظهرنا.
____________
(1). روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 336: إن عمرو بن عبد ود رآى بيد عمر بن الخطاب (يوم الخندق) قوسا فقال: يا بن صهاك، واللات لئن نقل عن يدك سهم لأقطعنها فتناثر النبل من يده ورجع القهقرى.
(2). سورة الأحزاب: الآيات 10 و 11 و 12، وفي المصحف هكذا: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا).
(3). قد أورد قصة عبادتهما للصنم المرندي في (مجمع النورين): ص 229 عن كتاب المحتضر.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 250
--------------------------------------------------------------------------------
فقال: يا علي، خذ هذا السيف، فانطلق إلى موضع كذا وكذا فاستخرج الصنم الذي يعبدانه فاهشمه. فإن حال بينك وبينه أحد فاضرب عنقه.
فانكبا على رسول الله صلى الله عليه وآله فقالا: استرنا سترك الله. فقلت أنا لهما: (اضمنا لله ولرسوله أن لا تعبدا إلا الله ولا تشركا به شيئا). فعاهدا رسول الله صلى الله عليه وآله على ذلك.
وانطلقت حتى استخرجت الصنم من موضعه وكسرت وجهه ويديه وجذمت رجليه، ثم انصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. فوالله لقد عرفت ذلك في وجههما علي حتى ماتا!
مخاصمة أبي بكر وعمر للأنصار بحجة علي عليه السلام
ثم انطلق هو وأصحابه - حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله - فخاصموا الأنصار بحقي. فإن كانوا صدقوا واحتجوا بحق (أنهم أولى من الأنصار لأنهم من قريش ورسول الله صلى الله عليه وآله من قريش)، فمن كان أولى برسول الله صلى الله عليه وآله كان أولى بالأمر، وإنما ظلموني حقي، وإن كانوا احتجوا بباطل فقد ظلموا الأنصار حقهم، والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا.
ابتلاء الأمة بحب مضليها وقصورها عن لعنهم
والعجب لما قد أشربت قلوب هذه الأمة من حبهم وحب من صدهم عن سبيل ربهم وردهم عن دينهم!
والله، لو أن هذه الأمة قامت على أرجلها على التراب ووضعت الرماد على رؤوسها وتضرعت إلى الله ودعت إلى يوم القيامة على من أضلهم وصدهم عن سبيل الله ودعاهم إلى النار وعرضهم لسخط ربهم وأوجب عليهم عذابه - بما أجرموا إليهم - لكانوا مقصرين في ذلك.
ما منع أمير المؤمنين عليه السلام عن إعلان الحقائق
وذلك أن المحق الصادق والعالم بالله ورسوله يتخوف إن غير شيئا من بدعهم
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 251
--------------------------------------------------------------------------------
وسننهم وأحداثهم، وعادته العامة، ومتى فعل شاقوه وخالفوه وتبرؤا منه وخذلوه وتفرقوا عن حقه، وإن أخذ ببدعهم وأقر بها وزينها ودان بها أحبته وشرفته وفضلته.
والله لو ناديت في عسكري هذا بالحق الذي أنزل الله على نبيه وأظهرته ودعوت إليه وشرحته وفسرته - على ما سمعت من نبي الله صلى الله عليه وآله فيه - ما بقي فيه إلا أقله وأذله وأرذله ولاستوحشوا منه ولتفرقوا عني.
ولولا ما عاهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلي وسمعته منه وتقدم إلي فيه لفعلت، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله قد قال: (يا أخي، كل ما اضطر إليه العبد فقد أحله الله له وأباحه إياه)، وسمعته يقول: (إن التقية من دين الله، ولا دين لمن لا تقية له). ثم أقبل عليه السلام علي فقال:
أدفعهم بالراح دفعا عني ثلثان من حي وثلث مني
فإن عوضني ربي فأعذرني
ابتلاء أمير المؤمنين عليه السلام بأخابث الناس
وقال علي عليه السلام للحكمين - حين بعثهما -: (أحكما بكتاب الله وسنة نبيه وإن كان فيهما حز حلقي، فإنه من قادها إلى هؤلاء فإن نيتهم أخبثت).
فقال له رجل من الأنصار: ما هذا الانتشار الذي بلغني عنك؟ ما كان أحد من الأمة أضبط للأمر منك، فما هذا الاختلاف والانتشار؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: أنا صاحبك الذي تعرف، إلا أني قد بليت بأخابث من خلق الله، أريدهم على الأمر فيأبون، فإن تابعتهم على ما يريدون تفرقوا عني!
نبوءات نبي الله عيسى عليه السلام عن الرسول والأئمة عليهم السلام والأئمة المضلين
أبان عن سليم: قال: أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام، فنزل العسكر قريبا من دير نصراني. فخرج إلينا من الدير شيخ كبير جميل حسن الوجه حسن الهيئة والسمت ومعه كتاب في يده، حتى أتى أمير المؤمنين عليه السلام فسلم عليه بالخلافة. فقال له علي عليه السلام: مرحبا يا أخي شمعون بن حمون، كيف حالك رحمك الله؟
فقال: بخير يا أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووصي رسول رب العالمين. إني من نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم عليه السلام، وأنا من نسل شمعون بن يوحنا وصي عيسى بن مريم. وكان من أفضل حواري عيسى بن مريم عليه السلام الاثني عشر وأحبهم إليه وآثرهم عنده وإليه أوصى عيسى بن مريم عليه السلام وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته فلم يكفروا ولم يبدلوا ولم يغيروا.
النبي والأئمة الاثني عشر عليهم السلام في كتب عيسى عليه السلام
وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم وخط أبينا بيده، وفيها كل شئ يفعل الناس من بعده ملك ملك، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم، حتى يبعث الله رجلا من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن من أرض تدعى (تهامة) من قرية يقال لها (مكة)، يقال له (أحمد)، الأنجل العينين، المقرون الحاجبين، صاحب الناقة والحمار والقضيب والتاج - يعني العمامة - له اثنا عشر اسما.
ثم ذكر مبعثه ومولده وهجرته ومن يقاتله ومن ينصره ومن يعاديه وكم يعيش وما تلقى أمته من بعده من الفرقة والاختلاف.
وفيه تسمية كل إمام هدى وإمام ضلالة إلى أن ينزل الله عيسى بن مريم من السماء.
فذكر في الكتاب ثلاثة عشر رجلا (1) من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، هم خير من خلق الله وأحب من خلق الله إلى الله. وإن الله ولي من والاهم وعدو من عاداهم. من أطاعهم اهتدى ومن عصاهم ضل. طاعتهم لله طاعة ومعصيتهم لله معصية.
مكتوبة فيه أسمائهم وأنسابهم ونعتهم وكم يعيش كل رجل منهم واحدا بعد واحد، وكم رجل منهم يستسر بدينه ويكتمه من قومه، ومن يظهر منهم ومن يملك وينقاد له الناس حتى ينزل الله عيسى بن مريم عليه السلام على آخرهم. فيصلي عيسى خلفه ويقول: (إنكم أئمة لا ينبغي لأحد أن يتقدمكم)، فيتقدم فيصلي بالناس وعيسى خلفه في الصف الأول. أولهم أفضلهم، وآخرهم له مثل أجورهم وأجور من أطاعهم واهتدى بهداهم.
نص ما في كتب عيسى عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد رسول الله واسمه محمد وياسين وطه ون والفاتح والخاتم والحاشر والعاقب والماحي، وهو نبي الله وخليل الله وحبيب الله وصفيه وأمينه وخيرته. يرى تقلبه في الساجدين - يعني في أصلاب النبيين - ويكلمه برحمته فيذكر إذا ذكر. وهو أكرم خلق الله على الله وأحبهم إلى الله، لم يخلق الله خلقا - ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، من آدم فمن سواه - خيرا عند الله ولا أحب إلى الله منه، يقعده الله يوم القيامة على عرشه ويشفعه في كل من شفع فيه. وباسمه جرى القلم في اللوح المحفوظ في أم الكتاب وبذكره، محمد رسول الله.
ثم أخوه صاحب اللواء يوم القيامة يوم الحشر الأكبر، وأخوه ووصيه ووزيره،
____________
(1). هم النبي والأئمة الاثني عشر عليهم السلام.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 254
--------------------------------------------------------------------------------
وخليفته في أمته، وأحب خلق الله إلى الله بعده علي بن أبي طالب ولي كل مؤمن بعده.
ثم أحد عشر إماما من ولد أول الاثني عشر، اثنان سميا ابني هارون شبر وشبير وتسعة من ولد أصغرهما وهو الحسين، واحدا بعد واحد، آخرهم الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه). (1)
فيه تسمية كل من يملك منهم ومن يستسر بدينه ومن يظهر. فأول من يظهر منهم يملأ جميع بلاد الله قسطا وعدلا، ويملك ما بين المشرق والمغرب حتى يظهره الله على الأديان كلها.
فلما بعث النبي - وأبي حي - صدق به وآمن به وشهد أنه رسول الله، وكان شيخا كبيرا ولم يكن به شخوص. فمات أبي وقال لي: (إن وصي محمد وخليفته - الذي اسمه في هذا الكتاب ونعته - سيمر بك إذا مضى ثلاثة أئمة من أئمة الضلالة والدعاة إلى النار المسمين بأسمائهم وقبائلهم فلان وفلان وفلان ونعتهم وكم يملك كل واحد منهم، فإذا مر بك فاخرج إليه وبايعه وقاتل معه عدوه فإن الجهاد معه كالجهاد مع محمد، والموالي له كالموالي لمحمد والمعادي له كالمعادي لمحمد).
الأخبار عن أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الغاصبين في كتب عيسى عليه السلام
وفي هذا الكتاب - يا أمير المؤمنين - إن اثني عشر إماما من قريش من قومه يعادون أهل بيته ويمنعونهم حقهم ويقتلونهم ويطردونهم ويحرمونهم ويتبرؤون منهم ويخيفونهم، مسمون واحدا بعد واحد بأسمائهم ونعوتهم، وكم يملك كل رجل منهم وما يملك، وما يلقى منهم ولدك وأنصارك وشيعتك من القتل والخوف والبلاء.
وكيف يديلكم الله منهم ومن أوليائهم وأنصارهم وما يلقون من الذل والحرب والبلاء والخزي والقتل والخوف منكم أهل البيت.
____________
(1). هنا آخر النص الذي ينقله من كتاب الراهب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 255
--------------------------------------------------------------------------------
الراهب يبايع أمير المؤمنين عليه السلام
ثم قال: يا أمير المؤمنين، ابسط يدك أبايعك، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأشهد أنك خليفة رسول الله في أمته ووصيه وشاهده على خلقه وحجته في أرضه، وإن الإسلام دين الله وإني أبرء من كل دين خالف دين الإسلام، فإنه دين الله الذي اصطفاه لنفسه ورضيه لأوليائه، وإنه دين عيسى بن مريم ومن كان قبله من أنبياء الله ورسله، وهو الذي دان به من مضى من آبائي. وإني أتولاك وأتولى أوليائك، وأبرء من عدوك وأتولى الأحد عشر الأئمة من ولدك وأبرء من عدوهم وممن خالفهم وبرء منهم وادعى حقهم وظلمهم من الأولين والآخرين. ثم تناول يده وبايعه.
ثم قال له أمير المؤمنين عليه السلام: ناولني كتابك، فناوله إياه. فقال علي عليه السلام لرجل من أصحابه: قم مع هذا الرجل فانظر ترجمانا يفهم كلامه، فلينسخه لك بالعربية مفسرا.
فأتاه مكتوبا بالعربية.
فلما أتاه به قال لابنه الحسن عليه السلام: يا بني، ائتني بالكتاب الذي دفعته إليك. فأتاه به، فقال: أنت يا بني اقرأه، وانظر أنت يا فلان - الذي تستجهل - في نسخة هذا الكتاب، فإنه خطي بيدي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله علي.
فقرأه فما خالف حرفا واحدا ليس فيه تقديم ولا تأخير، كأنه إملاء رجل واحد على رجلين!
فحمد الله أمير المؤمنين عليه السلام وأثنى عليه وقال: (الحمد لله الذي لو شاء لم تختلف الأمة ولم تفترق، والحمد لله الذي لم ينسني ولم يضع أمري ولم يخمل ذكري عنده وعند أوليائه إذ صغر وخمل ذكر أولياء الشيطان وحزبه).
ففرح بذلك من حضر عند أمير المؤمنين عليه السلام من شيعته وشكر، وساء ذلك كثيرا ممن حوله حتى عرفنا ذلك في وجوههم وألوانهم.
أبان عن سليم بن قيس قال: صعد أمير المؤمنين عليه السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أيها الناس، أنا الذي فقأت (1) عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها غيري. وأيم الله لو لم أكن فيكم لما قوتل أهل الجمل ولا أهل صفين ولا أهل النهروان. وأيم الله لولا أن تتكلموا وتدعوا العمل لحدثتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله لمن قاتلهم مستبصرا في ضلالتهم عارفا بالهدى الذي نحن عليه.
ثم قال عليه السلام: سلوني عما شئتم قبل أن تفقدوني، فوالله إني بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض. أنا يعسوب المؤمنين وأول السابقين وإمام المتقين وخاتم الوصيين ووارث النبيين وخليفة رب العالمين. أنا ديان الناس يوم القيامة وقسيم الله بين أهل الجنة والنار، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الذي أفرق بين الحق والباطل، وإن عندي علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب، وما من آية نزلت إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت.
أيها الناس، إنه وشيك أن تفقدوني، إني مفارقكم وإني ميت أو مقتول. ما ينتظر أشقاها أن يخضبها من فوقها؟ يعني لحيته من دم رأسه.
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا تسألوني من فئة تبلغ ثلاثمائة فما فوقها فيما
____________
(1). أي قلعت.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 257
--------------------------------------------------------------------------------
بينكم وبين قيام الساعة إلا أنبأتكم بسائقها وقائدها وناعقها (1)، وبخراب العرصات متى تخرب ومتى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة.
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن البلايا.
فقال عليه السلام: إذا سأل سائل فليعقل وإذا سئل مسؤول فليلبث. إن من ورائكم أمورا ملتجة مجلجلة (2) وبلاء مكلحا مبلحا. (3)
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو قد فقدتموني ونزلت عزائم الأمور وحقائق البلاء لقد أطرق كثير من السائلين واشتغل كثير من المسؤولين. وذلك إذا ظهرت حربكم ونصلت عن ناب وقامت عن ساق وصارت الدنيا بلاء عليكم حتى يفتح الله لبقية الأبرار.
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، حدثنا عن الفتن.
فقال عليه السلام: إن الفتن إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت أسفرت. وإن الفتن لها موج كموج البحر وإعصار كإعصار الريح، تصيب بلدا وتخطئ الآخر. فانظروا أقواما كانوا أصحاب الرايات يوم بدر فانصروهم تنصروا وتؤجروا وتعذروا.
فتنة بني أمية أخوف الفتن
ألا إن أخوف الفتن عليكم من بعدي فتنة بني أمية. إنها فتنة عمياء صماء مطبقة مظلمة، عمت فتنتها وخصت بليتها. أصاب البلاء من أبصر فيها وأخطأ البلاء من عمي عنها. أهل باطلها ظاهرون على أهل حقها، يملؤون الأرض بدعا وظلما وجورا. وأول من يضع جبروتها ويكسر عمودها وينزع أوتادها الله رب العالمين وقاصم الجبارين.
____________
(1). تشبيه بالراعي إذا نعق بغنمه أي صاح بها وزجرها.
(2). أي مضطربة مرددة.
(3). أي مفزعة معجزة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 258
--------------------------------------------------------------------------------
ألا إنكم ستجدون بني أمية أرباب سوء بعدي كالناب الضروس تعض بفيها وتخبط بيديها وتضرب برجليها وتمنع درها.
وأيم الله، لا تزال فتنتهم حتى لا تكون نصرة أحدكم لنفسه إلا كنصرة العبد السوء لسيده، إذا غاب سبه وإذا حضر أطاعه. وأيم الله لو شردوكم تحت كل كوكب لجمعكم الله لشر يوم لهم.
فتن ما بعد بني أمية
فقال الرجل: فهل من جماعة - يا أمير المؤمنين - بعد ذلك؟ قال عليه السلام: إنها ستكونون جماعة شتى، عطاؤكم وحجكم وأسفاركم واحد والقلوب مختلفة.
قال: قال واحد: كيف تختلف القلوب؟ قال عليه السلام: هكذا - وشبك بين أصابعه - ثم قال: يقتل هذا هذا وهذا هذا، هرجا هرجا ويبقى طغام جاهلية ليس فيها منار هدى ولا علم يرى. نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة.
قال: فما أصنع في ذلك الزمان يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: انظروا أهل بيت نبيكم، فإن لبدوا فالبدوا وإن استنصروكم فانصروهم تنصروا وتعذروا، فإنهم لن يخرجوكم من هدى ولن يدعوكم إلى ردى، ولا تسبقوهم بالتقدم فيصرعكم البلاء وتشمت بكم الأعداء.
يفرج الله عن الفتن بالإمام المهدي عليه السلام
قال: فما يكون بعد ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: يفرج الله البلاء برجل من بيتي كانفراج الأديم من بيته. ثم يرفعون إلى من يسومهم خسفا ويسقيهم بكأس مصبرة ولا يعطيهم ولا يقبل منهم إلا السيف، هرجا هرجا، يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر حتى تود قريش بالدنيا وما فيها أن يروني مقاما واحدا فأعطيهم وآخذ منهم بعض ما قد منعوني وأقبل منهم بعض ما يرد عليهم حتى يقولوا: (ما هذا من قريش، لو
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 259
--------------------------------------------------------------------------------
كان هذا من قريش ومن ولد فاطمة لرحمنا) يغريه الله ببني أمية فيجعلهم تحت قدميه ويطحنهم طحن الرحى. (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). (1)
أهل البيت عليهم السلام هم الملجأ في الفتن
أما بعد، فإنه لا بد من رحى تطحن ضلالة، فإذا طحنت قامت على قطبها. ألا وإن لطحنها روقا وإن روقها حدها وعلى الله فلها.
ألا وإني وأبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلمهم كبارا. معنا راية الحق والهدى، من سبقها مرق ومن خذلها محق ومن لزمها لحق.
إنا أهل بيت من علم الله علمنا، ومن حكم الله الصادق قيلنا، ومن قول الصادق سمعنا. فإن تتبعونا تهتدوا ببصائرنا وإن تتولوا عنا يعذبكم الله بأيدينا أو بما شاء.
نحن أفق الإسلام، بنا يلحق المبطئ وإلينا يرجع التائب.
والله لولا أن تستعجلوا ويتأخر الحق لنبأتكم بما يكون في شباب العرب والموالي، فلا تسألوا أهل بيت محمد العلم قبل إبانه، ولا تسألوهم المال على العسر فتبخلوهم، فإنه ليس منهم البخل.
وكونوا أحلاس البيوت، ولا تكونوا عجلا بذرا. كونوا من أهل الحق تعرفوا به وتتعارفوا عليه، فإن الله خلق الخلق بقدرته وجعل بينهم الفضائل بعلمه وجعل منهم عبادا اختارهم لنفسه ليحتج بهم على خلقه. فجعل علامة من أكرم منهم طاعته وعلامة من أهان منهم معصيته. وجعل ثواب أهل طاعته النضرة في وجهه في دار الأمن والخلد الذي لا يورع أهله، وجعل عقوبة أهل معصيته نارا تأجج لغضبه، (وما ظلمهم
____________
(1). سورة الأحزاب: الآية 62. وفي المتن: وأخذوا.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 260
--------------------------------------------------------------------------------
الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). (1)
يا أيها الناس، إنا أهل بيت بنا ميز الله الكذب، وبنا يفرج الله الزمان الكلب وبنا ينزع الله ربق الذل من أعناقكم وبنا يفتح الله وبنا يختم الله. فاعتبروا بنا وبعدونا وبهدانا وبهداهم وبسيرتنا وسيرتهم وميتتنا وميتتهم، يموتون بالدال والقرح والدبيلة، ونموت بالبطن والقتل والشهادة.
بلاء آل محمد عليهم السلام في الفتن
ثم التفت عليه السلام إلى بنيه فقال: يا بني، ليبر صغاركم كباركم، وليرحم كبار كم صغاركم، ولا تكونوا أمثال السفهاء الجفاة الجهال الذين لا يعطون في الله اليقين، كبيض بيض في داح. (2)
ألا ويح للفراخ فراخ آل محمد من خليفة يستخلف، جبار (3) عتريف مترف يقتل خلفي وخلف الخلف بعدي.
أما والله، لقد علمت تبليغ الرسالات وتنجيز العدات وتمام الكلمات وفتحت لي الأسباب وعلمت الأنساب وأجري لي السحاب، ونظرت في الملكوت فلم يعزب عني شئ فات ولم يفتني ما سبقني ولم يشركني أحد فيما أشهدني ربي يوم يقوم الأشهاد. وبي يتم الله موعده ويكمل كلماته، وأنا النعمة التي أنعمها الله على خلقه، وأنا الإسلام الذي ارتضاه لنفسه، كل ذلك من من الله به علي وأذل به منكبي.
وليس إمام إلا وهو عارف بأهل ولايته، وذلك قول الله عز وجل: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد). (4)
ثم نزل، صلى الله عليه وآله الطاهرين الأخيار وسلم تسليما كثيرا.
____________
(1). سورة النحل: الآية 33.
(2). الداح نقش يلوح به للصبيان يعللون به.
(3). العتريف بمعنى الخبيث الفاجر. وفي (د): الغطريف، بمعنى المتكبر.
(4). سورة الرعد: الآية 7.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 261
--------------------------------------------------------------------------------
(18)
1
تأثير الميل إلى الدنيا في علم الإنسان ودينه
قال سليم بن قيس: سمعت أبا الحسن عليه السلام يحدثني ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله قال:
منهومان لا يشبعان: منهوم في الدنيا لا يشبع منها، ومنهوم في العلم لا يشبع منه. فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم، ومن تناولها من غير حلها هلك إلا أن يتوب ويراجع. ومن أخذ العلم من أهله وعمل به نجا، ومن أراد به الدنيا هلك وهو حظه.
والعلماء عالمان: عالم عمل بعلمه فهو ناج، وعالم تارك لعلمه فهو هالك. إن أهل النار ليتأذون من نتن ريح العالم التارك لعلمه. وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له، فأطاع الله فدخل الجنة وعصى الله الداعي فأدخل النار بتركه علمه واتباعه هواه وعصيانه لله.
إنما هما اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة.
إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنما اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.
وإنما ابتداء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله، يتولى فيها رجال رجالا ويتبرء رجال من رجال. ألا إن الحق لو خلص لم يكن فيه اختلاف وإن الباطل لو خلص لم يخف على ذي حجى، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيحسبان معا، فهنالك استولى الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم منا الحسنى.
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الوليد ويزيد (1) فيها الكبير، يجري الناس عليها فيتخذونها سنة، فإذا غير منها شئ قيل: (إن الناس قد أتوا منكرا)!!
ثم يشتد البلاء وتسبى الذرية وتدقهم الفتن كما تدق النار الحطب وكما تدق الرحى بثفالها (2)، يتفقه الناس لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة.
2
كلام أمير المؤمنين عليه السلام عن بدع أبي بكر وعمر وعثمان
ثم أقبل عليه السلام بوجهه على ناس من أهل بيته وشيعته فقال: والله لقد عملت الأئمة قبلي بأمور عظيمة خالفت فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين، لو حملت الناس على تركها وتحويلها عن موضعها إلى ما كانت تجري عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرق عني جندي، حتى لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي الذين إنما عرفوا فضلي وإمامتي من
____________
(1). أي ينمو.
(2). الثفال: حجر الرحى الأسفل.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 263
--------------------------------------------------------------------------------
كتاب الله وسنة نبيه لا من غيرهما أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام، ورددت صاع رسول الله صلى الله عليه وآله ومده إلى ما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله لأهلها ورددت دار جعفر بن أبي طالب إلى ورثته وهدمتها من المسجد (1)، ورددت قضايا من قضى من كان قبلي بجور، ورددت ما قسم من أرض خيبر (2)، ومحوت ديوان الأعطية (3) وأعطيت كما كان يعطي رسول الله (ص). (صلى الله عليه وآله
____________
(1). راجع الحديث 14 من هذا الكتاب. وقوله (رددت قضايا من قضى...)، القضى والقضاء بمعنى واحد.
(2) روى ابن شبة في تاريخ المدينة المنورة: ج 1 ص 185 وأحمد في مسنده: ج 6 ص 330: أنه لما أخرج عمر اليهود من خيبر ركب في المهاجرين والأنصار وخرج معه جبار بن صخر بن خنساء - وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم - ويزيد بن ثابت، فهما قسما خيبر بين أهلها على أصل جماعة السهمان التي كانت عليها. فكانت مما قسم عمر من وادي القرى لعثمان وعبد الرحمن بن عوف وعمر بن أبي سلمة وعامر بن ربيعة وعمرو بن سراقة والأشيم وبني جعفر ولابن عبد الله بن حجش وعبد الله بن الأرقم وغيرهم، لكل إنسان حظر، والحظر القطعة من النخيل أو الإبل أو غيره.
وعن ابن عباس: قسمت خيبر على ألف سهم: خمسمائة وثمانين سهما للذين شهدوا الحديبية، ألف وخمسمائة وأربعين رجلا والذين كانوا مع جعفر بأرض الحبشة أربعون رجلا وكان معهم يومئذ مائتا فرس أو نحوها فأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما.
(3). روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 288 عن ابن أبي الحديد بأسناده: أن عمر استشار الصحابة بمن يبدء في القسم والفريضة؟ فقالوا: ابدء بنفسك. فقال: بل أبدء بآل رسول الله وذوي قرابته. فبدء بالعباس قال ابن الجوزي: قد وقع الاتفاق على أنه لم يفرض لأحد أكثر مما فرض له. روى أنه فرض له خمسة عشر ألفا، وروى أنه فرض له اثني عشر ألفا وهو الأصح. ثم فرض لزوجات رسول الله صلى الله عليه وآله لكل واحدة عشرة آلاف. وفضل عائشة عليهن بألفين... ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسة آلاف، ولمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف. وقد روي أنه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا من المهاجرين أو من الأنصار أو غيرهم من القبائل خمسة آلاف. ثم فرض لمن شهد أحدا وما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف، ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف. ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ألفين وخمسمائة وألفين وألفا وخمسمائة وألفا واحدا إلى مائتين وهم أهل هجر. ومات عمر على ذلك.
فأما ما اعتمده في النساء فإنه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعد بدر إلى إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة ونساء من بعد ذلك على ثلاثمائة ثلاثمائة، وجعل نساء أهل القادسية على مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك. وكان ذلك في سنة 20 للهجرة. راجع تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 153 وكتاب الخراج لأبي يوسف: ج 1 ص 43.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 264
--------------------------------------------------------------------------------
ولم أجعله دولة بين الأغنياء، وسبيت ذراري بني تغلب (1)، وأمرت الناس أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، لنادى بعض الناس من أهل العسكر - ممن يقاتل معي -: (يا أهل الإسلام) وقالوا: (غيرت سنة عمر، نهيتنا أن نصلي في شهر رمضان تطوعا) حتى خفت أن يثوروا في ناحية عسكري. (2)
____________
(1). روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 287 عن الإمام الصادق عليه السلام: أن بني تغلب من نصارى العرب أنفوا واستنكفوا من قبول الجزية وسألوا عمر أن يعفيهم عن الجزية ويؤدوا الزكاة مضاعفا. فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن رؤوسهم وضاعف عليهم الصدقة، فرضوا بذلك.
قال المجلسي: فهؤلاء ليسوا بأهل ذمة لمنع الجزية وقد جعل الله الجزية على أهل الذمة ليكونوا أذلاء صاغرين وليس في أحد من الزكاة صغار وذل. فكان عليه أن يقاتلهم ويسبي ذراريهم لو أصروا على الاستنكاف والاستكبار.
(2). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 5 ص 31 عن السيوطي وغيره: أن أول من سن التراويح عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة وأن أول من جمع الناس على التراويح عمر وأن إقامة النوافل بالجماعات في شهر رمضان من محدثات عمر. و (التراويح) عشرون ركعة يصلونها جماعة في ليالي شهر رمضان.
روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 284 عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أيها الناس، إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة...). ثم روي أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد. فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع. فقال: بدعة ونعمت البدعة!!
روى الشيخ الطوسي في التهذيب: ج 3 ص 70 ح 227 عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لما قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي عليه السلام أن ينادي في الناس: (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة). فنادى في الناس الحسن بن علي عليه السلام بما أمره به أمير المؤمنين عليه السلام. فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي عليه السلام صاحوا: واعمراه واعمراه فلما رجع الحسن عليه السلام إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الناس يصيحون: واعمراه، واعمراه فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
قل لهم: صلوا!
روي في البحار: ج 96 ص 385 ح 5 أنه لما كان أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما منا في رمضان. فقال: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: (ابكوا في رمضان، وارمضاناه) فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين، ضج الناس وكرهوا قولك. فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون. ليصلي بهم من شاءوا. ثم قال: (فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 265
--------------------------------------------------------------------------------
بؤسي لما لقيت من هذه الأمة بعد نبيها من الفرقة وطاعة أئمة الضلال والدعاة إلى النار.
ولم أعط سهم ذوي القربى منهم إلا لمن أمر الله بإعطائه الذين قال الله: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) (1)، فنحن الذين عنى الله بذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كل هؤلاء منا خاصة (2) لأنه لم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا وأكرم الله نبيه صلى الله عليه وآله وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ أيدي الناس. (3)
____________
(1). سورة الأنفال: الآية 41.
(2). في الكافي والتهذيب: نحن والله الذين عنى الله بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين)، منا خاصة.
(3). من قوله (ورددت من قضى من كان قبلي بجور...) إلى آخر الحديث في روضة الكافي زيادة مهمة هكذا:
(... ورددت قضايا من الجور قضى بها، ونزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأحكام وسبيت ذراري بني تغلب ورددت ما قسم من أرض خيبر ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وألقيت المساحة وسويت بين المناكح وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه، ورددت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه وحرمت المسح على الخفين وحددت على النبيذ وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجده ممن كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخرجه وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ممن كان رسول الله أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، إذا لتفرقوا عني.
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن جماعتهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: (يا أهل الإسلام، غيرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا) ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري.
ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار. وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)، فنحن والله عني بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله فقال تعالى: (فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل - فينا خاصة - كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) و (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله - في ظلم آل محمد - إن الله شديد العقاب) لمن ظلمهم رحمة منه لنا وغنى أغنانا الله به ووصى به نبيه صلى الله عليه وآله، ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا، أكرم الله رسوله وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس. فكذبوا الله وكذبوا رسوله وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ومنعونا فرضا فرضه الله لنا. ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا، والله المستعان على من ظلمنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
ولا بأس بالإشارة إلى ذكر تفصيل بعض ما أشار عليه السلام إليه من البدع:
قوله عليه السلام: (وألقيت المساحة)، روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 284 أن عمر وضع الخراج على أرض السواد وأمر بمساحة أرضها، ثم ضرب على كل جريب نخل عشرة دراهم وعلى الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب الشجر والرطبة ستة دراهم وعلى الحنطة أربعة دراهم وعلى الشعير درهمين.
وكان الفرض في الأراضي المفتوحة عنوة أن يخرج خمسها لأرباب الخمس وأربعة الأخماس الباقية تكون للمسلمين قاطبة.
قوله عليه السلام: (أنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل)، قال ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393:
إن عمر صرف الأخماس عن أهلها فجعلها في الكراع والسلاح ومنع الخمس منهم حين كثره واستعظم ما رآى من كثرته أن يدفعه إلى أهله!
وقوله عليه السلام: (سويت بين المناكح) إشارة إلى ما سيجئ في الحديث 23 من أن عمر سن أن تنكح العرب في الأعاجم ولا ينكحوهم.
وقوله عليه السلام (حرمت المسح على الخفين)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 عن أبي جعفر عليه السلام قال:
جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وفيهم علي عليه السلام وقال: ما تقولون في المسح على الخفين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح على الخفين. فقال علي عليه السلام: قبل المائدة أو بعدها؟
(أي قبل نزول سورة المائدة أو بعدها؟) فقال: لا أدري. فقال علي عليه السلام: سبق الكتاب الخفين، إنما أنزلت مائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة.
وقوله عليه السلام (وحددت على النبيذ)، روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 257 عن عدة طرق: أن عمر كان يشرب النبيذ الشديد وكان يقول: إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا فمن رابه من شرابه شئ فليمزجه بالماء!
وقوله عليه السلام (وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 عن ابن حزم في كتاب المحلى قال: جمع عمر بن الخطاب الناس فاستشارهم في التكبير على الجنائز.
فقالوا: أكبر النبي صلى الله عليه وآله سبعا وخمسا وأربعا. فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. وأورده في الغدير: ج 6 ص 244.
وقوله عليه السلام: (وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)، إشارة إلى إسقاط عمر للبسملة عن أول السور، فقد روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 381: أن عمر حذف بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن ومن الصلاة وقال: ليس في القرآن إلا مرة واحدة!
وقوله عليه السلام (الطلاق على السنة)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب:
إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم. وأورده العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 178.
وقوله عليه السلام (رددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها)، إشارة إلى البدع التي أحدث فيها كالمسح على الخفين ومسح الرأس والأذنين وغسل الرجلين، وكترك الصلاة لمن لم يجد الماء للغسل، ومثل وضع اليمين على الشمال في الصلاة وإسقاط البسملة وقول (آمين) بعد الحمد وكتأخير صلاة الصبح حتى تغيب النجوم وتأخير صلاة المغرب حتى تطلع النجوم وغير ذلك.
وقوله عليه السلام (رددت أهل نجران إلى مواضعهم)، روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393 والطبري في وقائع سنة 20: أن عمر أجلى أهل نجران وخيبر عن ديارهم وقال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وآله عليه أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمن وكتب لهم كتابا بذمتهم وهو معهم إلى يومنا هذا.
وقوله عليه السلام (رددت سائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله)، روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393 عن كتاب آداب الوزراء: أن عمر كان يأخذ من جميع أهل الذمة فيما اتجروا فيه كل سنة العشر ومرتين إن اتجروا مرتين ومن لم يتجر أربعة دنانير أو أربعين درهما. والفقهاء أجمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله أخذ من كل حالم دينارا ولم ينقل أحد من أهل الأثر خبرا أن النبي صلى الله عليه وآله جعلهم في الجزية طبقات. وقد جعلهم عمر طبقات ثلاث فأخذ من الأغنياء خمسة دنانير إلى مائة درهم ومن الأوساط خمسين درهما ونحو هذا ومن الفقراء دينارا واحدا.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 266
--------------------------------------------------------------------------------
أبان عن سليم قال: شهدت أبا ذر مرض مرضا على عهد عمر في إمارته، فدخل عليه عمر يعوده وعنده أمير المؤمنين عليه السلام وسلمان والمقداد، وقد أوصى أبو ذر إلى علي عليه السلام وكتب وأشهد.
فلما خرج عمر قال رجل من أهل أبي ذر من بني عمه بني غفار: ما منعك أن توصي إلى أمير المؤمنين عمر؟
قال: قد أوصيت إلى أمير المؤمنين حقا حقا.
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن أربعون رجلا من العرب وأربعون رجلا من العجم، فسلمنا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين، فينا هذا القائم الذي سميته (أمير المؤمنين).
ولا أحد من العرب ولا من الموالي العجم راجع رسول الله صلى الله عليه وآله إلا هذا وصويحبه الذي استخلفه، فإنهما قالا: (أحق من الله ورسوله)؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: اللهم نعم، حق من الله ورسوله، أمرني الله بذلك فأمرتكم به.
قال سليم: فقلت: يا أبا الحسن وأنت يا سلمان وأنت يا مقداد، أتقولون كما قال أبو ذر؟ قالوا: نعم، صدق. قلت: أربعة عدول، ولو لم يحدثني غير واحد ما شككت في صدقه ولكن أربعتكم أشد لنفسي وبصيرتي.
قلت: أصلحك الله، أتسمون الثمانين من العرب والموالي؟ فسماهم سلمان رجلا رجلا. فقال علي عليه السلام وأبو ذر والمقداد: (صدق سلمان) رحمة الله ومغفرته عليه وعليهم.
فكان ممن سمى (1): أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ومعاذ وسالم والخمسة من أصحاب الشورى، وعمار بن ياسر وسعد بن عبادة والباقي من أصحاب العقبة (2) وأبي بن كعب وأبو ذر والمقداد، وبقية جلهم وأعظمهم من أهل بدر وأعظمهم من الأنصار، فيهم أبو الهيثم بن التيهان وخالد بن زيد أبو أيوب وأسيد بن حضير وبشير بن سعيد.
قال سليم: فأظن أني قد لقيت عامتهم فسألتهم وخلوت بهم رجلا رجلا، فمنهم من سكت عني فلم يجبني بشئ وكتمني، ومنهم من حدثني ثم قال: أصابتنا فتنة أخذت بقلوبنا وأسماعنا وأبصارنا وذلك لما ادعى أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول بعد ذلك: (إنا أهل بيت أكرمنا الله واختار لنا الآخرة على الدنيا وإن الله أبى أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة). فاحتج بذلك أبو بكر على علي عليه السلام حين جيئ به للبيعة، وصدقه وشهد له أربعة كانوا عندنا خيارا غير متهمين: أبو عبيدة وسالم وعمر ومعاذ، وظننا أنهم قد صدقوا.
الصحيفة الملعونة والمعاهدة في الكعبة
فلما بايع علي عليه السلام أخبرنا (3) أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ما قاله، وأخبر أن هؤلاء الخمسة كتبوا بينهم كتابا تعاهدوا فيه وتعاقدوا في ظل الكعبة: (إن مات محمد أو قتل أن يتظاهروا على علي عليه السلام فيزووا عنه هذا الأمر)، واستشهد أربعة: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير، وشهدوا بعد ما وجبت في أعناقنا لأبي بكر بيعته الملعونة الضالة. فعلمنا أن عليا عليه السلام لم يكن ليروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله باطلا، وشهد له الأخيار من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله.
____________
(1). أي من سماهم أبو ذر من الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالتسليم على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين.
(2). راجع الحديث 20 من هذا الكتاب.
(3). قائل هذا الكلام هو البعض الذي لقيهم سليم لا أبو ذر، فلا يشتبه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 270
--------------------------------------------------------------------------------
ندامة الصحابة لتقصيرهم في حق أمير المؤمنين عليه السلام
فقال جل من قال هذه المقالة: إنا تدبرنا الأمر بعد ذلك فذكرنا قول النبي صلى الله عليه وآله - ونحن نسمع -: (إن الله يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم وإن الجنة تشتاق إليهم). فقلنا: من هم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله: (أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي علي بن أبي طالب، وسلمان الفارسي وأبو ذر والمقداد بن الأسود). وإنا نستغفر الله ونتوب إليه مما ركبناه ومما أتيناه.
وقد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول قولا لم نعلم تأويله ومعناه إلا خيرا. قال صلى الله عليه وآله: ليردن علي الحوض أقوام ممن صحبني ومن أهل المكانة مني والمنزلة عندي، حتى إذا وقفوا على مراتبهم ورأوني اختلسوا دوني وأخذ بهم ذات الشمال. فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم القهقرى منذ فارقتهم.
ولعمرنا، لو أنا - حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله - سلمنا الأمر إلى علي عليه السلام وأطعناه وتابعناه وبايعناه لرشدنا واهتدينا ووفقنا، ولكن الله قضى الاختلاف والفرقة والبلاء، فلا بد من أن يكون ما علم الله وقضى وقدر.
سليم بن قيس قال: شهدت أبا ذر بالربذة حين سيره عثمان (1) وأوصى إلى علي عليه السلام في أهله وماله، فقال له قائل: لو كنت أوصيت إلى أمير المؤمنين عثمان.
فقال: قد أوصيت إلى أمير المؤمنين حقا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، سلمنا عليه بإمرة المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر الله. قال لنا: (سلموا على أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي بإمرة المؤمنين، فإنه زر الأرض الذي تسكن إليه ولو فقدتموه أنكرتم الأرض وأهلها).
فرأيت عجل هذه الأمة وسامريها راجعا رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: حق من الله ورسوله؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: (حق من الله ورسوله، أمرني الله بذلك).
فلما سلمنا عليه أقبلا على أصحابهما معاذ وسالم وأبي عبيدة - حين خرجا من بيت علي عليه السلام من بعد ما سلمنا عليه - فقالا لهم: ما بال هذا الرجل، ما زال يرفع خسيسة
____________
(1). روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 305 ما ملخصه: أن عثمان قال لأبي ذر: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي، الحق بالشام. فأخرجه إليها. فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فكتب معاوية إلى عثمان فيه. فكتب عثمان إلى معاوية: (أما بعد فاحمل جندبا على أغلظ مركب وأوعره). فوجه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.
فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان: أن الحق بأي أرض شئت. قال: بمكة؟ قال: لا. قال: فبيت المقدس؟ قال: لا. قال: فبأحد المصرين؟ قال: لا، ولكني مسيرك إلى الربذة. فسيره إليها، فلم يزل بها حتى مات.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 272
--------------------------------------------------------------------------------
ابن عمه وقال أحدهما: إنه ليحسن أمر ابن عمه وقال الجميع: ما لنا عنده خير ما بقي علي!!
قال: فقلت: يا أبا ذر، هذا التسليم بعد حجة الوداع أو قبلها؟ فقال: أما التسليمة الأولى فقبل حجة الوداع، وأما التسليمة الأخرى فبعد حجة الوداع.
قلت: فمعاقدة هؤلاء الخمسة متى كانت؟ قال: في حجة الوداع.
قلت: أخبرني - أصلحك الله عن الاثني عشر أصحاب العقبة المتلثمين الذين أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وآله الناقة، ومتى كان ذلك؟ قال: بغدير خم مقبل رسول الله صلى الله عليه وآله من حجة الوداع.
قلت: أصلحك الله، تعرفهم؟ قال: أي والله، كلهم.
قلت: من أين تعرفهم وقد أسرهم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى حذيفة؟ قال: عمار بن ياسر كان قائدا وحذيفة كان سائقا، فأمر حذيفة بالكتمان ولم يأمر بذلك عمارا. قلت:
تسميهم لي؟ قال: خمسة أصحاب الصحيفة، وخمسة أصحاب الشورى وعمرو بن العاص ومعاوية. (1)
عمار وحذيفة في فتنة السقيفة
قلت: أصلحك الله، كيف تردد عمار وحذيفة في أمرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله حين رأياهم؟
قال: إنهم أظهروا التوبة والندامة بعد ذلك، وادعى عجلهم منزلة وشهد لهم سامريهم والثلاثة معهم بأنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ذلك، فقالوا: لعل هذا أمر حدث بعد الأول، فشكا فيمن شك منهم إلا أنهما تابا وعرفا وسلما.
____________
(1). فهم: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص. راجع الحديث 4 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 273
--------------------------------------------------------------------------------
قال سليم بن قيس: فلقيت عمارا في خلافة عثمان بعد ما مات أبو ذر، فأخبرته بما قال أبو ذر. فقال: صدق أخي أبو ذر، إنه لأبر وأصدق من أن يحدث عن عمار بما لا يسمع منه.
فقلت: أصلحك الله، بما تصدق أبا ذر؟ قال: أشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
(ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولا أبر). قلت: يا نبي الله، ولا أهل بيتك؟ قال: إنما أعني غيرهم من الناس.
ثم لقيت حذيفة بالمدائن - رحلت إليه من الكوفة - فذكرت له ما قال أبو ذر. فقال:
سبحان الله، أبو ذر أصدق وأبر من أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بغير ما قال.
شدة حب رسول الله صلى الله عليه وآله للإمامين الحسنين عليهما السلام
استسقيا رسول الله صلى الله عليه وآله
أبان عن سليم قال: حدثني علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلمان وأبو ذر والمقداد، وحدث أبو الحجاف داود بن أبي عوف العوفي (1) يروي عن أبي سعيد الخدري قال:
دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على ابنته فاطمة عليها السلام وهي توقد تحت قدر لها تطبخ طعاما لأهلها، وعلي عليه السلام في ناحية البيت نائم والحسن والحسين عليهما السلام نائمان إلى جنبه. فقعد رسول الله صلى الله عليه وآله مع ابنته يحدثها وهي توقد تحت قدرها ليس لها خادم، إذ استيقظ الحسن عليه السلام فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: (يا أبت، اسقني). فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قام إلى لقحة (2) كانت، فاحتلبها بيده، ثم جاء بالعلبة (3) - وعلى اللبن رغوة - ليناوله الحسن عليه السلام. فاستيقظ الحسين عليه السلام فقال: (يا أبت اسقني).
فقال النبي صلى الله عليه وآله: يا بني، أخوك، وهو أكبر منك وقد استسقاني قبلك. فقال الحسين عليه السلام: (اسقني قبله) فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يرقبه ويلين له ويطلب إليه أن يدع أخاه يشرب قبله، والحسين عليه السلام يأبى.
____________
(1). أبو الحجاف البرجمي الكوفي من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، ثقة. وعلى هذا فقائل (حدث أبو الحجاف) هو أبان بن أبي عياش، لا سليم.
(2). اللقحة: الناقة الحلوي الغزيرة اللبن.
(3). العلبة: إناء ضخم من جلد أو خشب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 275
--------------------------------------------------------------------------------
فقالت فاطمة عليها السلام: يا أبت، كأن الحسن أحب إليك من الحسين؟ قال صلى الله عليه وآله: ما هو بأحبهما إلي وإنهما عندي لسواء، غير أن الحسن استسقاني أول مرة، وإني وإياك وإياهما وهذا الراقد في الجنة لفي منزل واحد ودرجة واحدة.
قال (1): وعلي عليه السلام نائم لا يدري بشئ من ذلك.
على منكب رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: ومر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم وهما يلعبان، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله فاحتملهما ووضع كل واحد منهما على عاتقه. فاستقبله رجل فقال: لنعم الراحلة أنت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ونعم الراكبان هما إن هذين الغلامين ريحانتاي من الدنيا.
اصطرعا عند رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: فلما أتى بهما منزل فاطمة عليها السلام قال: (اصطرعا). فأقبلا يصطرعان، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (هي (2) يا حسن) فقالت فاطمة عليها السلام: يا رسول الله، أتقول (هي يا حسن) وهو أكبر منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا جبرئيل يقول: (هي يا حسين).
فصرع الحسين الحسن!
الرسول صلى الله عليه وآله يخاطبهما بالإمامة
قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وآله إليهما يوما وقد أقبلا، فقال: هذان والله سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما. إن خير الناس عندي وأحبهم إلي وأكرمهم علي أبوكما ثم أمكما، وليس عند الله أحد أفضل مني وأخي ووزيري وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي علي بن أبي طالب. ألا إن أخي وخليلي ووزيري وصفيي وخليفتي من بعدي وولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي علي بن أبي طالب، فإذا هلك فابني الحسن من
____________
(1). أي قال الراوي.
(2). (هي) كلمة استزادة، تقولها للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 276
--------------------------------------------------------------------------------
بعده، فإذا هلك فابني الحسين من بعده ثم الأئمة التسعة من عقب الحسين.
هم الهداة المهتدون، هم مع الحق والحق معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم إلى يوم القيامة. هم زر الأرض الذين تسكن إليهم الأرض، وهم حبل الله المتين، وهم عروة الله الوثقى التي لا انفصام لها، وهم حجج الله في أرضه وشهداءه على خلقه وخزنة علمه ومعادن حكمته.
وهم بمنزلة سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تركها غرق، وهم بمنزلة باب حطة في بني إسرائيل، من دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا. فرض الله في الكتاب طاعتهم وأمر فيه بولايتهم، من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله.
الحسين عليه السلام يعلو ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله في السجدة
قال: وكان الحسين عليه السلام يجيئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ساجد، فيتخطى الصفوف حتى يأتي النبي صلى الله عليه وآله فيركب ظهره، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وآله وقد وضع يده على ظهر الحسين عليه السلام ويده الأخرى على ركبته حتى يفرغ من صلاته.
الحسن عليه السلام على عاتق رسول الله صلى الله عليه وآله في المنبر
وكان الحسن عليه السلام يأتيه وهو على المنبر يخطب، فيصعد إليه فيركب على عاتق النبي صلى الله عليه وآله ويدلي رجليه على صدر النبي صلى الله عليه وآله حتى يرى بريق خلخاله، ورسول الله صلى الله عليه وآله يخطب، فيمسكه كذلك حتى يفرغ من خطبته.
1
خطبة عمرو بن العاص في الشام ضد أمير المؤمنين عليه السلام
أبان عن سليم قال: بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أن عمرو بن العاص خطب الناس بالشام فقال:
بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله على جيشه فيه أبو بكر وعمر، فظننت أنه إنما بعثني لكرامتي عليه. فلما قدمت قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ فقال: (عائشة). قلت:
ومن الرجال؟ قال: (أبوها).
أيها الناس، وهذا علي يطعن على أبي بكر وعمر وعثمان، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه) وقال في عثمان: (إن الملائكة لتستحي من عثمان) وقد سمعت عليا وإلا فصمتا - يعني أذنيه - يروي على عهد عمر: إن نبي الله نظر إلى أبي بكر وعمر مقبلين، فقال: (يا علي، هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ما خلا النبيين منهم والمرسلين، ولا تحدثهما بذلك فيهلكا)!!
2
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في البصرة بتكذيب ابن العاص
فقام علي عليه السلام فقال: العجب لطغاة أهل الشام حيث يقبلون قول عمرو ويصدقونه وقد بلغ من حديثه وكذبه وقلة ورعه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد لعنه سبعين لعنة ولعن صاحبه الذي يدعو إليه في غير موطن، وذلك أنه هجا رسول الله صلى الله عليه وآله بقصيدة سبعين بيتا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (اللهم إني لا أقول الشعر ولا أحله، فالعنه أنت وملائكتك بكل بيت لعنة تترى على عقبه إلى يوم القيامة). (1)
ثم لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله قام فقال: إن محمدا قد صار أبتر لا عقب له، وإني لأشنأ الناس له وأقولهم فيه سوء فأنزل الله فيه: (إن شانئك هو الأبتر) (2)، يعني أبتر من الإيمان ومن كل خير.
____________
(1). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 10 ص 139 عن تاريخ الطبري: أنه قد رآى رسول الله صلى الله عليه وآله أبا سفيان مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به. قال: لعن الله القائد والراكب والسائق.
وروى في ج 2 ص 135: أن الإمام الحسن عليه السلام قال لعمرو بن العاص: إنك هجوت رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين بيتا من الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي. اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة.
وروي في البحار: ج 20 ص 76 ح 14: أن رسول الله صلى الله عليه وآله مر بعمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهما في حائط يشربان ويغنيان بهذا البيت في حمزة بن عبد المطلب حين قتل: (كم من حواري تلوح عظامه...)، فقال صلى الله عليه وآله: (اللهم العنهما واركسهما في الفتنة ركسا ودعهما إلى النار دعا).
(2). سورة الكوثر: الآية 3.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 279
--------------------------------------------------------------------------------
ما لقيت من هذه الأمة من كذابيها ومنافقيها. لكأني بالقراء الضعفة المجتهدين قد رووا حديثه وصدقوه فيه واحتجوا علينا أهل البيت بكذبه. إنا نقول: خير هذه الأمة أبو بكر وعمر؟ (1) ولو شئت لسميت الثالث. والله ما أراد بقوله في عائشة وأبيها إلا رضا معاوية ولقد استرضاه بسخط الله.
وأما حديثه الذي يزعم أنه سمعه مني، فلا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ليعلم أنه كذب علي يقينا وأن الله لم يسمعه مني سرا ولا جهرا.
اللهم العن عمرا والعن معاوية بصدهما عن سبيلك وكذبهما على كتابك ونبيك واستخفافهما بنبيك وكذبهما عليه وعلي.
3
كيف جمع معاوية أهل الشام على الأخذ بثار عثمان!!
قال سليم: ثم دعا معاوية قراء أهل الشام وقضاتهم فأعطاهم الأموال وبثهم في نواحي الشام ومدائنها، يروون الروايات الكاذبة ويضعون لهم الأصول الباطلة، ويخبرونهم بأن عليا عليه السلام قتل عثمان ويتبرأ من أبي بكر وعمر، وإن معاوية يطلب بدم عثمان ومعه أبان بن عثمان وولد عثمان، حتى استمالوا أهل الشام واجتمعت كلمتهم.
ولم يزل معاوية على ذلك عشرين سنة، ذلك عمله في جميع أعماله حتى قدم عليه طغام الشام وأعوان الباطل المنزلون له بالطعام والشراب، يعطيهم الأموال ويقطعهم القطائع
____________
(1). أي هل يمكن أن يصدر عن مثلنا هذا الكلام؟ فيريد عليه السلام أن عمرو بن العاص يكذب علينا إذا نسب إلينا القول بأن أبا بكر وعمر خير هذه الأمة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 280
--------------------------------------------------------------------------------
ويطعمهم الطعام والشراب، حتى نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير وهاجر عليه الأعرابي، وترك أهل الشام لعن الشيطان وقالوا: لعن علي وقاتل عثمان. فاستقر على ذلك جهلة الأمة وأتباع أئمة الضلالة والدعاة إلى النار. فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولكن الله يفعل ما يشاء.
أبان عن سليم قال: كان لزياد بن سمية كاتب يتشيع وكان لي صديقا، فأقرأني كتابا كتبه معاوية إلى زياد جواب كتابه إليه:
سيرة معاوية في قبايل العرب
أما بعد، فإنك كتبت إلي تسألني عن العرب، من أكرم منهم ومن أهين ومن أقرب ومن أبعد، ومن آمن منهم ومن أحذر؟
وأنا - يا أخي - أعلم الناس بالعرب. انظر إلى هذا الحي من اليمن، فأكرمهم في العلانية وأهنهم في الخلاء فإني كذلك أصنع بهم، أقرب مجالسهم وأريهم أنهم آثر عندي من غيرهم ويكون عطائي وفضلي على غيرهم سرا منهم لكثرة من يقاتلني منهم مع هذا الرجل.
وانظر (ربيعة بن نزار)، فأكرم أشرافهم وأهن عامتهم، فإن عامتهم تبع لأشرافهم وساداتهم.
وانظر إلى (مضر) فاضرب بعضها ببعض فإن فيهم غلظة وكبرا وأبهة ونخوة شديدة، وإنك إذا فعلت ذلك وضربت بعضهم ببعض كفاك بعضهم بعضا، ولا ترض بالقول منهم دون الفعل ولا بالظن دون اليقين.
وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم، فخذهم بسنة عمر بن الخطاب فإن في ذلك خزيهم وذلهم، أن تنكح العرب فيهم ولا ينكحوهم وأن ترثهم العرب ولا يرثوهم (1) وأن تقصر بهم في عطائهم وأرزاقهم، وأن يقدموا في المغازي يصلحون الطريق ويقطعون الشجر، ولا يؤم أحد منهم العرب في صلاة ولا يتقدم أحد منهم في الصف الأول إذا حضرت العرب إلا أن يتموا الصف.
ولا تول أحدا منهم ثغرا من ثغور المسلمين ولا مصرا من أمصارهم، ولا يلي أحد منهم قضاء المسلمين ولا أحكامهم فإن هذه سنة عمر فيهم وسيرته، جزاه الله عن أمة محمد وعن بني أمية خاصة أفضل الجزاء!!
كيف طمع معاوية في الخلافة وكيف نالها؟
فلعمري لولا ما صنع هو وصاحبه وقوتهما وصلابتهما في دين الله لكنا وجميع هذه الأمة لبني هاشم الموالي، ولتوارثوا الخلافة واحدا بعد واحد كما يتوارث أهل كسرى وقيصر، ولكن الله أخرجها بأيديهما من بني هاشم وصيرها إلى بني تيم بن مرة، ثم خرجت إلى بني عدي بن كعب، وليس في قريش حيان أقل وأذل منهما ولا أنذل (2)، فأطمعانا فيها وكنا أحق منهما ومن عقبهما، لأن فينا الثروة والعز ونحن أقرب إلى رسول الله في الرحم منهما. ثم نالها قبلنا صاحبنا عثمان بشورى ورضا من العامة بعد شورى ثلاثة أيام بين الستة، ونالها من نالها قبله بغير شورى. فلما قتل صاحبنا عثمان مظلوما نلناها به لأن من قتل مظلوما فقد جعل الله لوليه سلطانا!
____________
(1). روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 أن عمر أطلق تزويج قريش في سائر العرب والعجم وتزويج العرب في سائر العجم، ومنع العرب من التزويج في قريش ومنع العجم من التزويج في العرب. فأنزل العرب مع قريش والعجم مع العرب منزلة اليهود والنصارى.
وروي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 288 وفي الغدير: ج 6 ص 187 عن موطأ مالك عن سعيد بن المسيب أنه قال: أبى عمر بن الخطاب أن يورث أحدا من الأعاجم إلا أحدا ولد في العرب.
ولعمري يا أخي، لو أن عمر سن دية المولى نصف دية العربي لكان أقرب إلى التقوى، ولو وجدت السبيل إلى ذلك ورجوت أن تقبله العامة لفعلت ولكني قريب عهد بحرب فأتخوف فرقة الناس واختلافهم علي. وبحسبك ما سنه عمر فيهم فهو خزي لهم وذل. فإذا جاءك كتابي هذا فأذل العجم وأهنهم وأقصهم ولا تستعن بأحد منهم ولا تقض لهم حاجة.
معاوية يستلحق زيادا بأبي سفيان
فوالله إنك لابن أبي سفيان خرجت من صلبه، وما تناسب عبيدا نسبا دون آدم!(1)
____________
(1) قال العلامة الأميني في الغدير: ج 10 ص 216 ما ملخصه:
كان من ضروريات الإسلام إلى سنة 44: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، ولكن سياسة معاوية المتهجمة تجاه الهتافات النبوية أصمته عن سماعها وجعلت للعاهر كل النصيب فوهب زيادا كله لأبي سفيان العاهر.
وقد كان زياد ولد على فراش عبيد مولى ثقيف وربي في شر حجر، فكان يقال له قبل الاستلحاق: (زياد بن عبيد الثقفي) وبعده: (زياد بن أبي سفيان) ومعاوية نفسه كتب إليه في أيام الإمام الحسن عليه السلام: (من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد، أما بعد فإنك عبد قد كفرت النعمة... إنك لا أم لك، بل لا أب لك)!
ولما انقضت الدولة الأموية صار يقال له: (زياد بن أبيه) و (زياد بن أمه) و (زياد بن سمية). وأمه سمية كانت لدهقان من دهاقين الفرس بزندرود بكسكر، فمرض الدهقان فدعا الحارث بن الكلدة الطبيب الثقفي فعالجه فبرأ، فوهبه سمية وزوجها الحارث غلاما له روميا يقال له (عبيد)، فولدت زيادا على فراشه... وكانت أمه من البغايا المشهورة بالطائف ذات راية.
أمر عمر زيادا أن يخطب يوما فأحسن في خطبته وجود، وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب وعلي بن أبي طالب عليه السلام. فقال أبو سفيان لعلي عليه السلام: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك. قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية...!
ولما بويع معاوية قدم زياد على معاوية فصالحه... ورآى معاوية أن يستميل زيادا واستصفى مودته باستلحاقه. فاتفقا على ذلك وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيا، فقلت له: ليس عندي إلا سمية. فقال: ائتني بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها فخلا معها ثم خرجت من عنده وإن اسكتيها ليقطران منيا. فقال له زياد: مهلا يا أبا مريم، إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما فاستلحقه معاوية.
وأن أبا سفيان كان يحذو حذو أمية بن عبد (2). جاء في البحار: ج 19 ص 260 و ج 8 طبع قديم ص 302: أن عقيل قال لوليد بن العقبة بن أبي معيط:
يا بن أبي معيط، كأنك لا تدري من أنت وأنت علج من أهل صفورية، كان ذكر أن أباه كان يهودي منها.
و (صفورية) قرية في فلسطين شمال غربي الناصرة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 284
--------------------------------------------------------------------------------
وقد كنت حدثتني - وأنت يا أخي عندي صدوق -: أنك قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالبصرة وكنت يومئذ كاتبه وهو عامل بالبصرة وأنت أنذل الناس عنده، وأنت يومئذ ذليل النفس تحسب أنك مولى لثقيف، ولو كنت تعلم يومئذ يقينا - كيقينك اليوم - أنك ابن أبي سفيان لأعظمت نفسك وأنفت أن تكون كاتبا لدعي الأشعريين. وأنت تعلم ونحن يقينا أن أبا سفيان خرج معه جده أمية بن عبد شمس في بعض تجارته إلى الشام فمر بصفورية فاشترى قينا وابنه عبد الله وأن أبا سفيان كان يحذو حذو أمية عبد شمس.
سيرة عمر في إهانة الأعاجم وسبب ذلك
وحدثني ابن أبي معيط أنك أخبرته: إنك قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري وبعث إليه بحبل طوله خمسة أشبار، وقال له: (أعرض من قبلك من أهل البصرة. فمن وجدته من الموالي ومن أسلم من الأعاجم قد بلغ خمسة أشبار، فقدمه فاضرب عنقه) (1) فشاورك أبو موسى في ذلك، فنهيته وأمرته أن يراجع عمر. فراجعه وذهبت أنت بالكتاب إلى عمر، وإنما صنعت ما صنعت تعصبا للموالي وأنت يومئذ تحسب أنك منهم وأنك ابن عبيد. فلم تزل بعمر حتى رددته عن رأيه وخوفته فرقة الناس فرجع. وقلت له: (ما يؤمنك - وقد عاديت أهل هذا البيت - أن يثوروا إلى علي فينهض بهم فيزيل ملكك)، فكف عن ذلك.
____________
(1). راجع الحديث 14 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 285
--------------------------------------------------------------------------------
وما أعلم يا أخي إنه ولد مولود من آل أبي سفيان أعظم شؤما عليهم منك حين رددت عمر عن رأيه ونهيته عنه!
وخبرني أن الذي صرفت به عن رأيه في قتلهم أنك قلت: إنك سمعت علي بن أبي طالب يقول: (لتضربنكم الأعاجم على هذا الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا)، وقال:
(ليملأن الله أيديكم من الأعاجم ثم ليصيرن أشداء لا يفرون، فليضربن أعناقكم وليغلبنكم على فيئكم). فقال لك عمر: (قد سمعت ذلك عن رسول الله، فذاك الذي حملني على الكتاب إلى صاحبك في قتلهم، وقد كنت عزمت على أن أكتب إلى عمالي في سائر الأمصار بذلك). فقلت لعمر: (لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنك لن تأمنهم أن يدعوهم علي إلى نصرته وهم كثير وقد علمت شجاعة علي وأهل بيته وعداوته لك ولصاحبك)، فرددته عن ذلك. فأخبرتني أنك لم ترده عن ذلك إلا عصبية وأنك لم ترجع عن رواية جبنا.
وحدثتني أنك ذكرت ذلك لعلي بن أبي طالب في إمارة عثمان فأخبرك (أن أصحاب الرايات السود التي تقبل من خراسان هم الأعاجم، وأنهم الذين يغلبون بني أمية على ملكهم ويقتلونهم تحت كل حجر وكوكب).
فلو كنت - يا أخي - لم ترد عمر عن رأيه لجرت سنة ولاستأصلهم الله وقطع أصلهم وإذا لاستنت به الخلفاء من بعده حتى لا يبقى منهم شعر ولا ظفر ولا نافخ نار، فإنهم آفة الدين!
بدع عمر على لسان معاوية
فما أكثر ما قد سن عمر في هذه الأمة بخلاف سنة رسول الله، فتابعه الناس عليها وأخذوا بها، فتكون هذه مثل واحدة منهن.
فمنهن تحويله المقام من الموضع الذي وضعه فيه رسول الله، وصاع رسول الله ومده حين غيره وزاد فيه، ونهيه الجنب عن التيمم، وأشياء كثيرة سنها (1) أكثر من ألف
____________
(1). قد مر نماذج من بدع عمر في الأحاديث 11 و 14 و 18 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 286
--------------------------------------------------------------------------------
باب، أعظمها وأحبها إلينا وأقر ها لأعيننا زيلة الخلافة عن بني هاشم وهم أهلها ومعدنها، لأنها لا تصلح إلا لهم ولا تصلح الأرض إلا بهم.
سليم يستنسخ الرسالة السرية
فإذا قرأت كتابي هذا فاكتم ما فيه ومزقه. (1)
قال (2): فلما قرأ زياد الكتاب ضرب به الأرض، ثم أقبل علي فقال: (ويلي مما خرجت وفيما دخلت كنت والله من شيعة آل محمد وحزبه، فخرجت منها ودخلت في شيعة الشيطان وحزبه وفي شيعة من يكتب إلي مثل هذا الكتاب. إنما والله مثلي كمثل إبليس أبى أن يسجد لآدم كبرا وكفرا وحسدا.
قال سليم: فلم أمس حتى نسخت كتابه. فلما كان الليل دعا زياد بالكتاب فمزقه وقال: (لا يطلعن أحد من الناس على ما في هذا الكتاب)، ولم يعلم أني قد نسخته.
____________
(1). هذا كلام معاوية في آخر كتابه يخاطب به زيادا.
(2). أي قال كاتب زياد لسليم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 287
--------------------------------------------------------------------------------
(24)
النبي صلى الله عليه وآله يقيم الحجة على عائشة في حق علي عليه السلام
أبان عن سليم، قال: سمعت سلمان وأبا ذر والمقداد، وسألت علي بن أبي طالب عليه السلام عن ذلك فقال: صدقوا. قالوا:
دخل علي بن أبي طالب عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وعائشة قاعدة خلفه وعليها كساء والبيت غاص بأهله فيهم الخمسة أصحاب الكتاب والخمسة أصحاب الشورى.
فلم يجد مكانا فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله: (هاهنا)، يعني خلفه.
فجاء علي عليه السلام فقعد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين عائشة، وأقعى كما يقعي الأعرابي.
فدفعته عائشة وغضبت وقالت: أما وجدت لأستك موضعا غير حجري؟
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: مه يا حميراء، لا تؤذيني في أخي علي، فإنه أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الحمد، وقائد الغر المحجلين يوم القيامة. يجعله الله على الصراط فيقاسم النار، فيدخل أوليائه الجنة ويدخل أعدائه النار.
رسائل بين أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية أثناء حرب بصفين
أبان عن سليم، وزعم أبو هارون العبدي (1) أنه سمعه من عمر بن أبي سلمة:
1
رسالة من معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام
إن معاوية دعا أبا الدرداء (2) ونحن مع أمير المؤمنين عليه السلام بصفين ودعا أبا هريرة فقال لهما: انطلقا إلى علي فاقرآه مني السلام وقولا له:
والله إني لأعلم أنك أولى الناس بالخلافة وأحق بها مني، لأنك من المهاجرين الأولين وأنا من الطلقاء وليس لي مثل سابقتك في الإسلام وقرابتك من رسول الله وعلمك بكتاب الله وسنة نبيه.
ولقد بايعك المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا فيك قبل ثلاثة أيام. ثم أتوك فبايعوك طائعين غير مكرهين. وكان أول من بايعك طلحة والزبير، ثم نكثا بيعتك
____________
(1). هو عمارة بن جويرة (جوين)، مات سنة 134. فقوله (زعم أبو هارون...) من كلام أبان، لا سليم.
(2). أبو مسلم الخولاني. وكذا في سائر موارد الحديث جاء هذا الاسم مكان أبي الدرداء. وأبو الدرداء هو عويمر بن عامر بن زيد الخزرجي الأنصاري المدني الصحابي.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 289
--------------------------------------------------------------------------------
وظلماك وطلبا ما ليس لهما، وأنا ابن عم عثمان والطالب بدمه. وبلغني أنك تعتذر من قتل عثمان وتتبرأ من دمه، وتزعم أنه قتل وأنت قاعد في بيتك، وأنك قلت حين قتل - واسترجعت -: (اللهم لم أرض ولم أمالئ)، وقلت يوم الجمل حين نادوا (يا لثارات عثمان) - حين ثار من حول الجمل - قلت: (كب قتلة عثمان اليوم لوجوههم إلى النار، أنحن قتلناه؟ وإنما قتله هما وصاحبتهما وأمروا بقتله وأنا قاعد في بيتي).
وأنا ابن عم عثمان ووليه والطالب بدمه، فإن كان الأمر كما قلت فأمكنا من قتلة عثمان وادفعهم إلينا نقتلهم بابن عمنا، ونبايعك ونسلم إليك الأمر.
لعن أمير المؤمنين عليه السلام لأبي بكر وعمر وعثمان وبراءته منهم
هذه واحدة، وأما الثانية فقد أنبأتني عيوني وأتتني الكتب من أولياء عثمان - ممن هو معك يقاتل وتحسب أنه على رأيك وراض بأمرك وهواه معنا وقلبه عندنا وجسده معك - أنك تظهر ولاية أبي بكر وعمر وتترحم عليهما، وتكف عن عثمان ولا تذكره ولا تترحم عليه ولا تلعنه.
وبلغني عنك: أنك إذا خلوت ببطانتك الخبيثة وشيعتك وخاصتك الضالة المغيرة الكاذبة تبرأت عندهم من أبي بكر وعمر وعثمان ولعنتهم. وادعيت أنك خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله في أمته ووصيه فيهم، وأن الله فرض على المؤمنين طاعتك وأمر بولايتك في كتابه وسنة نبيه، وأن الله أمر محمدا أن يقوم بذلك في أمته، وأنه أنزل عليه: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (1)، فجمع أمته بغدير خم فبلغ ما أمر به فيك عن الله، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب، وأخبرهم أنك أولى بهم من أنفسهم، وأنك منه بمنزلة هارون من موسى.
وبلغني عنك: أنك لا تخطب الناس خطبة إلا قلت قبل أن تنزل عن منبرك: (والله إني لأولى الناس بالناس، وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله).
لئن كان ما بلغني عنك من ذلك حقا فلظلم أبي بكر وعمر إياك أعظم من ظلم عثمان.
لقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن شهود، فانطلق عمر وبايع أبا بكر وما استأمرك ولا شاورك، ولقد خاصم الرجلان بحقك وحجتك وقرابتك من رسول الله، ولو سلما لك وبايعاك لكان عثمان أسرع الناس إلى ذلك لقرابتك منه وحقك عليه لأنه ابن عمك وابن عمتك. ثم عمد أبو بكر فردها إلى عمر عند موته ما شاورك ولا استأمرك حين استخلفه وبايع له.
ثم جعلك عمر في الشورى بين ستة منكم وأخرج منها جميع المهاجرين والأنصار وغيرهم، فوليتم ابن عوف أمركم في اليوم الثالث حين رأيتم الناس قد اجتمعوا واخترطوا سيوفهم وحلفوا بالله (لئن غابت الشمس ولم تختاروا أحدكم ليضربن أعناقكم ولينفذن فيكم أمر عمر ووصيته)، فوليتم أمركم ابن عوف، فبايع عثمان فبايعتموه.
ثم حوصر عثمان فاستنصركم فلم تنصروه ودعاكم فلم تجيبوه، وبيعته في أعناقكم وأنتم يا معاشر المهاجرين والأنصار حضور شهود. فخليتم عن أهل مصر حتى قتلوه وأعانهم طوائف منكم على قتله وخذله عامتكم، فصرتم في أمره بين قاتل وآمر وخاذل.
ثم بايعك الناس وأنت أحق بهذا الأمر مني، فأمكني من قتلة عثمان حتى أقتلهم، وأسلم الأمر لك وأبايعك أنا وجميع من قبلي من أهل الشام.
فلما قرأ علي عليه السلام كتاب معاوية وأبلغه أبو الدرداء وأبو هريرة رسالته ومقالته، قال علي عليه السلام لأبي الدرداء: قد أبلغتماني ما أرسلكما به معاوية، فاسمعا مني ثم أبلغاه عني كما أبلغتماني عنه وقولا له:
إن عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إما إمام هدى حرام الدم واجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته. فلا يخلو من إحدى الخصلتين.
والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل - ضالا كان أو مهتديا، مظلوما كان أو ظالما، حلال الدم أو حرام الدم - أن لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدءوا بشئ قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ويقيم حجهم وجمعتهم ويجبي صدقاتهم. ثم يحتكمون إليه في إمامهم المقتول ظلما ويحاكمون قتلته إليه ليحكم بينهم بالحق: فإن كان إمامهم قتل مظلوما حكم لأوليائه بدمه، وإن كان قتل ظالما نظر كيف الحكم في ذلك.
هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه: أن يختاروا إماما يجمع أمرهم - إن كانت الخيرة لهم - ويتابعوه ويطيعوه. وإن كانت الخيرة إلى الله عز وجل وإلى رسوله فإن الله قد كفاهم النظر في
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 292
--------------------------------------------------------------------------------
ذلك والاختيار، ورسول الله صلى الله عليه وآله قد رضي لهم إماما وأمرهم بطاعته واتباعه وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان، بايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا في ثلاثة أيام، وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا إمامتهم، ولى ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار، غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة وإن بيعتي كانت بمشورة من العامة.
فإن كان الله جل اسمه قد جعل الاختيار إلى الأمة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم، واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله لهم، وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى وكان إماما واجبا على الناس طاعته ونصرته، فقد تشاوروا في واختاروني بإجماع منهم، وإن كان الله عز وجل هو الذي يختار، له الخيرة فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي.
ولو أن عثمان قتل على عهد أبي بكر وعمر كان لمعاوية قتالهما والخروج عليهما للطلب؟
قال أبو هريرة وأبو الدرداء: لا.
قال علي عليه السلام: فكذلك أنا فإن قال معاوية: (نعم)، فقولا: إذا يجوز لكل من ظلم بمظلمة أو قتل له قتيل أن يشق عصى المسلمين ويفرق جماعتهم ويدعو إلى نفسه، مع أن ولد عثمان أولى بطلب دم أبيهم من معاوية.
قال: فسكت أبو الدرداء وأبو هريرة وقالا: لقد أنصفت من نفسك.
قال علي عليه السلام: ولعمري لقد أنصفني معاوية إن تم على قوله وصدق ما أعطاني، فهؤلاء بنو عثمان رجال قد أدركوا ليسوا بأطفال ولا مولى عليهم، فليأتوا أجمع بينهم وبين قتلة أبيهم، فإن عجزوا عن حجتهم فليشهدوا لمعاوية بأنه وليهم ووكيلهم وحربهم في خصومتهم.
وليقعدوا هم وخصمائهم بين يدي مقعد الخصوم إلى الإمام والوالي الذي يقرون بحكمه وينفذون قضائه، وأنظر في حجتهم وحجة خصمائهم. فإن كان أبوهم قتل ظالما وكان حلال الدم أبطلت دمه، وإن كان مظلوما حرام الدم أقدتهم من قاتل أبيهم، فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا عفوا وإن شاءوا قبلوا الدية.
وهؤلاء قتلة عثمان في عسكري يقرون بقتله ويرضون بحكمي عليهم ولهم، فليأتني ولد عثمان أو معاوية - إن كان وليهم ووكيلهم - فليخاصموا قتلته وليحاكموهم حتى أحكم بينهم وبينهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله.
وإن كان معاوية إنما يتجني ويطلب الأعاليل والأباطيل فليتجن ما بدا له فسوف يعين الله عليه. (1)
قال أبو الدرداء وأبو هريرة: قد والله أنصفت من نفسك وزدت على النصفة، وأزحت علته وقطعت حجته، وجئت بحجة قوية صادقة ما عليها لوم.
ثم خرج أبو هريرة وأبو الدرداء، فإذا نحو من عشرين ألف رجل مقنعين بالحديد فقالوا: (نحن قتلة عثمان ونحن مقرون راضون بحكم علي عليه السلام علينا ولنا، فليأتنا أولياء عثمان فليحاكمونا إلى أمير المؤمنين عليه السلام في دم أبيهم، فإن وجب علينا القود أو الدية اصطبرنا لحكمه وسلمنا).
فقالا: قد أنصفتم، ولا يحل لعلي عليه السلام دفعكم ولا قتلكم حتى يحاكموكم إليه فيحكم بينكم وبين صاحبكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله.
____________
(1). يتجني أي يرمي بإثم لم نفعله.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 294
--------------------------------------------------------------------------------
3
رد فعل معاوية على رسالة أمير المؤمنين عليه السلام
فانطلق أبو الدرداء وأبو هريرة حتى قدما على معاوية فأخبراه بما قال علي عليه السلام وما قال قتلة عثمان وما قال أبو النعمان بن ضمان. (1)
فقال لهما معاوية: فما رد عليكما في ترحمه على أبي بكر وعمر وكفه عن الترحم على عثمان وبرائته منه في السر وما يدعي من استخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله إياه وأنه لم يزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قالا: بلى، قد ترحم على أبي بكر وعمر وعثمان عندنا ونحن نسمع. ثم قال لنا فيما يقول: إن كان الله جعل الخيار إلى الأمة فكانوا هم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم - وكان اختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خيرا لهم وأرشد من اختيار الله واختيار رسول الله صلى الله عليه وآله - فقد اختاروني وبايعوني، فبيعتي بيعة هدى وأنا إمام واجب على الناس طاعتي ونصرتي، لأنهم قد تشاوروا في واختاروني.
وإن كان اختيار الله واختيار رسول الله صلى الله عليه وآله خيرا لهم وأرشد من اختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها، فقد اختارني الله ورسوله للأمة واستخلفاني عليهم وأمراهم بنصرتي وطاعتي في كتاب الله المنزل على لسان نبيه المرسل، وذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي.
____________
(1). لم نعرف الرجل ولا وجه ذكره هنا. ولعله تكلم نيابة عن العشرين ألف المسمين أنفسهم بقتلة عثمان.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 295
--------------------------------------------------------------------------------
4
مناشدات أمير المؤمنين عليه السلام للمسلمين في صفين
ثم صعد عليه السلام المنبر في عسكره وجمع الناس ومن بحضرته من النواحي والمهاجرين والأنصار، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
مناقب علي عليه السلام لا تحصى
يا معاشر الناس، إن مناقبي أكثر من أن تحصى أو تعد، ما أنزل الله في كتابه من ذلك وما قال في رسول الله صلى الله عليه وآله، أكتفي بها عن جميع مناقبي وفضلي.
أتعلمون أن الله فضل في كتابه الناطق، السابق إلى الإسلام - في غير آية من كتابه - على المسبوق وإنه لم يسبقني إلى الله ورسوله أحد من الأمة؟ قالوا: اللهم نعم.
علي عليه السلام أفضل الأوصياء
قال: أنشدكم الله، سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن قوله: (والسابقون السابقون أولئك المقربون) (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنزلها الله في الأنبياء وأوصيائهم، وأنا أفضل أنبياء الله وأخي ووصيي علي بن أبي طالب أفضل الأوصياء؟
فقام نحو من سبعين بدريا جلهم من الأنصار وبقيتهم من المهاجرين، منهم أبو الهيثم بن التيهان وخالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري، ومن المهاجرين عمار بن ياسر وغيره، فقالوا: نشهد أنا قد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ذلك.
____________
(1). سورة الواقعة: الآيتان 10 و 11.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 296
--------------------------------------------------------------------------------
إعلان الولاية في غدير خم
قال: أنشدكم الله في قول الله: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (1)، وقوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2)، ثم قال: (ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (3)، فقال الناس: (يا رسول الله، أخاص لبعض المؤمنين أم عام لجميعهم)؟ فأمر الله عز وجل رسوله أن يعلمهم فيمن نزلت الآيات وأن يفسر لهم من الولاية ما فسر لهم من صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجهم.
فنصبني بغدير خم وقال: (إن الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري وظننت أن الناس مكذبوني، فأوعدني لأبلغنها أو يعذبني. قم يا علي). ثم نادى بالصلاة جامعة، فصلى بهم الظهر، ثم قال: (أيها الناس، إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأولى بهم من أنفسهم. ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله).
فقام إليه سلمان الفارسي فقال: يا رسول الله، ولاؤه كما ذا؟ فقال: (ولاؤه كولايتي، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه)، وأنزل الله تبارك وتعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). (4) فقال سلمان الفارسي: يا رسول الله، أنزلت هذه الآيات في علي خاصة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بل فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة).
____________
(1). سورة النساء: الآية 59.
(2). سورة المائدة: الآية 55.
(3). سورة التوبة: الآية 16. وفي المصحف: ولم يتخذوا.
(4). سورة المائدة: الآية 3.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 297
--------------------------------------------------------------------------------
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (يا سلمان، اشهد أنت ومن حضرك بذلك وليبلغ الشاهد الغائب). فقال سلمان الفارسي: يا رسول الله، بينهم لنا. فقال: (علي أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي، وأحد عشر إماما من ولده.
أولهم ابني الحسن، ثم الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين واحدا بعد واحد. القرآن معهم وهم مع القرآن لا يفارقونه حتى يردوا علي الحوض).
فقام اثنا عشر رجلا من البدريين فقالوا: نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله كما قلت سواء لم تزد فيه ولم تنقص حرفا، وأشهدنا رسول الله صلى الله عليه وآله على ذلك. وقال بقية السبعين: قد سمعنا ذلك ولم نحفظ كله، وهؤلاء الاثنا عشر خيارنا وأفضلنا. فقال عليه السلام:
صدقتم، ليس كل الناس يحفظ، بعضهم أحفظ من بعض.
فقام من الاثني عشر أربعة: أبو الهيثم بن التيهان وأبو أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين رحمهم الله، فقالوا: نشهد أنا قد سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وحفظناه أنه قال يومئذ وهو قائم وعلي قائم إلى جنبه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (يا أيها الناس، إن الله أمرني أن أنصب لكم إماما ووصيا يكون وصي نبيكم فيكم وخليفتي في أمتي وفي أهل بيتي من بعدي والذي فرض الله على المؤمنين في كتابه طاعته وأمركم فيه بولايته. فراجعت ربي خشية طعن أهل النفاق وتكذيبهم، فأوعدني لأبلغها أو ليعذبني).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أيها الناس، إن الله - جل اسمه - أمركم في كتابه بالصلاة وقد بينتها لكم وسننتها، والزكاة والصوم والحج فبينتها وفسرتها لكم، وأمركم في كتابه بالولاية وإني أشهدكم أيها الناس أنها خاصة لعلي بن أبي طالب والأوصياء من ولدي وولد أخي ووصيي، علي أولهم ثم الحسن ثم الحسين ثم تسعة من ولد الحسين
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 298
--------------------------------------------------------------------------------
ابني، لا يفارقون الكتاب ولا يفارقهم حتى يردوا علي الحوض.
يا أيها الناس، إني قد أعلمتكم مفزعكم وإمامكم بعدي ودليلكم وهاديكم وهو أخي علي بن أبي طالب، وهو فيكم بمنزلتي فيكم، فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم، فإن عنده جميع ما علمني الله وأمرني الله أن أعلمه إياه وأعلمكم أنه عنده، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصيائه بعده، ولا تعلموهم ولا تتقدموهم ولا تتخلفوا عنهم، فإنهم مع الحق والحق معهم لا يزايلوه ولا يزايلهم).
حديث الكساء وآية التطهير
ثم قال علي عليه السلام لأبي الدرداء وأبي هريرة ومن حوله:
أيها الناس، أتعلمون أن الله تبارك وتعالى أنزل في كتابه (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). (1) فجمعني رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة والحسن والحسين معه في كسائه وقال: (اللهم هؤلاء عترتي وخاصتي وأهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا). فقالت أم سلمة: وأنا يا رسول الله؟ فقال: (إنك على خير، وإنما أنزلت في وفي أخي علي وابنتي فاطمة وفي ابني الحسن والحسين وفي تسعة أئمة من ولد الحسين ابني - صلوات الله عليهم - خاصة ليس معنا غيرنا).
فقام كلهم فقالوا: نشهد أن أم سلمة حدثتنا بذلك، فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فحدثنا به كما حدثتنا أم سلمة به.
الصادقون في القرآن هم الأئمة عليهم السلام
ثم قال علي عليه السلام: أنشدكم الله، هل تعلمون أن الله جل اسمه أنزل في كتابه: (يا أيها
____________
(1). سورة المائدة: الآية 3.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 299
--------------------------------------------------------------------------------
الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (1)، فقال سلمان: يا رسول الله، أعامة هي أم خاصة؟ فقال: (أما المأمورون فعامة لأن جماعة المؤمنين أمروا بذلك، وأما الصادقون فخاصة لأخي علي بن أبي طالب وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة).
قال علي عليه السلام: وقلت لرسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك: يا رسول الله، لم خلفتني؟
فقال: يا علي، إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة فإنه لا نبي بعدي.
فقام رجال ممن معه من المهاجرين والأنصار فقالوا: نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك.
الشهداء على الناس في القرآن هم الأئمة عليهم السلام
فقال عليه السلام: أنشدكم الله، أتعلمون أن الله عز وجل أنزل في سورة الحج: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) (2)، فقام سلمان فقال: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أنت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس، الذين اجتباهم الله وما جعل عليهم في الدين من حرج ملة أبيهم إبراهيم؟
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إنما عنى بذلك ثلاثة عشر إنسانا أنا وأخي علي بن أبي طالب وأحد عشر من ولدي، واحدا بعد واحد، كلهم أئمة، القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفترقون حتى يردوا علي الحوض. قالوا: اللهم نعم.
____________
(1). سورة التوبة: الآية 119.
(2). سورة الحج: الآيتان 77 و 78.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 300
--------------------------------------------------------------------------------
حديث الثقلين والنص على أسماء الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
قال علي عليه السلام: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قام خطيبا - ولم يخطب بعدها - وقال: (يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه قد عهد إلي اللطيف الخيبر أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)؟
فقالوا: اللهم نعم، قد شهدنا ذلك كله من رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال عليه السلام: حسبي الله.
فقام الاثنا عشر من الجماعة البدريين فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين خطب في اليوم الذي قبض فيه قام عمر بن الخطاب شبه المغضب فقال: يا رسول الله، أكل أهل بيتك؟
فقال: لا ولكن أوصيائي، أخي منهم ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي وأحد عشر من ولده، هذا أولهم وخيرهم ثم ابناي هذان - وأشار بيده إلى الحسن والحسين - ثم وصي ابني يسمى باسم أخي علي وهو ابن الحسين، ثم وصي علي وهو ولده واسمه محمد، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم محمد بن الحسن مهدي الأمة. اسمه كاسمي وطينته كطينتي، يأمر بأمري وينهى بنهيي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. يتلو بعضهم بعضا، واحدا بعد واحد حتى يردوا علي الحوض، شهداء الله في أرضه وحججه على خلقه. من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله.
فقام باقي السبعين البدريين ومثلهم من الآخرين فقالوا: ذكرتنا ما كنا نسينا، نشهد أنا قد سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثم عاد عليه السلام إلى السؤال فلم يدع شيئا مما سأل عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله في خلافة عثمان (1) إلا ناشدهم فيه حتى أتى عليه السلام على آخر مناقبه وما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيه، كل ذلك يصدقونه ويشهدون أنه حق سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله.
____________
(1). راجع عما قاله عليه السلام في خلافة عثمان: الحديث 11 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 301
--------------------------------------------------------------------------------
5
كتاب معاوية جوابا لأمير المؤمنين عليه السلام
فلما حدث أبو الدرداء وأبو هريرة معاوية بكل ذلك وبما رد عليه الناس وجم من ذلك وقال: يا أبا الدرداء ويا أبا هريرة، لئن كان ما تحدثاني عنه حقا لقد هلك المهاجرون والأنصار غيره وغير أهل بيته وشيعته.
تقية أمير المؤمنين عليه السلام
ثم كتب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام: لئن كان ما قلت وادعيت واستشهدت عليه أصحابك حقا لقد هلك أبو بكر وعمر وعثمان وجميع المهاجرين والأنصار غيرك وغير أهل بيتك وشيعتك.
وقد بلغني ترحمك عليهم واستغفارك لهم، وإنه لعلى وجهين ما لهما ثالث: إما تقية إن أنت تبرأت منهم خفت أن يتفرق عنك أهل عسكرك الذين تقاتلني بهم، أو أن الذي ادعيت باطل وكذب. وقد بلغني وجائني بذلك بعض من تثق به من خاصتك بأنك تقول لشيعتك الضالة وبطانتك بطانة السوء: (إني قد سميت ثلاثة بنين لي أبا بكر وعمر وعثمان (1)، فإذا سمعتموني أترحم على أحد من أئمة الضلالة فإني أعني بذلك بني).
مشاهدات معاوية في السقيفة
والدليل على صدق ما أتوني به ورقوه إلي: أنا قد رأيناك بأعيننا، فلا نحتاج أن نسأل
____________
(1). روي في البحار: ج 31 ص 307 قال: كنا جلوسا عند علي عليه السلام فدعا ابنه عثمان فقال: يا عثمان ثم قال:
إني لم أسمه باسم عثمان الشيخ الكافر، وإنما سميته باسم عثمان بن مظعون.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 302
--------------------------------------------------------------------------------
من ذلك غيرنا، رأيتك حملت امرأتك فاطمة على حمار وأخذت بيد ابنيك الحسن والحسين - إذ بويع أبو بكر - فلم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة إلا دعوتهم واستنصرتهم عليه فلم تجد منهم إنسانا غير أربعة: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير.
لعمري لو كنت محقا لأجابوك وساعدوك ونصروك، ولكن ادعيت باطلا وما لا يقرون به.
وسمعتك أذناي وأنت تقول لأبي سفيان - حين قال لك: (غلبت يا بن أبي طالب على سلطان ابن عمك، ومن غلبك عليه أذل أحياء قريش تيم وعدي) ودعاك إلى أن ينصرك - فقلت: (لو وجدت أعوانا أربعين رجلا من المهاجرين والأنصار من أهل السابقة لناهضت هذا الرجل)، فلما لم تجد غير أربعة رهط بايعت مكرها.
6
كتاب أمير المؤمنين عليه السلام جوابا لمعاوية
قال: فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام:
بسم الله الرحمان الرحيم، أما بعد، فقد قرأت كتابك فكثر تعجبي مما خطت فيه يدك وأطنبت فيه من كلامك، ومن البلاء العظيم والخطب الجليل على هذه الأمة أن يكون مثلك يتكلم أو ينظر في عامة أمرهم أو خاصته، وأنت من تعلم وابن من تعلم وأنا من قد علمت وابن من قد علمت!
وسأجيبك فيما قد كتبت بجواب لا أظنك تعقله أنت ولا وزيرك ابن النابغة عمرو،
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 303
--------------------------------------------------------------------------------
الموافق لك كما وافق شن طبقة (1)، فإنه هو الذي أمرك بهذا الكتاب وزينه لك، وحضركما فيه إبليس ومردة أصحابه.
والله لقد أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وعرفني أنه رآى على منبره اثني عشر رجلا، أئمة ضلال من قريش يصعدون منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وينزلون على صورة القرود، يردون أمته على أدبارهم عن الصراط المستقيم. قد خبرني بأسمائهم رجلا رجلا وكم يملك كل واحد منهم واحد بعد واحد. عشرة منهم من بني أمية ورجلان من حيين مختلفين من قريش، عليهما مثل أوزار الأمة جميعا إلى يوم القيامة ومثل جميع عذابهم.
فليس من دم يهراق في غير حقه ولا فرج يغشى حراما ولا حكم بغير حق إلا كان عليهما وزره.
وسمعته يقول: (إن بني أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلا جعلوا كتاب الله دخلا وعباد الله خولا ومال الله دولا).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أخي، إنك لست كمثلي. إن الله أمرني أن أصدع بالحق وأخبرني أنه يعصمني من الناس وأمرني أن أجاهد ولو بنفسي، فقال: (جاهد في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) (2)، وقال: (حرض المؤمنين على القتال) (3)، فكنت أنا وأنت المجاهدين. وقد مكثت بمكة ما مكثت لم أؤمر بقتال، ثم أمرني الله بالقتال لأنه لا يعرف الدين إلا بي ولا الشرائع ولا السنن والأحكام والحدود والحلال والحرام.
وإن الناس يدعون بعدي ما أمرهم الله به وما أمرتهم فيك من ولايتك وما أظهرت من حجتك، متعمدين غير جاهلين ولا اشتبه عليهم فيه، ولا سيما لما أتوك قبل (4) مخالفة ما
____________
(1). قوله (وافق شن طبقة) مثل يضرب للشيئين يتفقان.
(2). إشارة إلى سورة النساء: الآية 84، والآية هكذا: (فقاتل في سبيل الله...).
(3). سورة الأنفال: الآية 65.
(4). لعل المراد من قوله (لما أتوك) أن لهم سابقة سوء معك في حياتي قبل غصب حقك بعد مماتي.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 304
--------------------------------------------------------------------------------
أنزل الله فيك. فإن وجدت أعوانا عليهم فجاهدهم وإن لم تجد أعوانا فاكفف يدك واحقن دمك فإنك إن نابذتهم قتلوك، وإن تبعوك وأطاعوك فاحملهم على الحق وإلا فدع، وإن استجابوا لك ونابذوك فنابذهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن دمك (1) واعلم أنك إن دعوتهم لم يستجيبوا لك فلا تدعن أن تجعل الحجة عليهم.
إنك يا أخي لست مثلي، إني قد أقمت حجتك وأظهرت لهم ما أنزل الله فيك وإنه لم يعلم أني رسول الله وأن حقي وطاعتي واجبان حتى أظهرت لك، فإني كنت قد أظهرت حجتك وقمت بأمرك، فإن سكت عنهم لم تأثم وإن حكمت ودعوت لم تأثم، غير أني أحب أن تدعوهم وإن لم يستجيبوا لك ولم يقبلوا منك.
ويتظاهر عليك ظلمة قريش، فإني أخاف عليك إن ناهضت القوم ونابذتهم وجاهدتم من غير أن يكون معك فئة أعوان تقوي بهم أن يقتلوك فيطفأ نور الله ولا يعبد الله في الأرض، والتقية من دين الله ولا دين لمن لا تقية له.
وإن الله قد قضى الفرقة والاختلاف بين هذه الأمة، ولو شاء لجمعهم على الهدى ولم يختلف اثنان منهم ولا من خلقه ولم يتنازع في شئ من أمره ولم يجحد المفضول ذا الفضل فضله، ولو شاء عجل منهم النقمة وكان منه التغيير حتى يكذب الظالم ويعلم الحق أين مصيره. والله جعل الدنيا دار الأعمال وجعل الآخرة دار الثواب والعقاب، (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى). (2) فقلت: شكرا لله على نعمائه وصبرا على بلائه وتسليما ورضى بقضائه.
____________
(1). المراد من قوله (إن استجابوا لك ونابذوك فنابذهم...)، إن استجابوا لك ثم خالفوك فقم في وجوههم وذلك مثل أصحاب الجمل والنهروان.
(2). سورة النجم: الآية 31.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 305
--------------------------------------------------------------------------------
ثم قال صلى الله عليه وآله: يا أخي، أبشر فإن حياتك وموتك معي، وأنت أخي وأنت وصيي وأنت وزيري وأنت وارثي، وأنت تقاتل على سنتي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه أهله وتظاهروا عليه وكادوا أن يقتلوه. فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك فإنها ضغائن في صدور قوم، أحقاد بدر وترات أحد.
وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه إن ضلوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم بهم، وإن لم يجد أعوانا أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم. فافعل أنت كذلك، إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم وإن لم تجد أعوانا فاكفف يدك واحقن دمك، فإنك إن نابذتهم قتلوك، وإن تبعوك وأطاعوك فاحملهم على الحق.
واعلم أنك إن لم تكف يدك وتحقن دمك إذا لم تجد أعوانا أتخوف عليك أن يرجع الناس إلى عبادة الأصنام والجحود بأني رسول الله، فاستظهر الحجة عليهم وادعهم ليهلك الناصبون لك والباغون عليك ويسلم العامة والخاصة. فإذا وجدت يوما أعوانا على إقامة الكتاب والسنة فقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فإنما يهلك من الأمة من نصب نفسه لك أو لأحد من أوصيائك بالعداوة، وعادى وجحد ودان بخلاف ما أنتم عليه.
ولعمري يا معاوية، لو ترحمت عليك وعلى طلحة والزبير ما كان ترحمي عليكم واستغفاري لكم ليحق باطلا، بل يجعل الله ترحمي عليكم واستغفاري لكم لعنة وعذابا. وما أنت وطلحة والزبير بأحقر جرما ولا أصغر ذنبا وأهون بدعة وضلالة ممن استنالك ولصاحبك الذي تطلب بدمه ووطئا لكم ظلمنا أهل البيت وحملاكم على رقابنا، فإن الله يقول: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 306
--------------------------------------------------------------------------------
الناس على ما آتاهم الله من فضله) (1)، فنحن الناس ونحن المحسودون. قال الله عز وجل: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) (2)، فالملك العظيم أن جعل الله فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله والكتاب والحكمة النبوة. فلم تقرون بذلك في آل إبراهيم وتنكرونه في آل محمد؟
يا معاوية: فإن تكفر بها أنت وصاحبك ومن قبلك من طغاة الشام واليمن والأعراب، أعراب ربيعة ومضر جفاة الأمة، فقد وكل الله بها قوما ليسوا بها بكافرين!
يا معاوية: إن القرآن حق ونور وهدى ورحمة وشفاء للمؤمنين والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.
يا معاوية، إن الله جل جلاله لم يدع صنفا من أصناف الضلالة والدعاة إلى النار إلا وقد رد عليهم واحتج عليهم في القرآن ونهى فيه عن اتباعهم، وأنزل فيهم قرآنا قاطعا ناطقا عليهم قد علمه من علمه وجهله من جهله. وإني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ليس من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن وما منه حرف إلا وإن له تأويل، (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) (3)، الراسخون نحن آل محمد.
وأمر الله سائر الأمة أن يقولوا: (آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) (4)، وأن يسلموا لنا ويردوا علمه إلينا وقد قال الله: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (5)، هم الذين يسألون عنه ويطلبونه.
____________
(1). سورة النساء: الآيات 54 ـ 51.
(2). سورة النساء: الآيتان 54 و 55.
(3). سورة آل عمران: الآية 7.
(4). سورة آل عمران: الآية 7.
(5). سورة النساء: الآية 83.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 307
--------------------------------------------------------------------------------
آيتان نزلتا في معاوية
لعمري لو أن الناس - حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله - سلموا لنا واتبعونا وقلدونا أمورهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما طمعت فيها أنت يا معاوية فما فاتهم منا أكثر مما فاتنا منهم.
ولقد أنزل الله في وفيك خاصة آية من القرآن تتلوها أنت ونظراؤك على ظاهرها ولا تعلمون تأويلها وباطنها، وهي في سورة الحاقة: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا) إلى قوله: (وأما من أوتي كتابه بشماله) (1) إلى آخر الآية، وذلك أنه يدعى بكل إمام ضلالة وإمام هدى ومع كل واحد منهما أصحابه الذين بايعوه فيدعى بي ويدعى بك.
يا معاوية، وأنت صاحب السلسلة الذي يقول: (يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه) إلى آخر القصص (2)، والله لقد سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله يقوله فيك، وكذلك كل إمام ضلالة كان قبلك ويكون بعدك له مثل ذلك من خزي الله وعذابه.
آية نزلت في بني أمية
ونزل فيكم قول الله عز وجل: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس
____________
(1). الآية الأولى في سورة الانشقاق: الآية 6 وتمام الآيات هكذا: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا). والآية الثانية في سورة الحاقة: الآيات 37 - 19، وتمام الآيات هكذا: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغني عني ما ليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه...).
(2). سورة الحاقة: الآيات 29 - 25. وقوله (أنت صاحب السلسلة)، إشارة إلى قوله تعالى في الآية 32 من هذه السورة: (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 308
--------------------------------------------------------------------------------
والشجرة الملعونة في القرآن) (1)، وذلك حين رآى رسول الله صلى الله عليه وآله اثني عشر إماما من أئمة الضلالة على منبره يردون الناس على أدبارهم القهقرى، رجلان من حيين مختلفين من قريش وعشرة من بني أمية، أول العشرة صاحبك الذي تطلب بدمه وأنت وابنك وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص، أولهم مروان، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وطرده وما ولد حين استمع لنساء رسول الله صلى الله عليه وآله. (2)
يا معاوية، إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ولم يرض لنا الدنيا ثوابا.
وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله أنت ووزيرك وصويحبك، يقول: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا كتاب الله دخلا وعباد الله خولا ومال الله دولا). (3)
يا معاوية، إن نبي الله زكريا نشر بالمنشار ويحيى ذبح وقتله قومه وهو يدعوهم إلى الله عز وجل، وذلك لهوان الدنيا على الله. إن أولياء الشيطان قديما حاربوا أولياء الرحمن، قال الله: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم). (4)
____________
(1). سورة الإسراء: الآية 60.
(2). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 8 ص 243 عن البلاذري أن الحكم بن أبي العاص كان جارا لرسول الله صلى الله عليه وآله في الجاهلية وكان أشد جيرانه أذى له في الإسلام. وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة وكان مغموصا عليه في دينه. فكان يمر خلف رسول الله صلى الله عليه وآله فيغمز به ويحكيه ويخلج بأنفه وفمه، وإذا صلى قام خلفه فأشار بإصبعه. فبقي على تخليجه وأصابته خبلة. واطلع على رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم وهو في بعض حجر نساءه، فعرفه وخرج إليه بعنزة وقال: من عذيري من هذه الوزغة اللعين؟ ثم قال: لا يساكنني ولا ولده. فغربهم جميعا إلى الطائف.
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله كلم عثمان أبا بكر فيهم وسأله ردهم فأبى ذلك وقال: ما كنت لآوي طرداء رسول الله. ثم لما استخلف عمر كلمه فيهم فقال مثل قول أبي بكر. فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة.
(3). قوله (كتاب الله دخلا) أي يتخذون كتاب الله خديعة وعباد الله عبيدا وإماء ويتداولون مال الله بينهم.
يا معاوية، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبرني أن أمته سيخضبون لحيتي من دم رأسي، وإني مستشهد، وستلي الأمة من بعدي، وأنك ستقتل ابني الحسن غدرا بالسم، وأن ابنك يزيد لعنه الله سيقتل ابني الحسين، يلي ذلك منه ابن الزانية.
إخباره عليه السلام عن تسلط بني أمية على الأمة
وأن الأمة سيليها من بعدك سبعة من ولد أبي العاص وولد مروان بن الحكم وخمسة من ولده تكملة اثني عشر إماما قد رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله يتواثبون على منبره تواثب القردة، يردون أمته عن دين الله على أدبارهم القهقرى، وأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة. وأن الله سيخرج الخلافة منهم برايات سود تقبل من الشرق، يذلهم الله بهم ويقتلهم تحت كل حجر.
إخبار أمير المؤمنين عليه السلام عن ظهور الإمام المهدي عليه السلام
وأن رجلا من ولدك مشوم ملعون جلف جاف منكوس القلب فظ غليظ قد نزع الله من قلبه الرأفة والرحمة، أخواله من كلب، كأني أنظر إليه ولو شئت لسميته ووصفته وابن كم هو.
فيبعث جيشا إلى المدينة فيدخلونها فيسرفون فيها في القتل والفواحش، ويهرب منه رجل من ولدي زكي نقي، الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا.
وإني لأعرف اسمه وابن كم هو يومئذ وعلامته. وهو من ولد ابني الحسين الذي يقتله ابنك يزيد، وهو الثائر بدم أبيه. فيهرب إلى مكة ويقتل صاحب ذلك الجيش رجلا من ولدي زكيا بريا عند أحجار الزيت.
ثم يسير ذلك الجيش إلى مكة، وإني لأعلم اسم أميرهم وعدتهم وأسمائهم وسمات خيولهم، فإذا دخلوا البيداء واستوت بهم الأرض خسف الله بهم. قال الله
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 310
--------------------------------------------------------------------------------
عز وجل: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب) (1) - قال: من تحت أقدامكم - فلا يبقى من ذلك الجيش أحد غير رجل واحد يقلب الله وجهه من قبل قفاه.
ويبعث الله للمهدي أقواما يجتمعون من أطراف الأرض قزع كقزع الخريف. والله إني لأعرف أسمائهم واسم أميرهم ومناخ ركابهم. فيدخل المهدي الكعبة ويبكي ويتضرع، قال الله عز وجل: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) (2) هذا لنا خاصة أهل البيت.
هدف أمير المؤمنين عليه السلام من مراسلاته لمعاوية
أما والله يا معاوية، لقد كتبت إليك هذا الكتاب وإني لأعلم أنك لا تنتفع به، وأنك ستفرح إذا أخبرتك أنك ستلي الأمر وابنك بعدك، لأن الآخرة ليست من بالك وأنك بالآخرة لمن الكافرين. وستندم كما ندم من أسس هذا الأمر لك وحملك على رقابنا حين لم تنفعه الندامة.
ومما دعاني إلى الكتاب إليك بما كتبت به: إني أمرت كاتبي أن ينسخ ذلك لشيعتي ورؤوس أصحابي لعل الله أن ينفعهم بذلك، أو يقرأه واحد ممن قبلك فيخرجه الله به وبنا من الضلالة إلى الهدى ومن ظلمك وظلم أصحابك وفتنتهم، وأحببت أن أحتج عليك.
7
جواب معاوية الأخير إلى أمير المؤمنين عليه السلام
فكتب إليه معاوية:
(هنيئا لك يا أبا الحسن تملك الآخرة، وهنيئا لنا نملك الدنيا)!
____________
(1). سورة سبأ: الآية 51.
(2). سورة النمل: الآية 62.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 311
--------------------------------------------------------------------------------
(26)
1
احتجاجات قيس بن سعد بن عبادة على معاوية
أبان عن سليم وعمر بن أبي سلمة - حديثهما واحد، هذا وذلك - قالا:
قدم معاوية حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين عليه السلام وصالح الحسن عليه السلام. فاستقبله أهل المدينة (1)، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار. فسأل عن ذلك، فقيل له: (إنهم محتاجون ليست لهم دواب)!
فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار، ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟ فقال قيس - وكان سيد الأنصار وابن سيدهم -: أقعدنا - يا أمير المؤمنين - أن لم تكن لنا دواب فقال معاوية: فأين النواضح؟ فقال قيس: أفنيناها يوم بدر ويوم أحد وما بعدهما في مشاهد رسول الله حين ضربناك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون.
قال معاوية: اللهم غفرا. قال قيس: أما إن رسول الله قال: (إنكم سترون بعدي إثرة). فقال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نلقاه. فقال: فاصبروا حتى تلقوه!
____________
(1). في المثالب لابن شهرآشوب: فتلقته قريش بوادي القرى والأنصار بأبواء المدينة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 312
--------------------------------------------------------------------------------
ثم قال قيس: يا معاوية، تعيرنا بنواضحنا؟ والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا. ثم دخلت أنت وأبوك كرها في الإسلام الذي ضربناكم عليه.
فقال له معاوية: كأنك تمن علينا بنصرتك إيانا، والله لقريش بذلك المن والطول.
ألستم تمنون علينا - يا معشر الأنصار - بنصرتكم رسول الله وهو من قريش وهو ابن عمنا ومنا؟ فلنا المن والطول إذ جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا.
سوابق أبي طالب عليه السلام في نصرة الإسلام
فقال قيس: إن الله عز وجل بعث محمدا رحمة للعالمين، فبعثه إلى الناس كافة، إلى الجن والأنس والأحمر والأسود والأبيض، واختاره لنبوته واختصه برسالته. فكان أول من صدقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب وكان أبو طالب عمه يذب عنه ويمنع منه ويحول بين كفار قريش وبينه أن يروعوه أو يؤذوه ويأمره بتبليغ رسالات ربه.
فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى حتى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه عليا بموازرته ونصرته فوازره علي ونصره وجعل نفسه دونه في كل شديدة وكل ضيق وكل خوف، واختص الله بذلك عليا من بين قريش وأكرمه من بين جميع العرب والعجم.
فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله جميع بني عبد المطلب فيهم أبو طالب وأبو لهب، وهم يومئذ أربعون رجلا فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وخادمه يومئذ علي عليه السلام، ورسول الله يومئذ في حجر عمه أبي طالب، فقال: (أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي)؟
فسكت القوم حتى أعادها رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث مرات. فقال علي عليه السلام: (أنا يا رسول الله، صلى الله عليك). فوضع رسول الله رأس علي في حجره وتفل في فيه
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 313
--------------------------------------------------------------------------------
وقال: (اللهم املأ جوفه علما وفهما وحكما). ثم قال لأبي طالب: (يا أبا طالب، اسمع الآن لابنك علي وأطع، فقد جعله الله من نبيه بمنزلة هارون من موسى). وآخى بين الناس وآخى بين علي وبين نفسه.
فلم يدع قيس بن سعد شيئا من مناقبه إلا ذكرها واحتج بها وقال: منهم أهل البيت جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين، اختصه الله بذلك من بين الناس، ومنهم حمزة سيد الشهداء، ومنهم فاطمة سيدة نساء العالمين. فإذا وضعت من قريش رسول الله وأهل بيته وعترته الطيبين، فنحن والله خير منكم - يا معشر قريش - وأحب إلى الله ورسوله وإلى أهل بيته منكم.
لقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله فاجتمعت الأنصار إلى والدي سعد ثم قالوا: (لا نبايع غير سعد). فجاءت قريش بحجة علي وأهل بيته وخاصمونا بحقه وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله. فما يعدو قريش أن يكونوا ظلموا الأنصار أو ظلموا آل محمد عليهم السلام.
ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق ولا نصيب مع علي بن أبي طالب وولده من بعده.
فغضب معاوية وقال: يا بن سعد، عمن أخذت هذا وعمن رويته وعمن سمعته؟
أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟ فقال قيس: سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي وأعظم علي حقا من أبي. قال: ومن هو؟ قال: ذاك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عالم هذه الأمة وديانها وصديقها وفاروقها الذي أنزل الله فيه ما أنزل وهو قوله عز وجل:
(قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب). (1) فلم يدع قيس آية نزلت في علي عليه السلام إلا ذكرها.
____________
(1). سورة الرعد: الآية 43.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 314
--------------------------------------------------------------------------------
فقال معاوية: فإن صديقها أبو بكر وفاروقها عمر، والذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام!
قال قيس: أحق بهذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (1)، والذي أنزل الله جل اسمه فيه: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) (2)، والله لقد نزلت: (وعلي لكل قوم هاد)، فأسقطتم ذلك، والذي نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم فقال: (من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه)، وقال له رسول الله في غزوة تبوك: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
2
بداية خطة معاوية في لعن علي عليه السلام
وكان معاوية يومئذ بالمدينة، فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك نسخة إلى جميع البلدان إلى عماله: (ألا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي بن أبي طالب أو فضائل أهل بيته وقد أحل بنفسه العقوبة).
وقامت الخطباء في كل كورة ومكان وعلى كل المنابر بلعن علي بن أبي طالب عليه السلام والبراءة منه والوقيعة فيه وفي أهل بيته عليهم السلام بما ليس فيهم، واللعنة لهم.
____________
(1). سورة هود: الآية 17.
(2). سورة الرعد: الآية 7.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 315
--------------------------------------------------------------------------------
3
احتجاجات ابن عباس على معاوية
ثم إن معاوية مر بحلقة من قريش، فلما رأوه قاموا له غير عبد الله بن عباس. فقال له: يا بن عباس، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا موجدة في نفسك علي بقتالي إياكم يوم صفين. يا بن عباس، إن ابن عمي أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما.
قال له ابن عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما، أفسلمتم الأمر إلى ولده، وهذا ابنه؟ قال: إن عمر قتله مشرك. قال ابن عباس: فمن قتل عثمان؟ قال: قتله المسلمون قال: فذلك أدحض لحجتك وأحل لدمه إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلا بحق.
قال معاوية: فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته، فكف لسانك - يا بن عباس - وأربع على نفسك.
فقال له ابن عباس: أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا.
قال: أفتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم.
قال: فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟ قال: نعم.
قال: فأيما أوجب علينا، قرائته أو العمل به؟ قال معاوية: العمل به.
قال: فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟ قال: سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.
قال: إنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان أو أسأل عنه آل أبي معيط أو اليهود والنصارى والمجوس؟ قال له معاوية: فقد عدلتنا بهم وصيرتنا منهم.
قال له ابن عباس: لعمري ما أعدلك بهم، غير أنك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.
قال معاوية: فاقرؤا القرآن وتأولوه ولا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم من تفسيره وما قاله رسول الله فيكم، وارووا ما سوى ذلك.
قال ابن عباس: قال الله في القرآن: (يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). (1)
قال معاوية: يا بن عباس، اكفني نفسك وكف عني لسانك، وإن كنت لا بد فاعلا فليكن ذلك سرا ولا يسمعه أحد منك علانية.
ثم رجع إلى منزله، فبعث إليه بخمسين ألف درهم.
4
اشتداد البلاء على الشيعة في عهد معاوية
ثم اشتد البلاء بالأمصار كلها على شيعة علي وأهل بيته عليهم السلام، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة. واستعمل عليهم زيادا أخاه وضم إليه البصرة والكوفة وجميع العراقين. وكان يتتبع الشيعة وهو بهم عالم لأنه كان منهم فقد عرفهم وسمع كلامهم أول شئ.
____________
(1). سورة التوبة: الآية 32.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 317
--------------------------------------------------------------------------------
فقتلهم تحت كل كوكب وحجر ومدر، وأجلاهم وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل منهم وصلبهم على جذوع النخل وسمل أعينهم وطردهم وشردهم حتى انتزعوا عن العراق. فلم يبق بالعراقين أحد مشهور إلا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب.
وكتب معاوية إلى قضاته وولاته في جميع الأرضين والأمصار: (أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي بن أبي طالب ولا من أهل بيته ولا من أهل ولايته الذين يرون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة).
تقريب معاوية جماعة عثمان واختلاق المناقب له
وكتب إلى عماله: (انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته وأهل ولايته والذين يرون فضله ويتحدثون بمناقبه، فأدنوا مجالسهم وأكرموهم وقربوهم وشرفوهم، واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم فيه واسم الرجل واسم أبيه وممن هو).
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في عثمان الحديث وبعث إليهم بالصلات والكسي وأكثر لهم القطائع من العرب والموالي. فكثروا في كل مصر وتنافسوا في المنازل والضياع واتسعت عليهم الدنيا. فلم يكن أحد يأتي عامل مصر من الأمصار ولا قرية فيروي في عثمان منقبة أو يذكر له فضيلة إلا كتب اسمه وقرب وشفع. فلبثوا بذلك ما شاء الله.
سعي معاوية في إحياء اسم أبي بكر وعمر
ثم كتب بعد ذلك إلى عماله: (أن الحديث قد كثر في عثمان وفشا في كل قرية ومصر ومن كل ناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في أبي بكر وعمر، فإن فضلهما وسوابقهما أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أهل هذا البيت وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضائله).
فقرأ كل قاض وأمير من ولاته كتابه على الناس، وأخذ الناس في الروايات في أبي بكر وعمر وفي مناقبهم.
أمر معاوية بتعليم المناقب الكاذبة للأطفال والنساء
ثم كتب نسخة جمع فيها جميع ما روي فيهم من المناقب والفضائل، وأنفذها إلى عماله وأمرهم بقرائتها على المنابر وفي كل كورة وفي كل مسجد. وأمرهم أن ينفذوا إلى معلمي الكتاتيب أن يعلموها صبيانهم حتى يرووها ويتعلموها كما يتعلمون القرآن (1) وحتى علموها بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم. فلبثوا بذلك ما شاء الله. (2)
برنامج معاوية لإبادة الشيعة
ثم كتب معاوية إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان ولا تجيزوا له شهادة).
ثم كتب كتابا آخر: (من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة أنه منهم فاقتلوه).
فقتلوهم على التهم والظن والشبه تحت كل كوكب، حتى لقد كان الرجل يغلط بكلمة فيضرب عنقه. ولم يكن ذلك البلاء في بلد أكبر ولا أشد منه بالعراق ولا سيما بالكوفة، حتى أنه كان الرجل من شيعة علي عليه السلام - وممن بقي من أصحابه بالمدينة وغيرها - ليأتيه من يثق به فيدخل بيته، ثم يلقي إليه سره فيخاف من خادمه ومملوكه، فلا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان المغلظة ليكتمه عليه.
____________
(1). راجع عن المناقب المفتعلة بشأن أبي بكر وعمر وعثمان: الحديث 10 من هذا الكتاب.
(2). زاد هنا في الإحتجاج: وكتب زياد بن أبيه إليه في حق الحضرميين: (أنهم على دين علي وعلى رأيه).
فكتب إليه معاوية: (اقتل كل من كان على دين علي ورأيه)، فقتلهم ومثل بهم.
روي في البحار: ج 44 ص 212 من جملة ما كتبه الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية جوابا لرسالته:
(... أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم كانوا على دين علي صلوات الله عليه، فكتبت إليه أن اقتل كل من كان على دين علي، فقتلهم ومثل بهم بأمرك).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 319
--------------------------------------------------------------------------------
وجعل الأمر لا يزداد إلا شدة وكثر عندهم عدوهم وأظهروا أحاديثهم الكاذبة في أصحابهم من الزور والبهتان، فنشأ الناس على ذلك ولم يتعلموا إلا منهم ومضى على ذلك قضاتهم وولاتهم وفقهائهم.
وكان أعظم الناس في ذلك بلاء وفتنه القراء المراءون المتصنعون، الذين يظهرون لهم الحزن والخشوع والنسك، ويكذبون ويفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويدنوا بذلك مجالسهم ويصيبوا بذلك الأموال والقطائع والمنازل. حتى صارت أحاديثهم تلك ورواياتهم في أيدي من يحسب أنها حق وأنها صدق، فرووها وقبلوها وتعلموها وعلموها وأحبوا عليها وأبغضوا، حتى جمعت على ذلك مجالسهم وصارت في أيدي الناس المتدينين الذين لا يستحلون الكذب ويبغضون عليه أهله.
فقبلوها وهم يرون أنها حق، ولو علموا أنها باطل لم يرووها ولم يتدينوا بها ولا تنقصوا من خالفهم. فصار الحق في ذلك الزمان باطلا والباطل حقا والصدق كذبا والكذب صدقا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لتشملنكم فتنة يربو فيها الوليد وينشأ فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة. فإذا غير منها شئ قالوا: أتى الناس منكرا، غيرت السنة)!
فلما مات الحسن بن علي عليه السلام لم يزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان، فلم يبق ولي لله إلا خائفا على دمه أو مقتولا أو طريدا أو شريدا، ولم يبق عدو لله إلا مظهرا حجته غير مستتر ببدعته وضلالته.
5
مناشدات واحتجاجات الإمام الحسين عليه السلام بمكة
فلما كان قبل موت معاوية بسنة حج الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر معه. فجمع الحسين عليه السلام بني هاشم، رجالهم ونسائهم ومواليهم وشيعتهم من حج منهم، ومن الأنصار ممن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته.
ثم أرسل رسلا: (لا تدعوا أحدا ممن حج العام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله المعروفين بالصلاح والنسك إلا أجمعوهم لي).
فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل (1) وهم في سرادقه، عامتهم من التابعين ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وغيرهم.
فقام فيهم الحسين عليه السلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإني أريد أن أسألكم عن شئ، فإن صدقت فصدقوني وإن كذبت فكذبوني. أسألكم بحق الله عليكم وحق رسول الله وحق قرابتي من نبيكم، لما سيرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي ودعوتم أجمعين في أنصاركم من قبائلكم من آمنتم من الناس ووثقتم به، فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا، فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق ويغلب، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
____________
(1). في الإحتجاج: ألف رجل.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 321
--------------------------------------------------------------------------------
مناقب أمير المؤمنين عليه السلام على لسان الإمام الحسين عليه السلام
وما ترك شيئا مما أنزل الله فيهم من القرآن إلا تلاه وفسره، ولا شيئا مما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلا رواه، وكل ذلك يقول الصحابة: (اللهم نعم، قد سمعنا وشهدنا)، ويقول التابعي: (اللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة). فقال: أنشدكم الله إلا حدثتم به من تثقون به وبدينه.
قال سليم: فكان فيما ناشدهم الحسين عليه السلام وذكرهم أن قال: أنشدكم الله أتعلمون أن علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله صلى الله عليه وآله حين آخى بين أصحابه، فآخى بينه وبين نفسه وقال: (أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه، ثم ابتنى فيه عشرة منازل، تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لأبي.
ثم سد كل باب شارع إلى المسجد غير بابه، فتكلم في ذلك من تكلم، فقال صلى الله عليه وآله: (ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه، ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه). ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله، فولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وله فيه أولاد؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتعلمون أن عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها من منزله إلى المسجد، فأبى عليه. ثم خطب صلى الله عليه وآله فقال: إن الله أمر موسى أن يبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيره وغير هارون وابنيه وإن الله أمرني أن أبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري وغير أخي وابنيه؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله نصبه يوم غدير خم فنادى له بالولاية وقال: (ليبلغ الشاهد الغائب)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له في غزوة تبوك: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى وأنت ولي كل مؤمن بعدي)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلا به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله، أتعلمون أنه دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثم قال: (لأدفعه إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار يفتحها الله على يديه)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعثه ببراءة وقال: (لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم تنزل به شدة قط إلا قدمه لها ثقة به، وأنه لم يدعه باسمه قط إلا أن يقول: (يا أخي) و (ادعوا لي أخي)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قضى بينه وبين جعفر وزيد (1)، فقال له: (يا علي، أنت مني وأنا منك، وأنت ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أتعلمون أنه كانت له من رسول الله صلى الله عليه وآله كل يوم خلوة وكل ليلة دخلة، إذا سأله أعطاه وإذا سكت أبداه؟ قالوا: اللهم نعم.
____________
(1). راجع الحديث 11 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 323
--------------------------------------------------------------------------------
قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله فضله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة عليها السلام: (زوجتك خير أهل بيتي، أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم علما)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أنا سيد ولد آدم وأخي علي سيد العرب، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وابناي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمره بغسله وأخبره أن جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا:
اللهم نعم.
قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في آخر خطبة خطبها: (أيها الناس، إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، فتمسكوا بهما لن تضلوا)؟ قالوا: اللهم نعم.
فلم يدع شيئا أنزله الله في علي بن أبي طالب عليه السلام خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيه صلى الله عليه وآله إلا ناشدهم فيه، فيقول الصحابة: (اللهم نعم، قد سمعنا)، ويقول التابعي: (اللهم قد حدثنيه من أثق به، فلان وفلان).
ثم ناشدهم أنهم قد سمعوه صلى الله عليه وآله يقول: (من زعم أنه يحبني ويبغض عليا فقد كذب، ليس يحبني وهو يبغض عليا) فقال له قائل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال: لأنه مني وأنا منه، من أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله)؟
أبان بن أبي عياش عن سليم، قال: إني كنت عند عبد الله بن عباس في بيته وعنده رهط من الشيعة. قال: فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وموته، فبكى ابن عباس، وقال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الاثنين - وهو اليوم الذي قبض فيه - وحوله أهل بيته وثلاثون رجلا من أصحابه: ايتوني بكتف أكتب لكم فيه كتابا لن تضلوا بعدي ولن تختلفوا بعدي.
فمنعهم فرعون هذه الأمة فقال: (إن رسول الله يهجر) فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: (إني أراكم تخالفوني وأنا حي، فكيف بعد موتي)؟ فترك الكتف.
قال سليم: ثم أقبل علي ابن عباس فقال: يا سليم، لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتابا لا يضل أحد ولا يختلف.
فقال رجل من القوم: ومن ذلك الرجل؟ فقال: ليس إلى ذلك سبيل.
فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم، فقال: هو عمر. فقلت: صدقت، قد سمعت عليا عليه السلام وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون: (إنه عمر). فقال: يا سليم، اكتم إلا ممن تثق بهم من إخوانك، فإن قلوب هذه الأمة أشربت حب هذين الرجلين كما أشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل والسامري.
قال أبان: سمعت سليم بن قيس يقول: شهدت يوم الجمل عليا عليه السلام، وكنا اثني عشر ألفا وكان أصحاب الجمل زيادة على عشرين ومائة ألف.
وكان مع علي عليه السلام من المهاجرين والأنصار نحو من أربعة آلاف ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا والحديبية ومشاهده، وسائر الناس من أهل الكوفة إلا من تبعه (1) من أهل البصرة والحجاز ليست له هجرة ممن أسلم بعد الفتح. وجل الأربعة آلاف من الأنصار.
ولم يكره أحدا من الناس على البيعة ولا على القتال، إنما ندبهم فانتدب من أهل بدر سبعون ومائة رجل، وجلهم من الأنصار ممن شاهد أحدا والحديبية، ولم يتخلف عنه أحد.
وليس أحد من المهاجرين والأنصار إلا وهواه معه، يتولونه ويدعون له بالظفر والنصر ويحبون ظهوره على من ناواه، ولم يحرجهم ولم يضيق عليهم وقد بايعوه، وليس كل الناس يقاتل في سبيل الله. (2)
____________
(1). أي مضافا إلى من تبعه من أهل البصرة ومن غير المهاجرين من أهل الحجاز الذين أسلموا بعد فتح مكة.
(2). أي عدم إكراهه عليه السلام لهم لا ينافي عدم خلوص نياتهم في الحرب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 326
--------------------------------------------------------------------------------
والطاعن عليه والمتبرء منه قليل مستتر عنه، مظهر له الطاعة غير ثلاثة رهط، بايعوه ثم شكوا في القتال معه وقعدوا في بيوتهم: محمد بن مسلمة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر.
وأسامة بن زيد سلم بعد ذلك ورضي، ودعا لعلي عليه السلام واستغفر له وبرئ من عدوه وشهد أنه على الحق، ومن خالفه ملعون حلال الدم.
احتجاجات أمير المؤمنين عليه السلام على طلحة والزبير
قال أبان: قال سليم: لما التقى أمير المؤمنين عليه السلام، وأهل البصرة يوم الجمل نادى علي عليه السلام الزبير: يا أبا عبد الله، اخرج إلي.
فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، تخرج إلى الزبير الناكث بيعته وهو على فرس شاك في السلاح وأنت على بغلة بلا سلاح؟ فقال علي عليه السلام: إن علي من الله جنة واقية.
لن يستطيع أحد فرارا من أجله. وإني لا أموت ولا أقتل إلا على يدي أشقاها كما عقر ناقة الله أشقى ثمود.
فخرج إليه الزبير. فقال: أين طلحة؟ ليخرج. فخرج طلحة.
أصحاب الجمل ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال عليه السلام: نشدتكما بالله، أتعلمان وأولوا العلم من آل محمد وعائشة بنت أبي بكر (أن أصحاب الجمل وأهل النهروان ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله) وقد خاب من افترى؟
فقال الزبير: كيف نكون ملعونين ونحن من أهل الجنة؟ فقال علي عليه السلام: لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم.
فقال الزبير: أما سمعت رسول الله يقول يوم أحد: (أوجب طلحة الجنة، ومن أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض حيا فلينظر إلى طلحة)؟ أوما سمعت رسول الله
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 328
--------------------------------------------------------------------------------
يقول: (عشرة من قريش في الجنة)؟ (1)
رد أمير المؤمنين عليه السلام حديث العشرة المبشرة
فقال علي عليه السلام: فسمهم. قال: فلان وفلان وفلان، حتى عد تسعة، فيهم أبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
فقال علي عليه السلام: عددت تسعة، فمن العاشر؟ قال الزبير: أنت فقال علي عليه السلام: أما أنت فقد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فإني به لمن الجاحدين. والله إن بعض من سميت لفي تابوت في جب في أسفل درك من جهنم، على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة فأسعرت جهنم. سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا فأظفرك الله بي وسفك دمي بيدك، وإلا فأظفرني الله بك وبأصحابك!
فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي.
إخراج زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله بيد طلحة والزبير
ثم أقبل على طلحة فقال: يا طلحة، معكما نساؤكما؟ قال: لا. قال: عمدتما إلى امرأة موضعها في كتاب الله القعود في بيتها فأبرزتماها وصنتما حلائلكما في الخيام والحجال؟ ما أنصفتما رسول الله صلى الله عليه وآله من أنفسكم حيث أجلستما نسائكما في البيوت وأخرجتما زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أمر الله أن لا يكلمن إلا من وراء حجاب.
أخبرني عن صلاة عبد الله بن الزبير بكما، أما يرضى أحدكما بصاحبه؟ أخبرني عن دعائكما الأعراب إلى قتالي، ما يحملكما على ذلك؟
____________
(1). في الإحتجاج: أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
(عشرة من قريش في الجنة)؟ قال علي عليه السلام: سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته. فقال له علي عليه السلام:
لست أخبرك بشئ حتى تسميهم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 329
--------------------------------------------------------------------------------
فقال طلحة: يا هذا، كنا في الشورى ستة مات منا واحد وقتل آخر، فنحن اليوم أربعة كلنا لك كاره.
فقال له علي عليه السلام: ليس ذلك علي، قد كنا في الشورى والأمر في يد غيرنا وهو اليوم في يدي. أرأيت لو أردت - بعد ما بايعت عثمان - أن أرد هذا الأمر شورى، أكان ذلك لي؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأنك بايعت طائعا.
فقال علي عليه السلام: وكيف ذلك، والأنصار معهم السيوف مخترطة يقولون: (لئن فرغتم وبايعتم واحدا منكم، وإلا ضربنا أعناقكم أجمعين) فهل قال لك ولأصحابك أحد شيئا من هذا حيث بايعتماني؟ وحجتي في الاستكراه في البيعة أوضح من حجتك وقد بايعتني أنت وصاحبك طائعين غير مكرهين، وكنتما أول من فعل ذلك، ولم يقل أحد:
قال أبان: قال سليم: سمعت ابن عباس يقول: سمعت من علي عليه السلام حديثا لم أدر ما وجهه ولم أنكره. سمعته يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله أسر إلي في مرضه، فعلمني مفتاح ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب).
وإني لجالس بذي قار في فسطاط علي عليه السلام وقد بعث الحسن عليه السلام وعمارا إلى أهل الكوفة يستنفران الناس، إذ أقبل علي علي عليه السلام فقال: يا بن عباس، يقدم عليك الحسن ومعه أحد عشر ألف رجل غير رجل أو رجلين. (1) فقلت في نفسي: إن كان كما قال فهو من تلك الألف باب.
فلما أظلنا الحسن عليه السلام بذلك الجند استقبلتهم، فقلت لكاتب الجيش الذي معه أسمائهم: كم رجل معكم؟ فقال: أحد عشر ألف رجل غير رجل أو رجلين.
____________
(1). الترديد من الراوي، ورواه في البحار: ج 41 ص 300 بتفصيل أكثر هكذا: قال أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا، يبايعوني على الموت. قال ابن عباس: فجزعت لذلك وخفت أن ينقص القوم من العدد أو يزيدوا عليه فيفسدوا الأمر علينا. وإني أحصي القوم فاستوفيت عددهم تسعمائة ر جل وتسعة وتسعين رجلا، ثم انقطع مجئ القوم. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. ما ذا حمله على ما قال؟ فبينما أنا مفكر في ذلك إذ رأيت شخصا قد أقبل حتى دنا، وهو رجل عليه قباء صوف ومعه سيف وترس وإداوة. فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال: امدد يديك لأبايعك. قال علي عليه السلام: وعلى ما تبايعني؟ قال: على السمع والطاعة والقتال بين يديك أو يفتح الله عليك. فقال: ما اسمك؟ قال: أويس القرني، قال: نعم، الله أكبر فإنه أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله أني أدرك رجلا من أمته يقال له (أويس القرني)، يكون من حزب الله، يموت على الشهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. قال ابن عباس: فسري عنا.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 331
--------------------------------------------------------------------------------
(31)
سلوني قبل أن تفقدوني
قال أبان عن سليم، قال: جلست إلى علي عليه السلام بالكوفة في المسجد والناس حوله.
فقال: سلوني قبل أن تفقدوني. سلوني عن كتاب الله، فوالله ما نزلت آية من كتاب الله إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمني تأويلها.
فقال ابن الكواء: فما كان ينزل عليه وأنت غائب؟
فقال عليه السلام: بلى، يحفظ علي ما غبت عنه، فإذا قدمت عليه قال لي: (يا علي، أنزل الله بعدك كذا وكذا) فيقرأنيه، (وتأويله كذا وكذا) فيعلمنيه.
قال أبان: قال سليم: سمعت عليا عليه السلام وهو يقول لرأس اليهود: كم افترقتم؟ فقال:
على كذا وكذا فرقة. فقال علي عليه السلام: كذبت!
ثم أقبل على الناس فقال: والله لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل القرآن بقرآنهم.
افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى. وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت شمعون وصي عيسى عليه السلام. وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت وصي محمد صلى الله عليه وآله - وضرب بيده على صدره -.
ثم قال: ثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين كلها تنتحل مودتي وحبي، واحدة منها في الجنة واثنتا عشرة منها في النار.
قال أبان: قال سليم: قلت لابن عباس: أخبرني بأعظم ما سمعتم من علي بن أبي طالب عليه السلام، ما هو؟
قال سليم: فأتاني بشئ قد كنت سمعته أنا من علي عليه السلام.
قال عليه السلام: دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وفي يده كتاب، فقال: يا علي، دونك هذا الكتاب.
فقلت: يا نبي الله، وما هذا الكتاب؟ قال: كتاب كتبه الله، فيه تسمية أهل السعادة وأهل الشقاوة من أمتي إلى يوم القيامة، أمرني ربي أن أدفعه إليك. (1)
____________
(1). يناسب هنا أن أورد ما رواه في البحار: ج 17 ص 146 ح 40 بأسناده عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السلام قال:
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وفي يده اليمنى كتاب وفي يده اليسرى كتاب. فنشر الكتاب الذي في يده اليمنى فقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب لأهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم، لا يزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد). قال: ثم نشر الذي بيده اليسرى فقرأ: (كتاب من الله الرحمن الرحيم لأهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، لا يزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد).
وروي في البحار أيضا عن أبي جعفر عليه السلام قال: انتهى النبي صلى الله عليه وآله إلى السماء السابعة وانتهى إلى سدرة المنتهى. قال: فقالت السدرة: ما جازني مخلوق قبلك. ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى.
قال: فدفع إليه كتاب أصحاب اليمين وكتاب أصحاب الشمال. فأخذ كتاب أصحاب اليمين بيمينه وفتحه ونظر فيه، فإذا فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم. قال: وفتح كتاب أصحاب الشمال ونظر فيه فإذا فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم. ثم نزل ومعه الصحيفتان فدفعهما إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 334
--------------------------------------------------------------------------------
(34)
أخبار ليلة الهرير أشد مراحل حرب صفين
قال أبان: سمعت سليم بن قيس يقول - وسألته (1): هل شهدت صفين؟ فقال: نعم.
قلت: هل شهدت يوم الهرير؟ قال: نعم. قلت: كم كان أتى عليك من السن؟ قال:
أربعون سنة. (2) قلت: فحدثني رحمك الله.
قال: مهما نسيت من شئ من الأشياء فلا أنسى هذا الحديث. ثم بكى وقال:
صفوا وصففنا، فخرج مالك الأشتر على فرس له أدهم مجنب (3) وسلاحه معلق على فرسه وبيده الرمح وهو يقرع به رؤوسنا ويقول: (أقيموا صفوفكم).
فلما كتب الكتائب (4) وأقام الصفوف أقبل على فرسه حتى قام بين الصفين فولى أهل الشام ظهره وأقبل علينا بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله، ثم قال:
(أما بعد، فإنه كان من قضاء الله وقدره اجتماعنا في هذه البقعة من الأرض لآجال قد اقتربت وأمور تصرمت، يسوسنا فيها سيد المسلمين وأمير المؤمنين
____________
(1). أي وقد سألت سليما، وسيأتي في موارد من هذا الحديث قوله: (قال سليم). ويؤيد ذلك أن سليم كان حاضرا بصفين إلى آخرها كما هو صريح عدة أحاديث في هذا الكتاب.
(2). يستفاد من هذه العبارة أن سليما ولد بسنتين أو أربع سنين قبل الهجرة، وذلك أن وقعة صفين بدئت في سنة 36 وانتهت في سنة 38. فإذا كان عمر سليم آنذاك أربعون سنة يكون ميلاده إما بسنتين قبل الهجرة أو أربع سنوات.
(3). أي كان يقوده إلى جنبه ولم يركبه.
(4). كتب الكتائب أي هيأهم وجعلهم في فئات منظمة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 335
--------------------------------------------------------------------------------
وخير الوصيين وابن عم نبينا وأخوه ووارثه، وسيوفنا سيوف الله، ورئيسهم ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق وبقية الأحزاب يسوقهم إلى الشقاء والنار. ونحن نرجو بقتالهم من الله الثواب، وهم ينتظرون العقاب. فإذا حمى الوطيس وثار القتال (1) وجالت الخيل بقتلانا وقتلاهم رجونا بقتالهم النصر من الله، فلا أسمعن إلا غمغمة (2) أو همهمة.
أيها الناس، غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ من الأضراس فإنها أشد لضرب الرأس، واستقبلوا القوم بوجوهكم وخذوا قوائم سيوفكم بأيمانكم، فاضربوا الهام وأطعنوا بالرماح مما يلي الشرسوف(3) (موتورين بآبائهم وبدماء إخوانهم حنقين على عدوهم، قد وطنوا أنفسهم على الموت، لكيلا تذلوا ولا يلزمكم في الدنيا عار).
ثم التقى القوم فكان بينهم أمر عظيم، فتفرقوا عن سبعين ألف قتيل من جحاجحة العرب (4). وكانت الوقعة يوم الخميس من حيث استقلت الشمس حتى ذهب ثلث الليل الأول. ما سجد لله في ذينك العسكرين سجدة حتى مرت مواقيت الصلوات الأربع:
الظهر والعصر والمغرب والعشاء. (5)
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام بعد ليلة الهرير
قال سليم: ثم إن عليا عليه السلام قام خطيبا فقال: (يا أيها الناس، إنه قد بلغ بكم ما قد رأيتم وبعدوكم كمثل فلم يبق إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها،
____________
(1). حمى الوطيس أي اشتد الحرب.
(2). الغمغمة: الكلام الذي لا يبين.
(3). الشرسوف: طرف الضلع المشرف على البطن.
(4). أي ساداتهم.
(5). قوله: (ما سجد لله...) أي كانوا يصلون صلاة الخوف حالة القيام، كما ورد ذلك عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: (... وما كانت صلاة القوم يومئذ إلا تكبيرا عند مواقيت الصلاة). راجع أمالي الصدوق:
وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغوا فيكم ما قد بلغوا. وأنا غاد عليهم بالغداة إن شاء الله ومحاكمهم إلى الله).
رفع المصاحف
فبلغ ذلك معاوية ففزع فزعا شديدا وانكسر هو وجميع أصحابه وأهل الشام لذلك. فدعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو، إنما هي الليلة حتى يغدو علينا، فما ترى؟ قال: أرى الرجال قد قلوا، وما بقي فلا يقومون لرجاله ولست مثله، وإنما يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره: أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء. وليس يخاف أهل الشام عليا إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم. ولكن ألق إليهم أمرا إن ردوه اختلفوا وإن قبلوه اختلفوا دعهم إلى كتاب الله وارفع المصاحف على رؤوس الرماح، فإنك بالغ حاجتك فإني لم أزل أدخرها لك.
كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام خديعة
فعرفها معاوية وقال: صدقت، ولكن قد رأيت رأيا أخدع به عليا: (طلبي إليه الشام على الموادعة)، وهو الشئ الأول الذي ردني عنه.
فضحك عمرو وقال: أين أنت يا معاوية من خديعة علي؟ وإن شئت أن تكتب فاكتب.
قال: فكتب معاوية إلى علي عليه السلام كتابا مع رجل من أهل السكاسك يقال له (عبد الله بن عقبة):
(أما بعد، فإنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت وعلمناه نحن، لم يجنها بعضنا على بعض. وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي منها ما نرم به (1) ما مضى ونصلح ما بقي.
وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة ولا بيعة، فأبيت ذلك علي
____________
(1). أي نصلح ونأخذ في ترميمه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 337
--------------------------------------------------------------------------------
فأعطاني الله ما منعت. وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجوه ولا تخاف من الفناء إلا ما أخاف، وقد والله رقت الأكباد وذهبت الرجال. ونحن بنو عبد مناف، وليس لبعضنا على بعض فضل يستذل به عزيز ولا يسترق به ذليل، والسلام).
جواب أمير المؤمنين عليه السلام لكتاب معاوية
قال سليم: فلما قرأ علي عليه السلام كتابه ضحك وقال: العجب من معاوية وخديعته لي فدعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال له: أكتب:
أما بعد، فقد جائني كتابك تذكر فيه (أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك إلى ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض)، وإنا وإياك - يا معاوية - على غاية منها لم نبلغها بعد.
وأما طلبك الشام، فإني لم أعطك اليوم ما منعتك أمس. وأما استواؤنا في الخوف والرجاء، فإنك لست بأمضى على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام أحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك (إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض)، فكذلك نحن ولكن ليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كأبي طالب ولا الطليق كالمهاجر ولا المنافق كالمؤمن والمبطل كالمحق. في أيدينا فضل النبوة التي ملكنا بها العرب واستعبدنا بها العجم، والسلام).
شماتة عمرو بن العاص بمعاوية
قال: فلما انتهى كتاب علي عليه السلام إلى معاوية كتمه عن عمرو، ثم دعاه فأقرأه. فشمت به عمرو، وقد كان نهاه. ولم يكن أحد من قريش أشد تعظيما لعلي عليه السلام من عمرو بعد اليوم الذي صرعه عن دابته. فقال عمرو:
ألا لله درك يا بن هند ودر المرء ذي الحال المسود
أتطمع - لا أبا لك - في علي وقد قرع الحديد على الحديد
وترجو أن تخادعه بشك وترجو أن يهابك بالوعيد
وقد كشف القناع وجر حربا يشيب لهولها رأس الوليد
له جاواه مظلمة طحول فوارسها تلهب كالأسود (1)
يقول لها إذا رجعت إليه وقابل بالطعان القوم عودي
فإن وردت فأولها ورودا وإن صدرت فليس بذي ورود
وما هي من أبي حسن بنكر وما هي من مسائك بالبعيد
وقلت له مقالة مستكين ضعيف القلب منقطع الوريد
طلبت الشام حسبك يا بن هند من السوءات والرأي الزهيد
ولو أعطاكها ما ازددت عزا وما لك في استزادك من مزيد
فلم تكسر بهذا الرأي عودا سوى ما كان، لا بل دون عود
فضيحة معاوية وعمرو بن العاص
فقال معاوية: والله لقد علمت ما أردت بهذا. قال عمرو: وما أردت به؟ قال: عيبك رأيي وخلافك علي وإعظامك عليا، لما فضحك يوم بارزته.
فضحك عمرو وقال: أما خلافك ومعصيتك فقد كانت، وأما فضيحتي فلم يفتضح
رجل بارز عليا (1)، فإن شئت أن تتلوها أنت منه فافعل!
فسكت معاوية وفشا أمرهما في أهل الشام.
____________
(1). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 2 ص 161 عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم عن ابن عباس قال: تعرض عمرو بن العاص لعلي عليه السلام يوما من أيام صفين وظن أنه يطمع منه في غرة فيصيبه. فحمل عليه علي عليه السلام، فلما كاد أن يخالطه أذرى نفسه عن فرسه ورفع ثوبه وشغر برجله فبدت عورته فصرف عليه السلام وجهه عنه وقام (أي ابن العاص) معفرا بالتراب هاربا على رجليه معتصما بصفوفه. فقال أهل العراق: يا أمير المؤمنين، أفلت الرجل. فقال: أتدرون من هو؟ قالوا: لا. قال: إنه عمرو بن العاص، تلقاني بسوأته فذكرني بالرحم، فصرفت وجهي عنه. ورجع عمرو إلى معاوية، فقال: ما صنعت يا أبا عبد الله؟ فقال: لقيني علي فصرعني قال: أحمد الله وعورتك!!
قال أبان: قال سليم: ومر علي عليه السلام بجماعة من أهل الشام فيهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط (1) وهم يشتمونه.
____________
(1). أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 8 ص 120 عن الأغاني: أن الوليد بن عقبة كان زانيا شريب الخمر.
فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع، فصلى بهم أربع ركعات. ثم التفت إليهم وقال لهم: أزيدكم؟ وتقيأ في المحراب، وقرأ بهم في الصلاة وهو رافع صوته:
علق القلب الربابا بعد ما شابت وشابا
وروى عن عدة طرق: أن طلحة والزبير أتيا عثمان فقالا له: قد نهيناك عن تولية الوليد شيئا من أمور المسلمين فأبيت، وقد شهد عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله. وقال علي عليه السلام: اعزله وحده إذا شهد الشهود عليه في وجهه. فولى عثمان سعيد بن العاص الكوفة وأمره بإشخاص الوليد. فلما قدم سعيد الكوفة غسل المنبر ودار الإمارة وأشخص الوليد. فلما شهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة حبر وأدخله بيتا. فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد: أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين عليك فيكف. فلما رآى ذلك علي بن أبي طالب عليه السلام أخذ السوط ودخل عليه... فجعل يضربه والوليد يسبه!
وفي رواية البحار: ج 8 طبع قديم ص 302: (فأقبل الوليد يروغ من علي عليه السلام. فاجتذبه وضرب به الأرض وعلاه بالسوط).
وابن النابغة هو عمرو بن العاص، وأمه كانت بغيا من ذوات الرايات من طوائف مكة. فوقع عليها ستة من قريش في طهر واحد فولدت عمرا فاختصم القوم جميعا فيه فألحقته النابغة بالعاص بن وائل. راجع الغدير: ج 2 ص 121.
وأما أبو الأعور الأسلمي فهو عمرو بن سفيان كان ممن شهد معاهدة المنافقين ضد أمير المؤمنين عليه السلام بالمدينة قبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله. ولم يزل معاديا لأمير المؤمنين عليه السلام حتى صار من أمراء جند معاوية بصفين وكان على مقدمته.
وأما مروان بن الحكم فهو الذي أخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله مع أبيه من المدينة وطرده عنها، فنزل الطائف. ولما أدخل مروان - حين ولد - على النبي صلى الله عليه وآله قال: هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون. راجع الغدير:
ج 8 ص 244 و 260.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 341
--------------------------------------------------------------------------------
فأخبر بذلك. فوقف فيمن يليهم من أصحابه ثم قال لهم:
(انهضوا إليهم وعليكم السكينة وسيماء الصالحين ووقار الإسلام. إن أقربنا من الجهل بالله والجرأة عليه والاغترار لقوم رئيسهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر والمجلود الحد في الإسلام والطريد مروان، وهم هؤلاء يقومون ويشتمون. وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأوثان فالحمد لله قديما وحديثا على ما عاداني الفاسقون المنافقون. إن هذا الخطب لجليل، إن فساقا منافقين كانوا عندنا غير مؤتمنين وعلى الإسلام متخوفين، خدعوا شطر هذه الأمة وأشربوا قلوبهم حب الفتنة واستمالوا أهوائهم إلى الباطل. فقد نصبوا لنا الحرب وجدوا في إطفاء نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون).
ثم حرض عليهم وقال: (إن هؤلاء لا يزالون عن موقفهم هذا دون طعن دراك (1) تطير منه القلوب، وضرب يفلق الهام وتطيح منه الأنوف والعظام وتسقط منه المعاصم، وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد وتنشر حواجبهم على صدورهم والأذقان والنحور. أين أهل الدين، طلاب الأجر)؟
حملة محمد بن الحنفية بأربعة آلاف على عسكر معاوية
فثارت عليه عصابة نحو أربعة آلاف، فدعا محمد بن الحنفية فقال: (يا بني، امش نحو هذه الراية مشيا وئيدا على هينتك (2) حتى إذا شرعت في صدورهم الأسنة فامسك
____________
(1). قوله (دراك) أي متواصل.
(2). أي بتمهل وتأني.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 342
--------------------------------------------------------------------------------
حتى يأتيك رأيي)، ففعل.
وأعد علي عليه السلام مثلهم، فلما دنا محمد وأشرع الرماح في صدورهم أمر علي عليه السلام الذين كان أعدهم أن يحملوا معهم. فشدوا عليهم ونهض محمد ومن معه في وجوههم فأزالوهم عن مواقفهم وقتلوا عامتهم.
دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام
أبان عن سليم، قال: سألت المقداد عن علي عليه السلام، قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله - وذلك قبل أن يأمر نساءه بالحجاب - وهو يخدم رسول الله صلى الله عليه وآله ليس له خادم غيره، وكان لرسول الله صلى الله عليه وآله لحاف ليس له لحاف غيره، ومعه عائشة.
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله ينام بين علي وعائشة ليس عليهم لحاف غيره، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وآله من الليل يصلي حط بيده اللحاف من وسطه بينه وبين عائشة حتى يمس اللحاف الفراش الذي تحتهم، ويقوم رسول الله صلى الله عليه وآله فيصلي.
فأخذت عليا عليه السلام الحمى ليلة فأسهرته، فسهر رسول الله صلى الله عليه وآله لسهره، فبات ليله مرة يصلي ومرة يأتي عليا عليه السلام يسليه وينظر إليه حتى أصبح. فلما صلى بأصحابه الغداة قال:
(اللهم اشف عليا وعافه، فإنه قد أسهرني مما به من الوجع). فعوفي، فكأنما أنشط من عقال ما به من علة.
ما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله ربه لعلي عليه السلام
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أبشر يا أخي قال ذلك وأصحابه حوله يسمعون. فقال علي عليه السلام: بشرك الله بخير يا رسول الله وجعلني فداك. قال: إني لم أسأل الله الليلة شيئا إلا أعطانيه ولم أسأل لنفسي شيئا إلا سألت لك مثله. إني دعوت الله أن يواخي بيني وبينك ففعل، وسألته أن يجعلك ولي كل مؤمن بعدي ففعل، وسألته إذا ألبسني ثوب النبوة والرسالة أن يلبسك ثوب الوصية والشجاعة ففعل، وسألته أن يجعلك وصيي ووارثي
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 344
--------------------------------------------------------------------------------
وخازن علمي ففعل، وسألته أن يجعلك مني بمنزلة هارون من موسى وأن يشد بك أزري ويشركك في أمري ففعل، إلا أنه قال: (لا نبي بعدك) فرضيت، وسألته أن يزوجك ابنتي ويجعلك أبا ولدي ففعل.
فقال رجل لصاحبه: أرأيت ما سأل؟ فوالله لو سأل ربه أن ينزل عليه ملكا يعينه على عدوه أو يفتح له كنزا ينفقه هو وأصحابه - فإن به حاجة - كان خيرا له مما سأل وقال الآخر: والله لصاع من تمر خير مما سأل!
عن أبان قال: سمعت سليم بن قيس يقول: سمعت عبد الرحمن بن غنم الأزدي ثم الثمالي (2) ختن معاذ بن جبل - وكانت ابنته تحت معاذ بن جبل - وكان أفقه أهل الشام وأشدهم اجتهادا. قال:
مات معاذ بن جبل بالطاعون (3)، فشهدته يوم مات - وكان الناس متشاغلين بالطاعون - قال: فسمعته حين احتضر وليس في البيت معه غيري - وذلك في خلافة عمر بن
____________
(1). ينبغي أن نورد علي عليه السلام: (وما هم بخارجين من النار).
راجع عن تفصيل معاقدة أصحاب الصحيفة وأسمائهم: الحديث 4 من هذا الكتاب. وراجع عن سائر ما قاله أبو بكر وعمر عند مماتهم: البحار ج 8 طبع قديم ص 196 ب 18.
(2). عبد الرحمن بن غنم أسلم زمن رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يره ولم يفد إليه. ولزم معاذ بن جبل منذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن إلى أن مات معاذ في خلافة عمر. وكان يعرف بصاحب معاذ وكان أفقه أهل الشام وهو الذي فقه عامة التابعين من أهل الشام.
وكانت له جلالة وقدر وهو الذي عاتب أبا الدرداء وأبا هريرة بحمص لما انصرفا من عند علي عليه السلام رسولين لمعاوية. توفي عبد الرحمن سنة 78.
(3). وذلك في سنة 18 الهجرية.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 346
--------------------------------------------------------------------------------
الخطاب - يقول: ويل لي ويل لي ويل لي ويل لي فقلت في نفسي: أصحاب الطاعون يهذون ويتكلمون ويقولون الأعاجيب.
فقلت له: تهذي رحمك الله؟ فقال: لا.
فقلت: فلم تدعو بالويل؟ قال: لموالاتي عدو الله على ولي الله!
فقلت له: من هو؟ قال: لموالاتي عدو الله عتيقا وعمر على خليفة رسول الله ووصيه علي بن أبي طالب.
فقلت: إنك لتهجر؟ فقال: يا بن غنم، والله ما أهجر هذا رسول الله وعلي بن أبي طالب يقولان: يا معاذ بن جبل، أبشر بالنار أنت وأصحابك الذين قلتم: (إن مات رسول الله أو قتل زوينا الخلافة عن علي فلن يصل إليها)، أنت وعتيق وعمر وأبو عبيدة وسالم.
فقلت: يا معاذ، متى هذا؟ فقال: في حجة الوداع، قلنا: (نتظاهر على علي فلا ينال الخلافة ما حيينا). فلما قبض رسول الله قلت لهم: (أنا أكفيكم قومي الأنصار، فاكفوني قريشا). ثم دعوت على عهد رسول الله إلى الذي تعاهدنا عليه بشير بن سعيد وأسيد بن حضير (1)، فبايعاني على ذلك.
فقلت: يا معاذ، إنك لتهجر؟ قال: (ضع خدي بالأرض). فما زال يدعو بالويل والثبور حتى قضى.
كلام أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة عند الموت
قال سليم: قال لي ابن غنم: ما حدثت به أحدا قبلك قط - لا والله غير رجلين، فإني فزعت مما سمعت من معاذ. فحججت فلقيت الذي ولى موت أبي عبيدة بن الجراح
____________
(1). بشير بن سعيد كان رئيس الخزرج. قتل في إمارة أبي بكر باليمن. وأسيد بن حضير بن سماك بن عتيك الأوسي الأنصاري الأشهلي كان رئيس الأوس. مات سنة 20، وهو ممن حمل الحطب إلى بيت فاطمة عليها السلام لإضرامه. فأصحاب الصحيفة لما يئسوا من سعد بن عبادة رئيس الأنصار أجمع تعاهدوا مع هذين اللذين كان كل واحد منهما رئيسا لنصف قبائل الأنصار.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 347
--------------------------------------------------------------------------------
وسالم مولى أبي حذيفة (1)، فقلت: أو لم يقتل سالم يوم اليمامة؟ قال: بلى، ولكن احتملناه وبه رمق. قال: فحدثني كل واحد منهما بمثله سواء، لم يزد ولم ينقص أنهما قالا كما قال معاذ.
كلام أبي بكر عند الموت
قال أبان: قال سليم: فحدثت بحديث ابن غنم هذا كله محمد بن أبي بكر. فقال:
اكتم علي، وأشهد أن أبي عند موته قال مثل مقالتهم، فقالت عائشة: إن أبي ليهجر!
كلام عمر عند الموت
قال محمد: فلقيت عبد الله بن عمر في خلافة عثمان فحدثته بما قال أبي عند موته وأخذت عليه العهد والميثاق ليكتمن علي. فقال لي ابن عمر: اكتم علي، فوالله لقد قال أبي مثل مقالة أبيك ما زاد ولا نقص. (2) ثم تداركها عبد الله بن عمر وتخوف أن أخبر بذلك علي بن أبي طالب عليه السلام، لما قد علم من حبي له وانقطاعي إليه، فقال: إنما كان أبي يهجر!
توثيق أمير المؤمنين عليه السلام لهذا الحديث
فأتيت (3) أمير المؤمنين عليه السلام فحدثته بما سمعت من أبي وبما حدثنيه ابن عمر عن أبيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: قد حدثني بذلك عن أبيه وعن أبيك وعن أبي عبيدة وعن سالم وعن معاذ من هو أصدق منك ومن ابن عمر. فقلت: من هو ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: بعض من يحدثني. قال: فعلمت من عنى. فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين، إنما حسبت إنسانا حدثك، وما شهد أبي - وهو يقول هذا - غيري. (4)
____________
(1). مات أبو عبيدة في سنة 18 الهجرية في مدينة حمص بالشام، وقتل سالم في سنة 12 في وقعة اليمامة.
(2). راجع عن كلام عبد الله بن عمر عن أبيه: الحديث 11 من هذا الكتاب.
(3). هذا من كلام محمد بن أبي بكر.
(4). معناه: إني ظننت أولا أن الذي أخبرك عما جرى كان شخصا من الأشخاص، وحيث لم يكن عند قول أبي في ساعات موته أحدا غيري وأنت قلت (بعض من يحدثني) علمت أن الذي أخبرك لم يكن من البشر.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 348
--------------------------------------------------------------------------------
قال سليم: فقلت لعبد الرحمن بن غنم: مات معاذ بالطاعون، فبم مات أبو عبيدة بن الجراح؟ قال: بالدبيلة. (1)
2
بعض ما جرى عند موت أبي بكر
فلقيت محمد بن أبي بكر فقلت: هل شهد موت أبيك غير أخيك عبد الرحمن وعائشة وعمر؟ قال: لا. قلت: وهل سمعوا منه ما سمعت؟ قال: سمعوا منه طرفا فبكوا وقالوا: يهجر. فأما كل ما سمعت أنا فلا.
أبو بكر يشاهد رسول الله وعليا عليهما السلام عند الموت
قلت: والذي سمعوا منه ما هو؟ قال: دعا بالويل والثبور، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، ما لك تدعو بالويل والثبور؟ قال: هذا رسول الله وعلي معه يبشرني بالنار ومعه الصحيفة التي تعاهدنا عليها في الكعبة وهو يقول: (لعمري لقد وفيت بها فظاهرت على ولي الله أنت وأصحابك، فأبشر بالنار في أسفل السافلين).
فلما سمعها عمر خرج وهو يقول: إنه ليهجر. قال: لا والله ما أهجر، أين تذهب؟
قال عمر: أنت ثاني اثنين إذ هما في الغار. قال: الآن أيضا؟ أو لم أحدثك: أن محمدا - ولم يقل رسول الله - قال لي وأنا معه في الغار: (إني أرى سفينة جعفر وأصحابه تعوم في البحر). فقلت: أرنيها. فمسح وجهي فنظرت إليها فاستيقنت عند ذلك أنه
____________
(1). الدبيلة مصغرة: الطاعون وخراج ودمل يظهر في الجوف ويقتل صاحبه غالبا.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 349
--------------------------------------------------------------------------------
ساحر (1) فذكرت لك ذلك بالمدينة فاجتمع رأيي ورأيك على أنه ساحر؟
فقال عمر: (يا هؤلاء إن أباكم يهجر فاخبوه واكتموا ما تسمعون منه لا يشمت بكم أهل هذا البيت). ثم خرج وخرج أخي وخرجت عائشة ليتوضأوا للصلاة، فأسمعني من قوله ما لم يسمعوا.
إقرار أبي بكر بدخوله في تابوت جهنم
فقلت له لما خلوت به: يا أبه، قل: (لا إله إلا الله). قال: (لا أقولها أبدا ولا أقدر عليها حتى أرد النار فأدخل التابوت. فلما ذكر التابوت ظننت أنه يهجر. فقلت له: أي تابوت؟
فقال: تابوت من نار مقفل بقفل من نار، فيه اثنا عشر رجلا، أنا وصاحبي هذا. قلت:
عمر؟ قال: نعم، فمن أعني؟ وعشرة في جب في جهنم عليه صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع الصخرة.
لعن عمر على لسان أبي بكر
قلت: تهذي؟ قال: (لا والله ما أهذي. لعن الله ابن صهاك. هو الذي صدني عن الذكر بعد إذ جاءني فبئس القرين (2)، لعنه الله، الصق خدي بالأرض)، فألصقت خده بالأرض
____________
(1). روي في البحار: ج 8 ص 109 ح 10 بأسناده عن خالد بن نجيح، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، سمى رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر الصديق؟ قال: نعم. قلت: فكيف؟ قال: حين كان معه في الغار قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني لأرى سفينة جعفر بن أبي طالب تضطرب في البحر ضالة. قال: يا رسول الله، وإنك لتراها؟ قال: نعم. قال: فتقدر أن ترينيها؟ فقال: ادن مني. قال: فدنا منه فمسح على عينيه، ثم قال: أنظر.
فنظر أبو بكر فرأى السفينة وهي تضطرب في البحر. ثم نظر إلى قصور أهل المدينة. فقال في نفسه: الآن صدقت أنك ساحر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصديق أنت!
(2). قال الله تعالى في سورة الفرقان: الآيات 31 - 27: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جائني وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا).
وقال تعالى في سورة زخرف: الآيات 39 - 36: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون).
وروي في الكافي - كتاب الروضة - ص 27 في حديث طويل بأسناده عن الإمام الباقر عليه السلام: أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه، فقال:... ولئن تقمصها دوني الأشقيان ونازعاني فيما ليس لهما بحق وركباها ضلالة واعتقداها جهالة فلبئس ما عليه وردا ولبئس ما لأنفسهما مهدا، يتلاعنان في دورهما ويتبرء كل واحد منهما من صاحبه. يقول لقرينه إذا التقيا: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).
فيجيبه الأشقى على رثوثة: (يا ليتني لم أتخذك خليلا، لقد أضللتني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا). فأنا الذكر الذي عنه ضل والسبيل الذي عنه مال والإيمان الذي به كفر والقرآن الذي إياه هجر والدين الذي به كذب والصراط الذي عنه نكب. ولئن رتعا في الحطام المنصرم والغرور المنقطع وكانا منه على شفا حفرة من النار، لهما على شر ورود في أخيب وفود وألعن مورود، يتصارخان باللعنة ويتناعقان بالحسرة، ما لهما من راحة ولا عن عذابهما من مندوحة...
ثم دخل علي عمر وقد غمضته، فقال: هل قال بعدي شيئا؟ فعرفته ما قال. فقال عمر: يرحم الله خليفة رسول الله، اكتمه فإن هذا هذيان، وأنتم أهل بيت معروف لكم في مرضكم الهذيان فقالت عائشة: صدقت وقالوا لي جميعا: لا يسمعن أحد منكم من هذا شيئا فيشمت به ابن أبي طالب وأهل بيته.
قال سليم: فقلت لمحمد: من تراه حدث أمير المؤمنين عليه السلام عن هؤلاء الخمسة بما قالوا؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنه يراه في منامه كل ليلة، وحديثه إياه في المنام مثل حديثه إياه في الحياة واليقظة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي في نوم ولا يقظة ولا بأحد من أوصيائي إلى يوم القيامة).
قال سليم: فقلت لمحمد بن أبي بكر: من حدثك بهذا؟ قال: علي عليه السلام. فقلت: وأنا سمعته أيضا منه كما سمعت أنت.
فقلت لمحمد: فلعل ملكا من الملائكة حدثه؟ قال: أو ذاك؟ قلت: وهل تحدث الملائكة إلا الأنبياء؟ قال: أما تقرأ القرآن: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث)؟ (1) قال: قلت له: أمير المؤمنين عليه السلام محدث هو؟ قال: نعم، وكانت فاطمة عليها السلام محدثة ولم تكن نبية، ومريم كانت محدثة ولم تكن نبية، وأم موسى ما كانت نبية وكانت محدثة، وكانت سارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم تكن نبية.
توثيق أمير المؤمنين عليه السلام لهذا الحديث مرة ثانية
قال سليم: فلما قتل محمد بن أبي بكر بمصر ونعي عزيت به أمير المؤمنين عليه السلام (2) وخلوت به فحدثته بما حدثني به محمد بن أبي بكر وخبرته بما خبرني به
____________
(1). سورة الحج: الآية 52، وفي المصحف: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته...) وقد ورد روايات متضافرة أنه في قراءة أهل البيت عليهم السلام: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث...) كما في المتن، وروى ابن شهرآشوب في المناقب: ج 3 ص 336: أن ابن عباس أيضا قرأ: (ولا محدث) كما روى الصفار في بصائر الدرجات: ص 321 ح 8 عن قتادة أنه قرأ:
(ولا محدث).
راجع عن آية المحدث وبيان معناها بصائر الدرجات للصفار: ص 324 - 320، الكافي للكليني: ج 1 ص 176 و 177 و 270، الإختصاص للشيخ المفيد: ص 323، أمالي الطوسي: ج 2 ص 21.
وقد أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 5 ص 42 بحثا إضافيا حول آية المحدث ومعنى المحدث عند الشيعة وغيرهم، ونقل عن القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري: ج 6 ص 99 قراءة ابن عباس (... ولا نبي ولا محدث). وكذلك نقله عن أبي جعفر الطحاوي في مشكل الآثار: ج 2 ص 257 وعن القرطبي في تفسيره: ج 12 ص 79. راجع أيضا البحار: ج 26 ص 66 ب 2.
(2). ذكر في مجمع النورين للمرندي: ص 206 أن أمير المؤمنين عليه السلام جلس للتعزية بمحمد بن أبي بكر ثلاثة أيام لأنه ولده.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 352
--------------------------------------------------------------------------------
عبد الرحمن بن غنم، قال: صدق محمد رحمه الله، أما إنه شهيد حي يرزق. (1)
خصائص الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
يا سليم، إن أوصيائي أحد عشر رجلا من ولدي أئمة هداة مهديون كلهم محدثون.
قلت: يا أمير المؤمنين، ومن هم؟ قال: ابني هذا الحسن، ثم ابني هذا الحسين، ثم ابني هذا - وأخذ بيد ابن ابنه علي بن الحسين وهو رضيع - ثم ثمانية من ولده (2) واحدا بعد واحد. وهم الذين أقسم الله بهم فقال: (ووالد وما ولد) (3)، فالوالد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا، و (ما ولد) يعني هؤلاء الأحد عشر وصيا صلوات الله عليهم.
قلت: يا أمير المؤمنين، فيجتمع إمامان؟ قال: نعم، إلا أن واحدا صامت لا ينطق حتى يهلك الأول.
نقل لنا فقرة عن النسخة 68 من مخطوطات الكتاب،
نوردها هنا لتناسبها مع هذا الحديث:
موت أصحاب الصحيفة على الجاهلية
هذا ما خطه بيده أبان عن لسان سليم: (إن القوم - وهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وأنس وسعد وعبد الرحمن بن عوف - شهدوا على أنفسهم عند مماتهم: أنهم ماتوا على ما مات عليه آبائهم في الجاهلية...).
____________
(1). ليعلم أن محمد بن أبي بكر كان ربيب علي بن أبي طالب عليه السلام وخريجه وجاريا عنده مجرى أولاده، ورضيع الولاء والتشيع منذ زمن الصبا فنشأ عليه، فلم يكن يعرف أبا غير علي عليه السلام ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره.
(2). أي من ولد علي بن الحسين عليه السلام.
(3). سورة البلد: الآية 3.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 353
--------------------------------------------------------------------------------
(38)
افتراق الأمة إلى أهل حق وأهل باطل ومذبذبين
أبان عن سليم: قال: سمعت سلمان وأبا ذر والمقداد يقولون: إنا لقعود عند رسول الله صلى الله عليه وآله ما معنا غيرنا، إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين كلهم بدريون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ستفترق أمتي بعدي ثلاث فرق: فرقة حق لا يشوبه شئ من الباطل، مثلهم كمثل الذهب الأحمر كلما سبكته على النار ازداد جودة وطيبا، إمامهم أحد هذه الثلاثة، وفرقة أهل باطل لا يشوبه شئ من الحق، مثلهم كمثل خبث الحديد كلما فتنته بالنار ازداد خبثا ونتنا، إمامهم أحد هذه الثلاثة، وفرقة أخرى ضلال مذبذبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إمامهم أحد هذه الثلاثة.
فسألتهم عن الثلاثة، فقالوا: إمام الحق والهدى علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص إمام المذبذبين، وحرصت عليهم أن يسموا لي الثالث فأبوا علي وعرضوا لي (1) حتى عرفت من يعنون به.
قال سليم: فحدثت أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة بما حدثني به سلمان وأبو ذر والمقداد من قول رسول الله صلى الله عليه وآله حين رآى الثلاثة من أهل بدر من المهاجرين من قريش مقبلين، قال: (تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق) فسموك وسموا سعدا، والثالث لم يسموا إلا بالمعاريض حتى علمت من عنوا.
____________
(1). أي لم يصرحوا باسمه وذكروه بالتعريض.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 354
--------------------------------------------------------------------------------
فقال عليه السلام: لا تلمهم يا سليم، فإن الأمة قد أشربت قلوبهم حبه كما أشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل. يا سليم، أفي شك أنت فيه من هو؟ قال: قلت: بلى (1)، ولكن أحب أن تسميه لي وأسمعه منك فأزداد يقينا.
قال: هو عتيق.
أمر الولاية أشد خبرية من الذهب والفضة
إن هذا الأمر الذي عرفكم الله ومن به عليكم أشد خبرية من الذهب والفضة، وأقل الأمة الذين يعرفونه، ولقد ماتت أم أيمن وإنها لمن أهل الجنة وما كانت تعرف ما عرفك الله (2) ، فاحمد الله وخذ ما أعطاك الله وخصك به بشكر.
واعلم أن الله تعالى يعطي الدنيا البر والفاجر، وإن هذا الأمر الذي أنت فيه إنما يعطيه الله صفوته من خلقه. إن أمرنا لا يعرفه إلا ثلاثة من الخلق: ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان.
يا سليم، إن ملاك هذا الأمر الورع لأنه لا ينال ولايتنا إلا بالورع.
____________
(1). أي بلى أعرفه ولا أشك فيه.
(2). روي في البحار: ج 22 ص 265 ح 8 والكافي: ج 2 ص 405 عن أبي جعفر عليه السلام قال: أرأيت أم أيمن، فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 355
--------------------------------------------------------------------------------
(39)
غدير خم
أبو سعيد الخدري يروي بيعة الغدير
أبان بن أبي عياش عن سليم، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول:
إن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا الناس بغدير خم، فأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقم، وكان ذلك يوم الخميس. ثم دعا الناس إليه وأخذ بضبع علي بن أبي طالب عليه السلام فرفعها حتى نظرت إلى بياض إبط رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله).
قال أبو سعيد: فلم ينزل عن المنبر حتى نزلت هذه الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبولاية علي من بعدي.
شعر حسان في غدير خم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال حسان بن ثابت: يا رسول الله، ائذن لي لأقول في علي عليه السلام أبياتا. فقال صلى الله عليه وآله: قل على بركة الله.
فقال حسان: يا مشيخة قريش، اسمعوا قولي بشهادة من رسول الله. ثم أنشأ يقول:
____________
(1). سورة المائدة: الآية 3.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 356
--------------------------------------------------------------------------------
ألم تعلموا أن النبي محمدا لدى دوح خم حين قام مناديا
وقد جاء جبريل من عند ربه بأنك معصوم فلا تك وانيا
وبلغهم ما أنزل الله ربهم وإن أنت لم تفعل وحاذرت باغيا
عليك فما بلغتهم عن إلههم رسالته إن كنت تخشى الأعاديا
فقام به إذ ذاك رافع كفه بيمنى يديه معلن الصوت عاليا
فقال لهم: من كنت مولاه منكم وكان لقولي حافظا ليس ناسيا
فمولاه من بعدي علي وإنني به لكم دون البرية راضيا
فيا رب من والى عليا فواله وكن للذي عادى عليا معاديا
ويا رب فانصر ناصريه لنصرهم إمام الهدى كالبدر يجلو الدياجيا
ويا رب فاخذل خاذليه وكن لهم إذا وقفوا يوم الحساب مكافيا
نقل لنا فقرة عن النسخة 68 من مخطوطات الكتاب،
نوردها هنا لتناسبها مع هذا الحديث:
اعتراض أبي بكر وعمر في الغدير
قام رسول الله صلى الله عليه وآله في وقت الظهيرة وأمر بنصب خيمة وأمر عليا عليه السلام أن يدخل فيها، وأول من أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله هما أبو بكر وعمر. فلم يقوما إلا بعد ما سألا رسول الله صلى الله عليه وآله: هل من أمر الله هذه البيعة؟ فأجابهما: نعم، من أمر الله جل وعلا، واعلما أن من نقض هذه البيعة كافر ومن لم يطع عليا كافر، فإن قول علي قولي وأمره أمري. فمن خالف قول علي وأمره فقد خالفني.
وبعد ما أكد عليهم هذا الكلام أمرهم بالإسراع في البيعة. فقاما ودخلا على علي عليه السلام وبايعاه بإمرة المؤمنين. وقال عمر عند البيعة: بخ بخ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله سلمان وأبا ذر بالبيعة، فقاما ولم يقولا شيئا....
أبان عن سليم بن قيس قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وآله عشر خصال ما يسرني بإحديهن ما طلعت عليه الشمس وما غربت. فقيل له: بينها لنا يا أمير المؤمنين.
فقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي، أنت الأخ وأنت الخليل وأنت الوصي وأنت الوزير، وأنت الخليفة في الأهل والمال وفي كل غيبة أغيبها. ومنزلتك منى كمنزلتي من ربي، وأنت الخليفة في أمتي. وليك وليي وعدوك عدوي، وأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين من بعدي.
أثر حب أهل البيت عليهم السلام في ثبات الإيمان
ثم أقبل علي عليه السلام على أصحابه فقال: يا معشر الصحابة، والله ما تقدمت على أمر إلا ما عهد إلي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله. فطوبى لمن رسخ حبنا أهل البيت في قلبه. ليكون الإيمان أثبت في قلبه من جبل أحد في مكانه، ومن لم تصر مودتنا في قلبه إنماث (1) الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء.
والله ثم والله، ما ذكر في العالمين ذكر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مني، ولا صلى القبلتين كصلاتي. صليت صبيا ولم أرهق حلما.
____________
(1). أي ذاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 358
--------------------------------------------------------------------------------
وهذه فاطمة بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله تحتي، هي في زمانها كمريم بنت عمران في زمانها.
وأقول لكم الثالثة: إن الحسن والحسين سبطا هذه الأمة، وهما من محمد كمكان العينين من الرأس، وأما أنا فكمكان اليدين من البدن، وأما فاطمة فكمكان القلب من الجسد.
مثلنا مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.
كلمة رسول الله صلى الله عليه وآله الأخيرة عن الشيعة
أبان عن سليم، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله يوم توفي وقد أسندته إلى صدري وإن رأسه عند أذني، وقد أصغت المرأتان (1) لتسمعا الكلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم سد مسامعهما.
ثم قال لي: يا علي، أرأيت قول الله تبارك وتعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) (2)، أتدري من هم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنهم شيعتك وأنصارك، وموعدي وموعدهم الحوض يوم القيامة إذا جثت الأمم على ركبها وبدا لله تبارك وتعالى في عرض خلقه ودعا الناس إلى ما لا بد لهم منه.
فيدعوك وشيعتك، فتجيئون غرا محجلين شباعا مرويين.
يا علي، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) (3)، فهم اليهود وبنو أمية وشيعتهم، يبعثون يوم القيامة أشقياء جياعا عطاشى مسودة وجوههم.
____________
(1). أي عائشة وحفصة.
(2). سورة البينة: الآية 7.
(3). سورة البينة: الآية 6.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 360
--------------------------------------------------------------------------------
يوجد في آخر نسخ (ب) و (د) من كتاب سليم هذه الزيادة:
الأمر بحفظ الكتاب حتى ظهور الحق
صن هذا الكتاب يا جابر (1)، فالملك لبني العباس حتى يختم بعباد الله ذو العين الآخرة (2) ويظهر ناد (3) بالحجاز ويخرب جامع الكوفة وما شيده الثاني بالفرات. وإذا هلك ملك الترك تميد (4) لسان الشام ويكثر الملوك ويظهر الحق والحمد لله.
____________
(1). لعل هذا خطاب من الإمام المعصوم عليه السلام إلى جابر بن عبد الله أو جابر بن يزيد الجعفي يأمره بالاحتفاظ بكتاب سليم. هذا وإن بقية الكلام إخبا‘ عن بعض الملاحم بصورة مجملة.
(2). روى الشيخ الطوسي في الغيبة: ص 285 عن كعب الأحبار أنه قال: إذا ملك رجل من بني العباس يقال له (عبد الله)، وهو ذو العين، بها افتتحوا وبها يختمون، وهو مفتاح البلاء وسيف الفناء.
(3). (ب): نار.
(4). أي تضطرب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 361
--------------------------------------------------------------------------------
(42)
1
احتجاجات عبد الله بن جعفر على معاوية
أبان عن سليم، قال: حدثني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: كنت عند معاوية ومعنا الحسن والحسين وعنده عبد الله بن العباس والفضل بن العباس.
فالتفت إلي معاوية فقال: يا عبد الله بن جعفر، ما أشد تعظيمك للحسن والحسين والله ما هما بخير منك ولا أبوهما خير من أبيك، ولولا أن فاطمة بنت رسول الله أمهما لقلت: ما أمك أسماء بنت عميس دونها!
فغضبت من مقالته وأخذني ما لم أملك معه نفسي، فقلت: والله إنك لقليل المعرفة بهما وبأبيهما وبأمهما. بل والله لهما خير مني ولأبوهما خير من أبي ولأمهما خير من أمي. يا معاوية، إنك لغافل عما سمعته أنا من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهما وفي أبيهما وفي أمهما، قد حفظته ووعيته ورويته.
قال معاوية: هات ما سمعت - وفي مجلسه الحسن والحسين وعبد الله بن عباس والفضل بن عباس وابن أبي لهب - فوالله ما أنت بكذاب ولا متهم. فقلت: إنه أعظم مما في نفسك. قال: وإن كان أعظم من أحد وحراء جميعا، فلست أبالي إذا لم يكن في المجلس أحد من أهل الشام وإذ قتل الله صاحبك وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله ومعدنه فحدثنا فإنا لا نبالي ما قلتم ولا ما ادعيتم.
قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله - وقد سئل عن هذه الآية: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) (1) - فقال: (إني رأيت اثني عشر رجلا من أئمة الضلالة يصعدون منبري وينزلون، يردون أمتي على أدبارهم القهقرى.
فيهم رجلان من حيين من قريش مختلفين تيم وعدي، وثلاثة من بني أمية، وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص). وسمعته يقول: (إن بني أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلا جعلوا كتاب الله دخلا وعباد الله خولا ومال الله دولا).
نص رسول الله صلى الله عليه وآله على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
يا معاوية، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول - وهو على المنبر وأنا بين يديه وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام - وهو يقول: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)؟ فقلنا: بلى، يا رسول الله. قال: (أليس أزواجي أمهاتكم)؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه - وضرب بيديه على منكب علي عليه السلام - اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
(أيها الناس، أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ليس لهم معي أمر. وعلي من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ليس لهم معه أمر. ثم ابني الحسن من بعد أبيه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر. ثم ابني الحسين من بعد أخيه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر).
إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله عن شهادة نفسه والأئمة عليهم السلام
ثم عاد صلى الله عليه وآله فقال: (أيها الناس، إذا أنا استشهدت فعلي أولى بكم من أنفسكم، فإذا استشهد علي فابني الحسن أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، فإذا استشهد ابني الحسن
____________
(1). سورة الأسراء: الآية 60.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 363
--------------------------------------------------------------------------------
فابني الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، فإذا استشهد ابني الحسين فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر). ثم أقبل على علي عليه السلام فقال:
(يا علي، إنك ستدركه فاقرأه عني السلام. فإذا استشهد فابنه محمد أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، وستدركه أنت يا حسين فاقرأه مني السلام. ثم يكون في عقب محمد رجال واحد بعد واحد وليس لهم معهم أمر). ثم أعادها ثلاثا ثم قال: (وليس منهم أحد إلا وهو أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس معه أمر، كلهم هادون مهتدون تسعة من ولد الحسين).
فقام إليه علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يبكي، فقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، أتقتل؟
قال: (نعم، أهلك شهيدا بالسم، وتقتل أنت بالسيف وتخضب لحيتك من دم رأسك، ويقتل ابني الحسن بالسم، ويقتل ابني الحسين بالسيف، يقتله طاغي بن طاغي، دعي بن دعي، منافق بن منافق.
هلاك أبي بكر وعمر وعثمان بتقرير معاوية
فقال معاوية: يا بن جعفر، لقد تكلمت بعظيم ولئن كان ما تقول حقا لقد هلكت وهلك الثلاثة قبلي وجميع من تولاهم من هذه الأمة، ولقد هلكت أمة محمد وأصحاب محمد من المهاجرين والأنصار غيركم أهل البيت وأوليائكم وأنصاركم.
فقلت: والله إن الذي قلت حق سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال معاوية: يا حسن ويا حسين ويا بن عباس، ما يقول ابن جعفر؟ فقال ابن عباس: إن لا تؤمن بالذي قال فأرسل إلى الذين سماهم فاسألهم عن ذلك. فأرسل معاوية إلى عمر بن أبي سلمة وإلى أسامة بن زيد فسألهما، فشهدا أن الذي قال عبد الله بن جعفر قد سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله كما سمعه. وكان هذا بالمدينة أول سنة جمعت الأمة على معاوية.
قال سليم: وسمعت ابن جعفر يحدث بهذا الحديث في زمان عمر بن الخطاب.
الحجج المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام
فقال معاوية: يا بن جعفر، قد سمعناه في الحسن والحسين وفي أبيهما، فما سمعت في أمهما؟ - ومعاوية كالمستهزء والمنكر -.
فقلت: بلى، قد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (ليس في جنة عدن منزل أشرف ولا أفضل ولا أقرب إلى عرش ربي من منزلي. نحن فيه أربعة عشر إنسانا، أنا وأخي علي وهو خيرهم وأحبهم إلي، وفاطمة وهي سيدة نساء أهل الجنة، والحسن والحسين وتسعة أئمة من ولد الحسين. فنحن فيه أربعة عشر إنسانا في منزل واحد أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا، هداة مهديين.
أنا المبلغ عن الله وهم المبلغون عني وعن الله عز وجل. وهم حجج الله تبارك وتعالى على خلقه وشهدائه في أرضه وخزانه على علمه ومعادن حكمه. من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله. لا تبقى الأرض طرفة عين إلا ببقائهم، ولا تصلح الأرض إلا بهم. يخبرون الأمة بأمر دينهم وبحلالهم وحرامهم. يدلونهم على رضى ربهم وينهونهم عن سخطه بأمر واحد ونهي واحد، ليس فيهم اختلاف ولا فرقة ولا تنازع.
يأخذ آخرهم عن أولهم إملائي وخط أخي علي بيده، يتوارثونه إلى يوم القيامة. أهل الأرض كلهم في غمرة وغفلة وتيه وحيرة غيرهم وغير شيعتهم وأوليائهم. لا يحتاجون إلى أحد من الأمة في شئ من أمر دينهم، والأمة تحتاج إليهم. وهم الذين عنى الله في كتابه (1) وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله فقال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). (2)
____________
(1). (ج): عنى الله في كتابه. فلم يدع آية نزلت فيهم من القرآن إلا ذكرها.
(2). سورة النساء: الآية 59.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 365
--------------------------------------------------------------------------------
قال: فأقبل معاوية على الحسن والحسين وابن عباس والفضل بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فقال: كلكم على ما قال ابن جعفر؟ فقالوا: نعم. قال:
يا بني عبد المطلب، إنكم لتدعون أمرا عظيما وتحتجون بحجج قوية إن كانت حقا.
وإنكم لتضمرون على أمر تسرونه والناس عنه في غفلة عمياء. ولئن كان ما تقولون حقا لقد هلكت الأمة وارتدت عن دينها وتركت عهد نبينا غيركم أهل البيت ومن قال بقولكم فأولئك في الناس قليل.
2
احتجاجات ابن عباس على معاوية
فأقبل ابن عباس على معاوية فقال: قال الله عز وجل في كتابه: (وقليل من عبادي الشكور) (1)، ويقول: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (2)، ويقول: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) (3)، ويقول لنوح: (وما آمن معه إلا قليل). (4)
وتعجب من ذلك يا معاوية؟ وأعجب من أمرنا أمر بني إسرائيل. إن السحرة قالوا لفرعون: (اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا برب العالمين). (5)
فآمنوا بموسى وصدقوه واتبعوه. فسار بهم وبمن تبعه من بني إسرائيل فأقطعهم البحر
____________
(1). سورة سبأ: الآية 13.
(2). سورة يوسف: الآية 103.
(3). سورة ص: الآية 24.
(4). سورة هود: الآية 40. وقوله (يقول لنوح) أي قال لقصة نوح مع قومه لا أن الخطاب إلى نوح.
(5). سورة طه: الآية 72.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 366
--------------------------------------------------------------------------------
وأراهم الأعاجيب وهم يصدقون به وبالتوراة يقرون له بدينه، فمر بهم على قوم يعبدون أصناما لهم، فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) (1)، ثم اتخذوا العجل فعكفوا عليه جميعا غير هارون وأهل بيته، وقال لهم السامري: (هذا إلهكم وإله موسى) (2)، ثم قال لهم بعد ذلك: (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم). (3) فكان من جوابهم ما قص الله في كتابه: (إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) (4)، حتى قال موسى: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) (5)، ثم قال: (فلا تأس على القوم الفاسقين). (6)
فاحتذت هذه الأمة ذلك المثال سواء. وقد كانت لهم فضائل وسوابق مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومنازل منه قريبة، ومقرين بدين محمد والقرآن حتى فارقهم نبيهم فاختلفوا وتفرقوا وتحاسدوا وخالفوا إمامهم ووليهم حتى لم يبق منهم على ما عاهدوا عليه نبيهم غير صاحبنا الذي هو من نبينا بمنزلة هارون من موسى ونفر قليل لقوا الله عز وجل على دينهم وإيمانهم، ورجع الآخرون القهقرى على أدبارهم، كما فعل أصحاب موسى عليه السلام باتخاذهم العجل وعبادتهم إياه وزعمهم أنه ربهم وإجماعهم عليه غير هارون وولده ونفر قليل من أهل بيته.
ونبينا صلى الله عليه وآله قد نصب لأمته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغدير خم وفي غير موطن. واحتج عليهم به وأمرهم بطاعته، وأخبرهم أنه منه بمنزلة هارون من موسى، وأنه ولي كل مؤمن بعده، وأن كل من كان هو وليه فعلي وليه ومن كان هو أولى به من نفسه فعلي
____________
(1). سورة الأعراف: الآية 138.
(2). سورة طه: الآية 88.
(3). سورة المائدة: الآية 21.
(4). سورة المائدة: الآية 22.
(5). سورة المائدة: الآية 25.
(6). سورة المائدة: الآية 26.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 367
--------------------------------------------------------------------------------
أولى به من نفسه، وأنه خليفته فيهم ووصيه، وأن من أطاعه أطاع الله ومن عصاه عصى الله ومن والاه والى الله ومن عاداه عادى الله. فأنكروه وجهلوه وتولوا غيره.
رسول الله صلى الله عليه وآله لم يرض بانتخاب الناس في الخلافة
يا معاوية (1)، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين بعث إلى مؤتة أمر عليهم جعفر بن أبي طالب، ثم قال: (إن هلك جعفر بن أبي طالب فزيد بن حارثة، فإن هلك زيد فعبد الله بن رواحة)، ولم يرض لهم أن يختاروا لأنفسهم، أفكان يترك أمته لا يبين لهم خليفته فيهم؟ بلى والله، ما تركهم في عمياء ولا شبهة، بل ركب القوم ما ركبوا بعد البينة وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله فهلكوا وهلك من شايعهم وضلوا وضل من تابعهم، فبعدا للقوم الظالمين.
فقال معاوية: يا بن عباس، إنك لتتفوه بعظيم، والاجتماع عندنا خير من الاختلاف، وقد علمت أن الأمة لم تستقم على صاحبك.
____________
(1). من هنا إلى قوله: (شهادة أن لا إله إلا الله...) في (ج) هكذا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله جعفرا إلى مؤتة فقال:
(وليت عليكم جعفرا، إن هلك جعفر بن أبي طالب فزيد بن حارثة، فإن هلك زيد فعبد الله بن رواحة)، فقتلوا جميعا. ثم يترك أمته لا يبين لهم من خلفائه من بعده؟ يأمرهم باتباع خيرهم وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ويتركهم يختارون لأنفسهم؟ إذا لكان رأيهم لأنفسهم أهدى لهم وأرشد من رأيه واختياره لهم وما ركب القوم ما ركبوا إلا بعد البينة والحجة، وما تركهم رسول الله صلى الله عليه وآله في عمياء ولا شبهة. وإنما هلك أولئك الأربعة الذين تظاهروا على علي عليه السلام وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (لم يكن الله ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة)، فشبهوا على الناس بشهادتهم وكذبهم.
فقال معاوية: ما تقول يا حسن؟ فقال عليه السلام: يا معاوية، قد سمعت ما قال ابن جعفر وما قال ابن عباس.
والعجب منك يا معاوية ومن قلة حيائك وجرأتك على الله أن تقول: (قد قتل الله طاغيتكم ورد الأمر إلى معدنه) فأنت يا معاوية معدن الخلافة دوننا؟ الويل لك ولثلاثة قبلك الذين أجلسوك هذا المجلس وسنوا لك هذه السنة. لأقولن لك قولا ما أريد بذلك إلا أن يسمعه هؤلاء الذين حولي: إن الناس قد اجتمعوا على أشياء كثيرة وليس بينهم فيها اختلاف. اجتمعوا على شهادة أن لا إله إلا الله....
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 368
--------------------------------------------------------------------------------
فقال ابن عباس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (ما اختلف أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها)، وإن هذه الأمة اجتمعت على أمور كثيرة ليس بينها اختلاف ولا منازعة ولا فرقة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصوم شهر رمضان وحج البيت وأشياء كثيرة من طاعة الله، واجتمعوا على تحريم الخمر والزنا والسرقة وقطع الأرحام والكذب والخيانة وأشياء كثيرة من معاصي الله. واختلفت في شيئين: أحدهما اقتتلت عليه وتفرقت فيه وصارت فرقا يلعن بعضها بعضا ويبرء بعضها من بعض، والثاني لم تقتتل عليه ولم تتفرق فيه ووسع بعضهم فيه لبعض وهو كتاب الله وسنة نبيه، وما يحدث زعمت أنه ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه. وأما الذي اختلفت فيه وتفرقت وتبرأت بعضها من بعض فالملك والخلافة زعمت أنها أحق بهما من أهل بيت نبي الله صلى الله عليه وآله.
فمن أخذ بما ليس فيه بين أهل القبلة اختلاف ورد علم ما اختلفوا فيه إلى الله فقد سلم ونجا من النار ولم يسأله الله عما أشكل عليه من الخصلتين اللتين اختلفت فيهما. ومن وفقه الله ومن عليه ونور قلبه وعرفه ولاة الأمر ومعدن العلم أين هو، فعرف ذلك كان سعيدا ولله وليا. وكان نبي الله صلى الله عليه وآله يقول: (رحم الله عبدا قال حقا فغنم، أو سكت فسلم).
جميع العلم عند أهل البيت عليهم السلام
فالأئمة من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومنزل الكتاب ومهبط الوحي ومختلف الملائكة، لا تصلح إلا فيها لأن الله خصها وجعلها أهلا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله.
فالعلم فيهم وهم أهله، وهو عندهم كله بحذافيره، باطنه وظاهره ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه.
يا معاوية، إن عمر بن الخطاب أرسلني في إمارته (1) إلى علي بن أبي طالب عليه السلام: (إني أريد أن أكتب القرآن في مصحف، فابعث إلينا ما كتبت من القرآن).
فقال عليه السلام: تضرب والله عنقي قبل أن تصل إليه. فقلت: ولم؟ قال عليه السلام (2): لأن الله يقول:
(لا يمسه إلا المطهرون) (3)، يعني لا يناله كله إلا المطهرون. إيانا عنى، نحن الذين أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا. وقال: (وأورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (4)، فنحن الذين اصطفانا الله من عباده ونحن صفوة الله ولنا ضربت الأمثال وعلينا نزل الوحي.
قال: فغضب عمر وقال: إن ابن أبي طالب يحسب أنه ليس عند أحد علم غيره فمن كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتنا به فكان إذا جاء رجل بقرآن فقرأه ومعه آخر كتبه، وإلا لم يكتبه.
فمن قال - يا معاوية - إنه ضاع من القرآن شئ فقد كذب، هو عند أهله مجموع محفوظ.
أول إعلان رسمي عن إعمال الرأي في دين الله
ثم أمر عمر قضاته وولاته فقال: (اجتهدوا رأيكم واتبعوا ما ترون أنه الحق) فلم يزل هو وبعض ولاته وقد وقعوا في عظيمة، فكان علي بن أبي طالب عليه السلام يخبرهم بما يحتج به عليهم. وكان عماله وقضاته يحكمون في شئ واحد بقضايا مختلفة فيجيزها لهم، لأن الله لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب.
____________
(1). راجع عن طلب عمر قرآن أمير المؤمنين عليه السلام: الحديث 4 من هذا الكتاب.
(2). زاد في الإحتجاج هنا: قال: لأن الله تعالى قال: (والراسخون في العلم)، إيانا عنى ولم يعنك ولا أصحابك.