علمية وعملية لإيقاضها وتحريكها: مثل الإقدام على الأمور العظيمة المخيفة،
والذهاب إلى ميادين الحرب، والجهاد ضد أعداء الله. فقد نُقل عن بعض
المتفلسفين أنه كان يرتاد الأماكن المخوفة ويلبث فيها قليلاً ويلقى بنفسه في
المخاطر العظيمة، ويركب البحر في أوج تلاطم أمواجه، وذلك لكي يخلص
نفسه من الشعور بالخوف ويتحرر من الضعف والكسل. وعلى أي حال، فإن
غريزة الغضب موجودة لدى كل إنسان ومودعة في باطنه، ولكنها في بعضهم
خامدة منكمشة، كالنار تحت الرماد. فالواجب على من يلحظ في نفسه حال
الخمول والضعف وانعدام الغيرة أن يعالج الحالة بضدها، ويخرج نفسه مما هي
فيه إلى حال من الاعتدال. وهذه الحال المحاولة من الشجاعة التي تعدّ من
الملكات الفاضلة والصفات الحسنة، مما سوف ترد الإِشارة إليه. فصل في
بيـان ذم الإفراط في الغضـب إذا كانت حال التفريط ونقص الاعتدال من
الصفات المذمومة التي تؤدي إل ى كثير من المفاسد التي ذكرنا بعضها، كذلك
هي حال الإِفراط وتجاوز حد الاعتدال، فهي أيضاً تعدّ من الصفات المذمومة
التي تقود إلى مفاسد كثيرة. ويكفي لتبيان مفاسد هذه الحال ذكر هذا الحديث
الشريف الوارد في الكافي. عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال، قال رسول اللّه
صلّى اللّه عل يه وآله وسلم "الغَضَبُ يُفْسِدُ الإِيمانَ كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ"(
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 1).
[162] فقد يصل الغضب بالإنسان إلى حد الارتداد عن دين اللّه، وإطفاء
نور الإيمان، بحيث أن ظلام الغضب وناره تحرق الحقائق الحقّة. بل قد يصل
الأمر إلى الكفر الجحودي الذي نتيجته الهلاك الأبدي، ثم ينتبه على نفسه بعد
فوات الأوان وحين لا ينفع الندم ويمكن أن تكون نار الغضب، جمرة الشيطان،
التي وردت في كلام الإمام الباقر عليه السلام "إنَّ هـذَا الغـَضَب جَمْرَةٌ مِن
َ الشَّيْطانِ تُوقـَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ" ( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب
الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 12) صورتها في ذلك العالم، صورة نار
الغضب الإلهي. كما ورد عنه عيه السلام فـي حديث شريف رواه
صاحب"الكافي": "مَكْتُوبٌ فِي الـتَّوْراةِ فيما ناجَى اللهُ عزّ وجلّ مُوسى: يا
مُوسى أَمْسِكْ غـَضَبَكَ عَمَّنْ مَلَّكْتُكَ عَلَيْهِ أكُفَّ عَنْكَ غـَضَبِي"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 7 ). ولا شك في
أنه ليست هناك نار أشد من نار غضب اللّه عذاباً. وقد جاء في كتب الحديث،
عن أبي عبدالله عليه السلام قال:"قَالَ الحَواريّـون لِعيسى عليه السّلام: أَيُّ
الأَشْياءِ أَ شَدّ؟ قٌالَ أَشَدُّ الأَشْياءِ غَضَبُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالُوا بِمَ نَتقي غَضَبُ
اللّهِ؟ قالَ بَأْن لا تَغْضِبُوا"(وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس،
ص289 ). وهكذا يتضح أن غضب الله من أصعب الأمور وأشدها، وأن نار
غضبه أشد إحراقـاً، وصورة الغضب للإنسان في هذه الدنيا هي صورة نار
غضب الله في العالم الآخر. وكما أن الغضب يظهر من القلب، فلعل نار
الغضب الإلهي الذي يكون مبدأه الغضب وسائر الرذائل القلبية الأخـرى،
تنبعث من باطن القلب، وتسري إلى الظاهر، وتخرج ألسنة نيرانها المؤلمة من
الأعضاء الظاهرية مثل العين والإذن واللسان وغيرها بل إن هذه الأعضاء تكون
أبوابا تنفتح على جهنم، فتحيط نار جهنم بالأعمال والآثار الجسمية التي في
ظاهر جسد الإنسان، لتتجه إلى باطنه، فيقع الإنسان في العذاب والشدّة بين
جهنمين: أحدهما يبرز من باطن القلب ويدخل ألسنة لهيبها بواسطة أم الدماغ
إلى عالم الجسم. وثانيهما صورة قبائح الأعمال وتجسم الأفعال، حيث تتصاعد
نيرانها من الظاهر إلى الباطن، والله [163] سبحانه وتعالى يعلم مدى هذا
الضغط؟ وهذا العذاب؟ إنه غير الاحتراق وغير الانصهار. أتظن أن إحاطة
جهنم تشبه هذه الإحاطات التي تتصوره؟ إن الإحاطة هنا إنما تكون بظاهر
السطح فقط. أما الإحاطة هناك فتكون بالظاهر وبالباطن، بالسطوح
وبالأعماق. وإذا أصبحت صورة الغضب عند الإنسان صفة راسخة لا سمح الله
- وصورة الغضب آخر مراحل الرسوخ - كانت المصيبة أعظم، وأصبح
للإنسان في البرزخ ويوم القيامة صورة السباع، السباع التي لا شبيه لها في
الدنيا. وذلك لأن سَبُعية الإنسان، وهو في حالة الغضب، لا يمكن مقارنتها
بسبعية أي حيوان آخر من الحيوانات. وكما أن الإنسان في حالة كماله
أعجوبة الدهر ولن تجد له نظيراً، كذلك في حال نقصه واتصافه بالرذائل
وبالصفات الخسيسة لن تجد بين الكائنات من يقف معه في ميزان المقارنة، لقد
وصفهم الله بقوله:{ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}(الفرقان44).
ووصـف قلوبهـم فقال:{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَْ أَشَدُّ قَسْوَةً }( البقرة /74 ).
هذا الذي مرّ بك كان جانباً من مفاسد نار الغضب الحارقة، إذا لم يستتبع
الغضب معاص أخرى، بل بقى ناراً داخلية مظلمة تتعقدّ في الباطن وتنجس
وتختنق فتطفئ نور الإيمان، كالنار المشتعلة التي يخالطها الدخان الأسود الذي
يغشى النور فيطفئه. ولكن ذلك أمر بعيد، بل قد يكون من الأمور المستحيلة أن
يكون الإِنسان في حال غضب شديد مستعرة ناره، ثم يمتنع عن إرتكاب معاص
وموبقات مهلكة أخرى. فكثيراً ما يؤدي الغضب المستعر، وهذه الجمرة
الشيطانية الملعونة، في مدة دقيقة واحدة إلى إلقاء الإِنسان في هاوية الهلاك
والعدم، كأن يسبّ الأنبياء والمقدسات - والعياذ بالله - أو يقتل نفساً بريئة
مظلومة، أو يهتك الحرمات، فيخسر الدنيا والآخرة، كما جاء في الكافي عن
أبي عبدالله عليه السلام في حديث له: كان أبي يقول:"أَيُّ شَيْءٍ أشَــدُّ مِنَ
الغَـضَبِ؟ إِنَّ الـرَّجُـلَ لَيَـغْـضَبَ فَيَـقْـتُلَ النَّـفْـسَ الَّـتي حَرَّمَ
اللهُ وَيَــقْـذِفُ المُحْـصَنَةَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب الغضب،ح 4 ). [164] لقد وقعت أفظع الفتن وارتكبت
أفجع الأعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة. وعلى الإِنسان، وهو سليم
النفس، أن يكون على حذر كثير من حال غضبه. وإذا كان يعرف من نفسه
حدوث حالات الغضب، عليه، في أثناء هدوئه النفسي، أن يعالجها وأن يفكر
في مبادئها وفي مفاسدها عند اشتدادها وآثارها ونتائجها في النهاية، لعله يصل
إلى معرفة طريق لإنقاذ نفسه. فليفكر في أن هذه الغريزة التي وهبها الله تعالى
إياه لحفظ نظام الظاهر والباطن وعالم الغيب والشهادة، إذا استخدمها لغير
تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضد المقاصد الإِلهية، فما مدى
خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقها؟ وكم هو ظلوم جهول؟ لأنه لم يَصُنْ
أمانة الحق تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات. إن إِمرءً هذا شأنه
لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهي. ثم إن عليه إن يفكر في المفاسد العملية
والأخلاقية التي تتولد من الغضب وسوء الخلق. إذ كل مفسدة من هذه المفاسد
يمكن أن تكون سبباً في ابتلاء الإِنسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدنيا،
وبالعذاب والعقاب في الآخرة. أما المفاسد الأخلاقية التي تتولد من هذا الخلق
فهي الحقد على عباد الله، وقد ينتهي به الأمر إلى الحقد على الأنبياء والأولياء،
بل وحتى على ذات الله المقدسة الواجبة الوجود ووليّ النعم، وشدّة هذا القبح
وهذه المفسدة واضح للجميع، نعوذ بالله تعالى من شر نفس عنيدة إذا ما انفصم
وثاقها للحظة واحدة، جرّت الإِنسان إلى تراب الذل وقادته إلى أرض الهلاك
الأبدي. وكذلك الحسد الذي مرّت بك بعض مفاسده وشروره في شرح
الحديث الخامس. وغير ذلك من المفاسد الأخرى التي تتولد من الغضب. وأما
مفاسد الغضب المؤثرة في الأعمال فإنها ليست بمحصورة، فلعله يتفوه بما فيه
الارتداد أو سب الأنبياء والأولياء - والعياذ بالله - وهتك الحرمات الإِلهية،
وخرق النواميس المقدسة، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على العوائل المحترمة بما
يصمها بالعار والذل ويقضي على النظام العائلي بكشف الأسرار وهتك
الأستار. وغير ذلك من المفاسد التي لا تحصى والتي يبتلي بها الإنسان لدى
فورة الغضب الباعثة على نسف الإيمان وهدم البيوت. [165] لذلك يمكن أن
توصف هذه السجية بأنها أم الأمراض النفسية ومفتاح كل شر. و يقابلها كظم
الغيض وإخماد سعير الغضب فإنه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات
ومجمع الكرامات. كما جاء في حديث ( الكافي ) عن أبي عبدالله عليه السلام
أنه قال سمعت أبي يقول:"أتى رَسُولَ اللهِ رَجُلٌ بَدَوِيٌ، فَقالَ: إنّي أسْكُنُ
البادِيَةَ فَعَلِّمْنِي جَوامِعَ الكَلامِ فَقالَ: آمُرُكَ أَنْ لاَ تَغْضَبَ. فَأعادَ عَلَيْهِ
الأعْرَابِيُّ المَسْأَلَةَ ثَلاثَ مَرّاتٍ حَتّى رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِه. فَقالَ: لا أَسْأَلُ
عَنْ شيْء بَعْدَ هذَا. ما أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ إِلاّ بِالْخَيْرِ. قالَ: وَكانَ أَبي يَقُولُ:
أَيُّ شَيْءٍ أشَدُّ مِنَ الغَضَبِ؟ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتي حَرَّم اللهُ
وَيَقْذِفُ المُحْصَنَةَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
الغضب، ح 4). بعد أن يدرك الإنسـان، في حال تعلقه وسكون نفسه وخمود
غضبه، المفاسد الناجمة عن الغضب، والمصالح الناجمة عن كظم الغيظ، يلزم أن
يحتم على نفسه أن يطفئ هذا اللهيب الحارق وهذه النار المشتعلة في قلبه، مهما
لاقى من عنت ونصب في سبيل ذلك، ليغسل قلبه من الظلام والكدر، ويعيد
إليه صفاءه ونقاءه. وهذا أمرٌ ممكن تماماً بشيءٍ من مخالفة النفس والعمل ضد
هواها، وبقليل م ن النصح والإرشاد والتدبر في عواقب الأمور. وهذه وسيلة
يمكن بها إزالة جميع الأخلاق الفاسدة والعادات القبيحة من ساحة النفس،
وإبدالها بجميع الصفات الحسنة والأخلاق المحمودة التي يجب أن يتحلّى بها
القلب. فصل في بيان علاج الغضب إن للغضب المشتعل علاجاً علمياً وعملياً
أيضاً. أما علاجه العملي فهو أن يتفكر الإِنسان في تلك الأمور التي ذكرت،
ويعدّ هذا من العلاج العملي أيضاً. أما العلاج العملي فأهمّه صرف النفس عن
الغضب عند أول ظهوره. وذلك لأن الغضب أشبه بالنار، فهو يزداد شيئاً
فشيئاً ويشتّد، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع [166] حرارته ويفلت العنان من يد
الإنسـان، ويخمد نور العقل والإيمان، ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان
ذليلاً مسكيناً. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع
سعيره، فيشغل نفسه بأمور أخرى، أو أن يغادر المكان الذي ثار فيه غضبه، أو
أن يغير من وضعه . فإذا كان جالساً فلينهض واقفاً، وإذا كان واقفاً فليجلس،
أو أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى. بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال
الغضب، أو أن يشغل نفسه بأي أمر آخر. على كل حال، يسهل كبح جماح
الغضب في بداية ظهوره. ولهذا العمل في هذه المرحلة نتيجتان: الأولى: هي أن
يهدئ النفس ويقلل من اشتعال الغضب. والثانية: هي أن يؤدي إلى المعالجة
الجذرية للنفس. فإذا راقب الإنسان حاله وعامل نفسه بهذه المعاملة تغيّرت
حاله تغيراً كُلياً واتجهت نحو الاعتدال. وقد وردت الإشارة إلى بعض ذلك
كتاب (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال:"إِنَّ هَذَا الغَضَبَ
جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ وإِنَّ أحَدَكُمْ إِذا غضِبَ احْمَرَّتْ
عَيْناهُ وَانْتَـفَخَتْ أوْدَاجُهُ وَدَخَلَ الشَّيْطانُ فيه، فَإِذا خاف أَحَدُكُمْ ذلِكَ مِنْ
نَفْـسِهِ فَلْيَلْزَمِ الأرْضَ فَإنَّ رِ جْزَ الشَّيْطانِ يَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذلِكَ"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح12). وبإسنـاده،
عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال:"إِنَّ
الرَّجـلَ لَيَـغْـضَبُ فَما يرضى أبداً حَـتّى يَدْخُلَ النّـار فَأَيُّـما رَجُلٍ
غَضـبَ عَلى قَوْمٍ وَهُوَ قائِـمٌ فَـلْيَجْـلِسْ مِنْ فَوْرِه ذلِـكَ فَإنَّـهُ
سَيَذْهَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْـطانِ وَأَيُّـما رَجُلٍ غَضِبَ عَلى ذي رَحِمٍ فَلْـيَدْنُ
مِنْهُ فَلْـيَمَسَّه، فَإنَّ الرَّحِمَ، إذا مُسَّـت، سَكَـنَتْ"( أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 2. ). يستفاد من هذا الحديث
الشريف علاجان عمليان حال ظهور الغضب. الأول عام، وهو الجلوس من
القيام، أي تغيير وضعية الإِنسان، ففي حديث آخر أنه إذا كان جالساً عند
الغضب فليقم واقـفاً. وقد نقل عن الطرق ا لعامة أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم عندما كان [167] يغضب، يجلس، إذا كان واقفـاً، ويستلقي
على قفاه إذا كان جالساً، وبذلك يسكن غضبه. والعلاج العملي الآخر علاج
خاص بالأرحام، وهو أن يمسّـه فيسكن غضبه. هذه معالجات يقوم بها
الغاضب لنفسه. أما إذا أراد الآخرون معالجة الغاضب فعند ظهور بوادر
الغضب، عليهم أن يعالجوه بإحدى الطرق العلمية والعملية المذكورة. ولكن إذا
اشتدت حاله واشتعل غضبه، فإن النصائح تنتج عكس المطلوب. ولذلك يكون
علاجه وهو في هذه الحال صعباً، إلاّ بتخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه،
وذلك لأن الغاضب إنما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممن يغضب عليه، أو
يرى أنه، على الأقل، يتساوى معه في القوة. أمـا مع الذين يرى أنهـم أقوى
منه، فـلا يُـظهر الغضب أمامهم، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه
ويبقى محبوساً في داخله ويولد الحزن في قلبه. وعليه فإن العلاج في حالات
الانفعال الشديدة من الغضب والفورة يكون على جانب كبير من الصعوبة.
نعوذ بالله منه. فصل في بيان أن معالجة الغضب باقتلاع جـذوره من أهم
سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له. وهي أمور
عديدة، وسوف نتناول بعضاً منها مما يتناسب وهذا الكتـاب. من تلك
الأسباب حبّ الذات، ويتـفرّع عنه حب المال والجاه والشرف والنفوذ
والتسلط. وهذه كلها تتسبب في إشعال نار الغضب، إذ أن من كانت فيه هذه
الأنواع من الحب، يهتم بهذه الأمور كثيراً، ويكون لها في قلبه مكان رفيع. فإذا
اتفـق أن واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحس بأن هناك من
ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك
نفسه، ويستولي عليه الطمع وسائر الرذائل الناجمة عن حب الذات والجاه
وتمسك بزمامه، وتحيد بأعماله عن جادة العقل والشرع. ولكن إذا لم يكن
شديد التعلق والاهتمام بهذه الأمور ، فإن هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من
ترك حب الجاه والمقام [168] وسائر تفرعاته، تمنع النفس من أن تخطو
خطوات تخالف العدالة والرويّة. إن الإِنسان البسيط غير المتكلف يتحمل
المنغصات و لا تـتـقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير
وقته. أما إذا اقتـلع جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإنّ جميع المفاسد تهجر
قلبه وتحل محلها الفضائل الأخلاقية السامية. ومن الأسباب الأخرى لإثارة
الغضب هو أن الإِنسان قد يظن الغضب، وما يصدر عنه من سائر الأعمال
القبيحة والرذائل السافلة، كمالاً، وذلك لجهله وقلة معرفته. فيحسب الغضب
من الفضائل ويراه بعض الجهال فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على
نفسه في أنه فعل كذا وكذا، فيحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة، هذه
الشجاعة التي تكون من أعظم صفات المؤمنين، والصفات الحسنة. فلا بد وأن
نعرف بأن الشجاعة غير الغضب، وأن أسبابها ومباد ئها وآثارها وخواصّها
تختلف عن أسباب الغضب ومبادئه وآثاره وخواصّه. مبدأ الشجاعة هو قوة
النفس والطمأنينة والاعتدال والإيمان وقلة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلباتها. أما
الغضب فناشئ عن ضعف النفس وتزلزلها، وقلة الإِيمان، وعدم الاعتدال في
المزاج وفي الروح، وحب الدنيا والاهتمام بها، والتخوف من فقدان اللذائذ
البشرية. لذلك تجد هذه الرذيلة مستحكمة في المرضى أكثر مما هي في
الأصحاء، وفي الصغار أكثر مما هي في الكبار، وفي الشيوخ أكثر مما هي في
الشبان. فالشجاعة عكس الغضب تماماً. ومن كانت فيه رذائل أخلاقية كان
أسرع إلى الغضب ممن فيهم فضائل أخلاقية، إذ يكون البخيل أسرع في
الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر. هذا من حيث مبادئ
الشجاعة والغضب وما يوجبهما، وهما من حيث الآثار والنتائج مختلفان أيضاً.
فالغاضب، وهو في حال ثورة غضبه، يكون أشبه بالمجنون الذي فقد عنان عقله،
ويصبح مثل الحيوان المفترس الذي لا تهمّه عواقب الأمور، فيهجم دون تروّ أو
احتكام إلى العقل، فيسلك سلوكاً قبيحاً، يفقد سيطرته على لسانه ويده و
سائر أعضائه، وتلتوي شفتاه في هيئة قبيحة بحيث أنه لو أعطى مرآة، لخجل
من صورته التي يراها فيها. إن بعض أصحاب هذه الرذيلة يغضبون لأتفه
الأمور، بل يغضبون حتى على [169] الحيوانات والجمادات، ويلعنون حتى
الريح والأرض والبرد والمطر وسائر الظواهر الطبيعية إذا كانت خلاف
رغباتهم. ويغضبون أحياناً على القلم و الكتاب والأواني فيمزقونها أو
يحطمونها. أما الشجاع فهو بخلاف ذلك تماماً. فأعماله لا تكون إلاّ عن رويّة
ووفق ميزان العقل وطمأنينة النفس. يغضب في محله، ويحلم في محله، لا تهزّه
التوافه ولا تغضبه. وإذا غضب غضب بمقدار، وينتقم بعقل، ويعرف كيف
ينتقم ومتى وممـن؟ وكيف يعفو ومتى وممن؟ وفي حال غضبه لا يفقد زمام
نفسه، ولا يبادر بالكلام البذيء ول ا بالأعمال القبيحة، ويزن كل أعماله
بميزان العقل والشرع والعدل والإِنصاف، ويخطو خطوات لا يندم عليها بعد
ذلك. فعلى الإِنسان الواعي أن لا يخلط بين هذا الخُلق الذي يتصف به الأنبياء
والأولياء والمؤمنون، يعدّ من الكمالات النفسية. والخلق الآخر الذي هو من
النقائص والصفات الشيطانية ومن وسوسة الخناس. إلاّ أن حجاب الجهل وعدم
المعرفة وحب الدنيا وحب الذات، يعمي عين الإِنسان ويصمّ أذنه ويلقيه في
المسكنة والعذاب. وهناك أسباب أخرى ذكروها للغضب، مثل العُـجب
والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها مما يطيل البحث الدخول في
تفاصيلها، ولعل أكثرها ينطوي تحت هذين الموضوعين المذكورين بصورة
مباشرة أو غير مباشرة. والحمد لله. [171] الحَديـــث الثَامــــن
"العصبيّة" [172] بسندي المتَّصل إلى مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عَليِّ بْنِ
إِبْراهِيمَ، عَنْ أبيه، عَنِ النَّوْفَلي، عَن السَّكُوني، عَنْ أبي عَبدالله عليه
السلام قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم:"مَنِ كانَ في قَلْبه
حَبَّةٌ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ عَصَبَيَّةٍ، بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ أَعْرابِ الجَاهِليَّةِ"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية، ح 3 ). [173]
الشرح: الخردل، نبات معروف له خواص كثيرة، ويصنع منه الشمع،
والعصبيّ: هو الذي يعين قومه على الظلم ويغضب لعصبته ويحامي عنهم.
وعُصبة المرء أقرباؤه من جهة الأب، لأنهم يحيطون به فيقوى بهم، والتعصب
بمعنى الحماية والدفاع. يقول الفقير إلى الله: العصبية واحدة من السجايا
الباطنية النفسانية. ومن آثارها الدفاع عن الأقرباء، وجميع المرتبطين به
وحمايتهم، بما في ذلك الارتباط الديني أو المذهبي أو المسلكي، وكذلك الارتباط
بالوطن وترابه، وغير ذلك من ارتباط المرء بمعلّمه، أو بأستاذه، أو بتلم ذته وما
إلى ذلك. والعصبية من الأخلاق الفاسدة والسجايا غير الحميدة، وتكون سبباً
في إيجاد مفاسد في الأخلاق وفي العمل. وهي بذاتها مذمومة حتى وان كانت
في سبيل الحق، أو من أجل أمر ديني، من غير أن يكون مستهدفاً لإظهار
الحقيقة، بل يكون من أجل تفوقه أو تفوق مسلكه ومسلك عصبته، أما إظهار
الحق والحقيقة وإثبات الأمور الصحيحة والترويج لها وحمايتها والدفاع عنها،
فإما أنه ليس من التعصب، وإما أنه ليس تعصباً مذموماً. إن المقياس في
الاختلاف يتمثل في الأغراض والأهداف وخطوات النفس والشيطان أو
خطوات الحق والرحمن. وبعبارة أخرى، إن المرء إذا تعصّب لأقربائه أو أحبّتِهِ
ودافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحق ودحض الباطل، فهو تعصب محمود
ودفاع عن الحق والحقيقة. ويعدّ من أفضل الكمالات الإنسانية، ومن خلق
الأنبياء والأولياء. وعلامته المميزة هو أن يميل الإنسان إلى حيث يميل الحق
فيدافع [174] عنه، حتى وان لم يكن هذا الحق إلى جانب من يحبّ، بل حتى
لو كان الحق إلى جانب أعدائه. إن شخصاً هذا شأنه يكون من جملة حماة
الحقيقة، ومن زمرة المدافعين عن الفضيلة وعن المدينة الفاضلة، ومن الأعضاء
الصالحين في المجتمع، ومن المصلحين لمفاسده. أما إذا تحرّك بدافع قوميته
وعصبيته بحيث أخذ بالدفاع عن قومه وأحبته في باطلهم وسايَرَهم فيه ودافع
عنهم، فهذا شخص تجلت فيه السجية الخبيثة، سجية العصبية الجاهلية. وأصبح
عضواً فاسداً في المجتمع، وأفسد أخلاق المجتمع الصالح، وصار في زمرة أعراب
الجاهلية، وهم فئة من أعراب البوادي قبل الإسلام ممن كانوا يعيشون في ظلام
الجهل، وقد قويت فيهم هذه النزعة القبيحة، والسجية البشعة بل إن هذه الصفة
توجد في معظم أهل البوادي - عدى من اهتدى بنور الهداية كما ورد في
الحديث الشريف عن الأمام أمير المؤمنين عليه السلام: أن الله سبحانه يعذب
طوائف ستة بأمور ستة: أَهْلَ البَوَادِي بِالعَصَبِيَّةِ وَأَهْـلَ الْقُرَى بِالْكِبَرِ
وَالأُّمَرَاءِ بِالظُلْمِ، وَالفُقَهَاءِ بِالحَسَدِ، وَالتُّجَّارِ بِالخِيَانَةِ وَأَهْلِ الرَّسَاتِيقِ بِالجَهْلِ.
فصل في بيان مفاسد العصبية يستفاد من الأحاديث الشريفة عن أهل بيت
العصمة والطهارة أن العصبية من المهلكات والباعثة على سوء العاقبة والخروج
من عصمة الإيمان، وأنها من ذمائم أخلاق الشيطان. جاء في الكافي بسنده
الصحيح، عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال:"مـَنْ تَعَصًّبَ أوْ تُعُصِّبَ
لَهُ فَقَدْ خُلِعَ رِبْقُ الإيمان مِنْ عُنُقِه"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب العصبية، ح 2.). أي أن المتعصب بتعصبه يكون قد خرج من
إيمانه، وأما المتعصب له، فبما أنه قد رضي بعمل المتعصب، يصبح شريكاً له في
العقاب. كما جاء في الحديث الشريف:"ومن رضي بعمل قوم حشر معهم.
أما إذا لم يرض به واستنكره فلن يكون منهم". [175] وعن أبي عبدالله
الصادق عليه السلام قال: مـَنْ تَعَصَّبَ عـَصـَّبَهُ اللهُ بِعصابَةٍ مِنَ النّارِ"(
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية، ح 4 ). وعن
أبي عبدالله عليه السلام قال:"لـَمْ َيْدُخِل الجَنَّةَ حَمِيَّةَ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ
عَبْدِالمُطَّلِبِ وَذلِكَ حينَ أسْلَم غَضَباً للنَّبِيِّ"( أصول الكافي، المجلد الثاني،
كتاب الإيمان والكفر، ح 5 ). وقد وردت قصة إسلام حمزة بن عبدالمطلب
بعبارات مختلفة، وهي خارجة عن نطاق بحثنا هذا. وعلى كل حال، فمن
المعلوم أن الإيمان، وهو الفوز الإِلهي ومن الخِلَعِ الغيبية لله جل جلاله، الذي
يفيض بها على المخلصين من عباده، والخاصّة في محفل انسه، يتنافى مع مثل
هذه السجية الممقوتة التي تدوس الحق والحقيقة، وتطأ بأقدام الجهل على الصدق
والاستقامة. ولا شك في أن ا لقلب إذا غطّاه صدأ حب الذات والأرحام
والتعصب القومي الجاهلي، فلن يكون فيه مكان لنور الإِيمان، ولا موضع
للاختلاء مع الله ذي الجلال تعالى. إن ذلك الإنسان الذي تظهر في قلبه تجليات
نور الإيمان والمعرفة، ويطوق رقبته الحبل المتين والعروة الوثقى للإِيمان، ويكون
رهن الحقيقة والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالقواعد الدينية وتكون
ذمته مرهونة لدى القوانين العقلية، ويتحرك بأمر من العقل والشرع، دون أن
يهز موقفه أيّ من عاداته وأخلاقه وما يأنس به من مألوفاته. فلا تحيد به عن
الطريق المستقيم. إن الإِنسان الذي يدعي الإِسلام والإيمان هو ذلك الذي
يستسلم للحقائق ويخضع لها، ويرى أهدافه، مهما عظمت، فانية في أهداف ولي
نعمته، ويضحي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقي. ومن الواضح أن
مثل هذا الشخص لا يعرف العصبية الجاهلية، وانه بريء منها، ولا يتجه قلبه إلاّ
إلى حيث الحقائق ولا تغشي عينيه أستار العصبية الجاهلية السميكة وأنه يطأ
بقدميه في سبيل إعلاء كلمة الحق والإِعلان عن الحقيقة على كل العلاقات
والارتباطات، ويفدى بجميع الأقرباء والأحبة والعادات على أعتاب ولي النعم
المطلق. وإذا تعارضت العصبية الإِسلامية عنده مع العصبية الجاهلية، قدَّم
الإسلام وحب الحقيقة. إن الإنسان العارف بالحقائق يعلم أن جميع العصبيات
والارتباطات والعلاقات ليست سوى أمور عرضية زائلة، إلا تلك العلاقة بين
الخالق والمخلوق، وتلك هي العصبية الحقيقية التي هي أمر ذاتي غير قابل
للزوال، وهو أوثق من كل ارتباط، وأقوى من كل حسب وأسمى من كل
نسب. في حديث شريف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:"كـُلَّ
حَسَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ حَسَبي وَنَسَبي"( وسائل الشيعة، كتاب
النكاح، الباب الثامن من أبواب مقدمات وآداب النكاح، ح 5 ). وذلك لأن
حسب رسول الله ص لّى الله عليه وآله وسلم روحاني وباق، وبعيد عن جميع
العصبيـّات الجاهلية، وهذا الحسب والنسب الروحانيين في ذلك العالم، يكون
ظهوره أكثر وكماله أوضح فإن نسبه علاقة إلهية لا تظهر على كمال حقيقتها
إلاّ في ذلك العالم. إن هذه العلائق الجسمانية المُلكية القائمة على العادات
البشرية إنما تتقطع بأتفه الأسباب، وليس لأي منها في ذلك العالم نفع ولا قيمة،
إلاّ تلك العلائق التي تتوثق في نظام ملكوتي الهي وتحت ظل ميزان القواعد
الشرعية والعقلية التي لا انفصام لها. فصل في بيان الصورة الملكوتيّة للعصبية
سبق في شرح بعض الأحاديث القول بأن المعيار في الصور الملكوتية والبرزخية
وفي يوم القيامة هو الملكات وقوتها، وإن ذلك العالم هو محل ظهور سلطان
النفس الذي لا يعصي له الجسم أمراً. فقد يحشر الإِنسان في ذلك العالم على
صورة حيوان أو شيطان. وقد مرّ بنا في الحديث في بداية المقال:"مـَنْ كَان
فِي قَلْبِهِ حَبَّة مِنْ خَرْدَل مِنْ عَصَبِية بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ الجَاهِلِيَّةِ".
ولعله إشارة إلى ذلك الموضع الذي ذكرناه. إن الإنسان الذي فيه هذه الرذيلة،
لعله عندما ينتقل إلى العالم الآخر يرى نفسه من أعراب الجاهلية من غير إيمان
بالله تعالى ولا بالنبوة والرسالة، ويرى أنه في الصورة التي يحشر بها أولئك
الأعراب، ولا يعلم بأنه كان في الدنيا يعتنق العقيدة الحقة من الإيمان بالله
وبرسوله وأنه من أمة الرسول الخاتم صلّى الله عليه [177] وآله وسلم. كما
جاء في الحديث عن أهل جهنم ينسون اسم رسول الله، ولا يستطيعون أن
يعرفوا أنفسهم، إلاّ بعد أن يشاء الحق سبحانه أن يُنجيهـم. وبما أن هذه
السجية من سجايا الشيطان، كما ورد في بعض الأحاديث، فلعل أعراب
الجاهلية وأصحاب العصبية يحشرون يوم القيامة على هيئة الشياطين. في الكافي
في الصحيح، عن أبي عبدال له الصادق عليه السلام قال:"إِنَّ المَلائكَة كانُوا
يَحْسَبُونَ أنَّ إِبْـليسَ منْهُمْ وَكانَ في عِلْم اللهِ أنـَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ فَاسْـتَخْرَجَ
ما فِي نَفْسِهِ بالحَمِيَّةِ وَالغَضَبِ. فقال خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية ح 6 ). فاعلم أيها
العزيز أن هذه الخصلة الخبيثة، من الشيطان، وإنها من مغالطات ذلك الملعون
ومعاييره الباطلة. انه يغالط عن طريق هذا الحجاب السميك الذي يخفي عن
النظر كل الحقائق، بل يظهر رذائل النفس كلّها محاسن، وجميع محاسن الآخرين
رذائل، من الواضع أنه كيف يكون مصير الإِنسان الذي يرى جميع الأشياء على
غير حقيقتها وواقعيتها. وفضلا عن كون هذه الرذيلة هي نفسها تكون سبب
هلاك الإنسان، فإنها كذلك منشأ الكثير من المفاسد الأخلاقية والأعمال
القبيحة التي لا يتسع المجال لذكرها. و عليه، إذا عرف الإِنسان العاقل أن هذه
المفاسد ناشئة من تلك السجية الفاسدة، وأذعن للشهادة الصادقة المصدقة من
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بأن هذه الرذيلة
تجر الإنسان إلى الهلاك وتدخله النار، فما عليه إلاّ أن يتصدى لعلاج نفسه من
هذه السجية، وأن يطهر قلبه حتى من حبة خردل منها، حتى يكون طاهراً عند
الانتقال من هذه الدنيا إلى العالم الآخر عند اقتراب أجله، فينتقل بنفس صافية.
إن على الإنسان أن يدرك أن الفرصة محدودة والوقت قصير جدا، لأنه لا يعلم
متى يحين موعد رحيله. أيتها النفس الخبيثة لكاتب هذه السطور، لعل الأجل
المقدر قد حان وأنت منهمكة في الكتابة، فينقلك بكل رذائلك إلى العالم الذي
لا عودة منه. [178] ويا أيها العزيز يا من تقرأ هذه الوريقات، خذ العبرة من
حال هذا الكاتب الذي يرزح الآن أو مستقبلاً تحت الثرى، وهو في العالم
الآخر مبتلى بأعما له وأخلاقه البشعة. لقد ضيّع الفرصة الثمينة التي كانت عنده
بالبطالة والأهواء، فأتلف ذلك الرأسمال الإلهي وأباده. فانتبه إلى نفسك لأنك
ستكون يوماً مثلي دون أن تعلم متى يكون ذلك. فلعلك الآن وأنت مشغول
بالقراءة، إذا تباطأت ذهبت الفرصة من يدك. يا أخي، لا تؤجل هذه الأمور
لأنها لا تحتمل التأجيل، فكم من إنسان سليمٍ وقويٍ فاجأه الموت في لحظة
وأخرجه من هذه الدنيا إلى العالم الآخر ولا نعلم عن مصيره شيئا. إذاً، لا تضيّع
الفرصة، بل اغتنم اللحظة الواحدة، لأن القضية عظيمة الأهمية، والرحلة
شديدة الخطورة. فإذا قصّر الإنسان في هذه الدنيا التي هي مزرعة الآخرة،
يكون السيف قد سبق العذل، ولن تستطيع إصلاح فساد النفس، ولا يكون
نصيبك سوى الحسرة والندم والـذل. إن أولياء الله لم يخلدوا إلى الراحة أبداً،
وكانوا دائمي الخوف من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر. إن حالات علي بن
الحسين عليه ال سلام، الإمام المعصوم، تثير الحيرة. وأنين أمير المؤمنين علي عليه
السلام، الولي المطلق، تبعث على الدهشة. ما الذي جرى لنكون على هذا
القدر من الغفلة؟ من الذي جعلنا نطمئن؟ انه لا يغرينا أحد بتأجيل عمل اليوم
إلى الغد إلا الشيطان. انه يريد أن يزيد من أعداد أنصاره وأعوانه، وأن يجعلنا
نتخلّق بأخلاقه حتى نحشر مع أتباعه. إن ذلك الملعون هو الذي يسعى دائماً إلى
تهوين أمور الآخرة في أعيننا، وبتذكيرنا لرحمة الله ولشفاعة الشافعين يريد أن
ينسينا ذكر الله وطاعته. ولكن يا للأسف! فهذه كلها أمنيات باطلة، وهي من
أحابيل مكر ذلك الملعون وحيله. إن رحمة الله تحيط بك الآن، رحمته في
صحتك وسلامتك وحياتك وأمنك وهدايتك وعقلك وفرصتك وإرشادك إلى
إصلاح نفسك وأن آلاف الرحمة الإلهية المختلفة تحيط بك من جميع الجهات،
ولكنك لا تنتفع بها، بل تطيع أوامر الشيطان. فإذا لم تستطع أن تستفيد من
رحمات هذ الدنيا، فاعلم أنه لن تنالك في العالم الآخر رحمات الله اللامتناهية بل
تحرم من شفاعة الشافعيـن. إن مظهر شفاعة الشافعين في هذه الدنيا هو
الاهتداء بهداهم، وفي ذلك العالم هو الشفاعة لأنها باطن الهداية. فإذا حرمت
الهداية هنا، حرمت الشفاعة هناك. وعلى قدر اهتدائك تكون [179] لك
الشفاعة. إن شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. مثل رحمة الله المطلقة
تنال من هو جدير بها. فإذا انتزع الشيطان - لا سمح الله - وسائل الإيمان من
يدك، فلن تكون جديراً بالرحمة والشفاعة. نعم، رحمة الله واسعة في الدارين.
فإذا كنت تطلب الرحمة، فلماذا لا تستفيد من فيوضات الرحمة المتتالية في هذه
الدنيـا، وهي بذور الرحمات الأخرى؟ إن هذا العدد الكبير من الأنبياء
والأولياء دعوك إلى مائدة ضيافة الله ونعمه، ولكنك رفضتها وهجرتها بوسوسة
من الخنّاس، وبإيحاء من الشيطان، وضحّيـت بمحكمات كتاب الله، والمتوا
ترات من أحاديث الأنبياء والأولياء، وببديهات عقول العقلاء، وببراهين
الحكماء الدامغة، على مذبح نزعات الشيطان والأهواء النفسية. الويل لي ولك
من هذه الغفلة والعمى والصمم والجهل!. فصل في عصبيات أهل العلم من
جملة عصبيات الجاهلية هو العناد في القضايا العلمية، والدفاع عن كلمة سبق
أن صدرت منه أو من معلمه أو شيخه، دون النظر إلى إحقاق الحق وإبطال
الباطل. ولا شك أن مثل هذا التعصب أقبح من كثير من العصبيات الأخرى
وأجدر بالذم من جوانب عديدة. فمن جانب المتعصب نفسه نرى أن أهل
العلم ينبغي أن يكونوا هم المربين لأبناء البشر، باعتبارهم فروع شجرة النبوة
والولاية، وعارفين بوخامة الأمور وعواقب فساد الأخلاق. فإذا اتصف العالم
- لا قدر الله - بالعصبية الجاهلية أو بالصفات الرذيلة الشيطانية، كانت
الحجة عليه أتم وعقابه أشد. إن من يعرف نفسه على أنه، وشمع محفل
العرفان، والهادي إلى السع ادة ومعرف طرق الآخرة، ثم لا يعمل - لا سمح
الله - بما يقول، ويختلف باطنه عن ظاهره، يكون في زمرة أهل الرياء
والنفاق، ويحسب من علماء السوء، ويكون عالماً بلا عمل. وهذا عقابه أكبر
وعذابه أشدّ. وقد أشار الله سبحانه إلى أمثال هذا في القرآن بقوله: {بِئْسَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ}(الجمعة5). إذاً، من أهم التزامات أهل العلم هو أن يحافظوا على
هذه الأمور وهذه المقامات، وأن يطهروا أنفسهم كل التطهير من هذه المفاسد،
لكي يصلحوا بهذا أنفسهم والمجتمع، وتكون مواعظهم مؤثرة، وتقع نصائحهم
موقعها من القلوب. إن فساد العالِم يؤدي إلى فساد الأمة. ومن البديهي أن
الفساد الذي يتسبب في مفاسد أخرى والخطيئة التي تزيد خطايا أخرى
وتعظمها تكون أعظم عند وليّ النِعم من الفساد الجزئي الذي لا يتعدّى إلى
غيره. ومن ناحية أخ رى في قباحة هذه السجيّة لدى أهل العلم هو جانب
العلم نفسه، إذا أن هذه العصبية خيانة للعلم وتجاهل لحقه إذ أن من يتحمل
عبء هذه الأمانة ويلبس لبوسها، فعليه أن يرعى حرمتها واحترامها، وأن
يعيدها إلى صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّب، تعصّب الجاهلية يكون قد
خان الأمانة وأرتكب الظلم والعدوان، وهذه بذاتها خطيئة كبرى. والناحية
الثانية من جرّاء هذه السجيّة القبيحة إهانة أهل العلم فيما إذا كان التعصّب في
المباحث العلميّة مع العلم بأن أهل العلم من الودائع الإلهية الواجب احترامهم.
بينما يكون هتكهم هتكاً لحرمات الله ومن الموبقات الكبيرة. وقد تؤدي
العصبية التي لا تكون في محلها، إلى هتك حرمة أهل العلم. أعوذ بالله من هذه
الخطيئة الكبيرة!. وهناك جانب آخر هو جانب المتعصب له، أي الأستاذ وشيخ
الإنسان. وهذا يوجب العقوق، وذلك لأن المشايخ العظام والأساطين الكرام -
نضّر الله وجوههم - يميلون إلى جانب الحق، ويهربون من الباطل، ويسخطون
على من يتذرع بالتعصب لقتل الحق وترويج الباطل. ولا شك في أن العقوق
الروحي أشد من العقوق الجسمي، وحق الأبوة الروحية أسمى من حق الأبوة
الجسمية. إذاً، يتحتّم على أهل العلم - زادهم الله شرفاً وعظمة - أن يتبرءوا
من المفاسد الأخلاقية والعلمية، وأن يزينوا أنفسهم بحلية الأعمال الحسنة
والأخلاق الكريمة، وأن لا ينزلوا عن المركز الشريف الذي أنعم الله تعالى به
عليهم، إذ أن مدى الخسران في ذلك لا يعلمه إلا الله. والسلام.
[181]
الحَــديــث الـتَـاسِـــع "النـفــــاق" [182] بالسند المـتَّـصل
إلى ثقة الإِسلام محمّد بن يعقوب الكليني، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْنِ
عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَوْنٍ بْنِ القَلاَنِسي، عَنْ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ
الصادق عليه السلا م، قالَ:"مَنْ لَقِيَ المُسْلِمِين بِوَجْهَيْنِ وَلِسَانَيْنِ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَهُ
لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر باب ذي اللسانين، ح
1 ). [183] الشرح: لقاء المسلمين بوجهين هو: أن يبدي المرء ظاهر حاله وصورته
الخارجية لهم على خلاف ما تكون في باطنه وسريرته. كأن يبدي أنه من أهل المودة والمحبة
لهم، وأنه مخلص حميم، بينما يكون في الباطن على خلاف ذلك فيعامل بالصدق والمحبة في
حضورهم، ولا يكون كذلك لدى غيابهم. أما ذو اللسانين فهو أن يثني على كل من يلقاه
منهم ويمتدحه ويتملق له ويظهر المحبة له، ولكنه في غيابه يعمد إلى تكذيبه وإلى استغابته.
فبناء على هذا التفسير، تكون الحالة الأولى هي:"النفاق العملي"والحالة الثانية هي:"النفاق
القولي". ولعل الحديث الشريف يشير إلى صفة النفاق القبيحة. وباعتبار أن هاتين الحالتين
هي من أظهر صفات المنافقين وألصقها بهم، اقتصر الحديث الشريف على ذكرها خاصّة.
والنفاق من الرذائل النفسانية والملكات الخبيثة التي تنجم عنها آثار كثيرة منها هذين الأثرين
المذكورين. وللنفاق درجات ومراتب. وسوف نحاول. إن شاء الله، أن نذكر تلك الدرجات
والمراتب ومفاسدها ومعالجتها بقدر الإِمكان، خلال بضعة فصول. فصــــــل في
بيـــان مــراتب النفـــاق اعلم أن للنفاق، مثل سائر الأوصاف والملكات الخبيثة
أو الشريفة، درجات [184] ومراتب من حيث القوة والضعف. وإن كل رذيلة لم يتصدَّ
لها المرء بالعلاج الناجع، بل خضع لها وتبعها، مالت إلى الاشتداد، وإن درجات اشتداد
الرذائل، مثل درجات اشتداد الفضائل، غير متناهية ولا تقف عند حدّ. فالمرء إذا ترك النفس
الأمّارة على حاله، فبسبب ميلها الذاتي وعدم ارتياحها ومساعدة الشيطان لها والوسواس
الخنّاس اندفعت لأجل كل ذلك نحو الفساد. فيتـفاقم حالها، وتزداد قو ة وشدة يوماً بعد
يوم، حتى يصل الأمر بتلك الرذيلة التي تابعها أن تتخذ الصورة الجوهرية للنفس وفصلها
الأخير، وتصبح مملكة الإِنسان، ظاهرها وباطنها تحت سيطرة تلك الرذيلة. فإذا كانت
رذيلة شيطانية، كالنفاق والاتصاف بذي الوجهين، مما هو من صفات ذلك الشيطان الملعون
- كما جاء في القرآن الكريم: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ}(الأعراف/21)،
بينما كان الأمر خلاف ذلك - استسلمت مملكة الإِنسان للشيطان، وأصبحت الصورة
الأخيرة للنفس وباطنها وذاتها وجوهرها، صورة للشيطان، وقد تصبح صورته الظاهرة في
الدنيا أيضاً كصورة الشيطان، وإن كانت ملامحه هنا بشرية. فإذا لم يقف الإِنسان بوجه هذه
الصفة ولم يردعها، وترك نفسه وشأنها، فلن يمضي وقت طويل حتى يفلت الزمام منه،
ويصبح كلّ همّه واهتمامه منصباً على تلك الرذيلة، حتى أنه لا يلتقي شخصاً إلاّ وعامله
معاملة ذي الوجهين وذي ا للسانين، ولا يعاشر أحداً إلاّ وخالطت معاشرته تلك الصفة من
التلوّن والنفاق، دون أن يخطر له شيء سوى منافعه الخاصة وأنانيته وعبادته لذاته، واضعاً
تحت قدميه الصداقة والحميّة والهمة والرجولة. ومت سماً في كل حركاته وسكناته بالتلون،
ولا يمتنع عن أي فساد وقبح ووقاحة. إن شخصاً هذا شأنه يكون بعيداً عن البشرية
والإِنسانية، ومحشوراً مع الشياطين. كل هذا الذي استعرضناه يمثل القوة والضعف في جوهر
النفاق نفسه، ولكنه يختلف باختلاف متعلقة. فقد يكون النفاق في دين الله وقد يكون في
السجايا الحسنة والفضائل الأخلاقية، وقد يكون في الأعمال الصالحة والمناسك الإِلهية، وقد
يكون في الأمور العادية والمتعارف عليها. وهكذا قد ينافق المرء مع رسول الله [185]
صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو مع أئمة الهدى عليهم السلام، أو مع الأولياء والعلماء
والمؤمنين، وقد يتسع النفاق فيكون مع المسلمين وسائر خلق الله من الملل الأخرى. بديهي
أن تكون هناك اختلافات في مدى قبح هذه الحالات التي عدّدناها ووقاحتها، على الرغم من
أنها جميعاً تشترك من حيث الأصل في الخبث والقبح، لأنها فروع وأغصان لشجرة خبيثة
واحدة. فصــــــل النفاق مصدر كثير من المفاسد إن النفاق والاتصاف بذي
الوجهين - وإن كانا في أنفسهما من الصفات القبيحة التي لا يتصف بها الإنسان الشريف،
ويُعتبر المتصف بها خارجاً عن المجتمع الإِنساني، بل لا يكون شبيهاً بأي حيوان ويبعثان على
الفضيحة والذل في هذه الدنيا أمام الأصحاب والأقـران، كما أنهما يوجبان الذل والعذاب
الأليم في الآخرة فقد جاء وصفه في الحديث الشريف وصف المنافق بأن صورته في ذلك
العالم"أَنَّـهُ يَحْـشَرُ بِلِـسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ"ويسببان طأطأة الرأس والفضيحة أمام خلق الله
وفي حضرة الأنبياء المرسلين والملائكة المقربين. كما يتضح من هذا الحديث شدة عذاب
المنافق و ذي الوجهين، لأنه إذا أصبح جوهر الجسم جوهر النار، كان الإحساس أقوى
والألم أشدّ - أعوذ بالله من شدته -. عن علي عليه السلام قال: قال رسـول الله
صلّـى الله عليه وآله وسلم يَـجِيءُ يَـوْمَ القِـيَامَةِ ذُو الوَجْـهَيْـنِ دَالِـعاً لِـسَانَهُ
فِي قَفَـاهُ وَآخَرُ مِنْ قُـدّامِهِ يَـلْتَـهِبَانِ نَاراً حَـتَّى يَـلْهَبَا جَسَدَهُ. ثُـمَّ يُـقَالُ هذَا
الـذَّي كَـانَ فِي الـدُّنْـيَا ذَا وَجْهَـيْنِ وَلِسَـانَيْنِ يُعْرَفُ بِـذَلِـكَ يَوْمَ القِـيَامَةِ(
وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 143، من أبواب أحكام العشرة، ح 5 ). وَيَـكُونُ
مَشْـمُولاً بِالآيَـةِ الشرِيفَة: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ
أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(الرعد/25). إن النفاق وذا الوجهين مضافاً إلى ما
تقدم يكونان مصدر ك ثير من المفاسد [186] والمهالك التي يمكن لأية واحدة منها أن
تحكم بالفناء على دنيا الإِنسان وآخرته، مثل"الفتنـة"التي ينص القرآن الكريم على
إنها"أَشَـدُّ مِـنَ الـقَـتْلِ"( سورة البقرة، آية: 191). ومثل"النميمة"التي يقول عنها
الإِمام الباقر عليه السلام: "مُـحَرَّمةٌ الجَـنَّةُ عَلَى القَـتَاتِين المَـشّائِين بالنَّمِـيمَةِ"( أصول
الكافي، المجلد الثامن، كتاب الإيمان والكفر، باب النميمة، ح 2، القـتّات: النمام ).
ومثل"الغيبة"التي قال عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:"إِنَّـهَا أَشَدُّ مِـنَ
الزِّنَـا". ومثل إيذاء المؤمن وسبه وكشف الستر عنه وإفشاء سره، وغيرها مما يعد كل
واحد منها سبباً مستقلاً لهلاك الإِنسان. واعلم أنه تندرج في النفاق وذي الوجهين جملة أمور
هي: الغمز واللمز والكنايات التي يطلقها البعض على البعض الآخر، على الرغم من إظهار
المحبة والصداقة الحميم ة. فعلى الإِنسان أن يكون على حذر شديد، وأن يراقب سلوكه
وأعماله. فإن مكائد النفس والأساليب الشيطانية الماكرة خفية جداً، قلّ من استطاع
الإِفلات منها. فقد يصبح الإِنسان بإشارة من إشاراته التي تصدر في غير محلها، أو بغمز
وتعريض يصدر منه في غير موضعه، من ذوي الوجهين، وقد يكون الإِنسان مُـبْتَلى بهذه
الرذيلة حتى نهاية عمره، بينما هو يتصور نفسه سليمة وطاهرة. إذاً، على الإِنسان أن يكون
كمثل الطبيب العطوف الحاذق، والممرض الشفيق المطلع على حالات النفس، يراقب أعماله
وتطوراته دائماً ولا يغفل عن ذلك أبداً، وأن يعلم أنه ما من مرض أخفى، وفي الوقت نفسه
أفتك، من الأمراض القلبية، وأنه ما من ممرض يكون أشفق وأعطف على الإِنسان، من
نفسه. فصــــــل في معــالجــة النفــاق اعلم أن لعلاج هذه الخطيئة
الكبيرة طريقان: أحدهما: هو التفكير في المفاسد التي تنتج عنها. ذلك أن الإِنسان في هذه
الدنيا إذا عُـرف بهذه الصفة بين الناس سقط من أنظارهم، وافتضح بين الخاصة والعامة،
وفقد كرامته بين أصحابه، فيطردونه من مجالسهم، ويتخلف عن محافل [187] أنسهم،
ويقتصر عن اكتساب الكمالات وبلوغ المقاصد. فعلى الإِنسان ذي الشرف والضمير أن
يطهّر نفسه من هذا العار الملطخ للشرف، لكيلا يبتلى بأمثال هذه الحالات من الذل
والضعة. كذلك الأمر في عالم الآخرة، عالم كشف الأسرار. إذ كل ما هو مستور قي هذه
الدنيا عن أنظار الناس لا يمكن ستره في عالم الآخرة. فهناك يحشر وهو مشوّه الخلقة بلسانين
من نار، ويعذب من المنافقين والشياطين. إذاً، فالإِنسان العاقل إذا ما رأى هذه المفاسد، ولم
يجد لذلك الخلق نتيجة غير القبح والرذيلة، وجب عليه أن يتجنب الاتصاف بهذه الصفة
والسلوك للمعالجة وهو: الطريق الآخر: وهو الأسلوب العملي لعلاج النفس وهو أن يراقب
الإِنسان حركاته وسكناته بكل دقة وتمحيص لفترة من الوقت، وأن يعمد إلى العمل بما
يخالف رغبات النفس وتمنياتها، وأن يجاهد في جعل أعماله وأقواله في الظاهر والباطن واحدة
وأن يبتعد عن التظاهر والتدليس في حياته العملية، وأن يطلب من الله تعالى، خلال ذلك،
التوفيق والنجاح في التغلب على النفس الأمارة وأهوائها، ويعينه في محا ولاته العلاجية. إذ أن
فضل الله تعالى على الناس ورحمته بهم لا نهاية لها. وهو يشمل بعونه كل من خطا نحو
إصلاح نفسه، ويمدّ يد الرحمة لانتشاله. فإذا ثابر على ذلك بعض الوقت، كان له أن يرجو
لنفسه الصفاء و الانعتاق من النفاق ذي الوجهينية، وأن يصل إلى حيث يتطهّر قلبه من هذه
الرذيلة ليصبح موضع ألطاف الله ورحمة ولي نعمته الحقيقي. وذلك لأن التجربة والبراهين
تدل على أنه ما دامت النفس في هذه الدنيا، كانت منفعلة بما يصدر عنها من أفعال وأقوال،
الصالحة منها والطالحة، ويكون لكل ذلك أثر فيها. فإذا كان العمل صالحا، كن أثره نورانياً
كمالياً، وإذا كان خلاف ذلك، كان أثره مظلماً انتقاصياً، حتى يصبح القلب كله نيّراً أو
مظلماً، منخرطاً في سلك السعداء أو الأشقياء. إذاً، فما دمنا في دار العمل وفي هذه المزرعة،
فإننا نستطيع بإرادتنا أن ندفع بقلوبنا إما إلى السعا ة وإما إلى الشقاء، لأن المرء رهين بعمله
وفعله:{ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه }(الزلزلة/
7-8). [188] فصــــــل في بيــان بعــض أقســام النـفــاق
اعلم أيها العزيز أن من مراتب النفاق وذي اللسانين والوجهين، النفاق مع الله تعالى والتوجه
إلى مالك الملوك ووليّ النِعم بوجهين، حيث نكون المبتلين به في هذا العالمُ ونحن غافلون عنه.
لأن أستار الجهل الكثيفة وحجب الأنانية المظلمة وحب الدنيا وحب الذات مسدولة عليه
ومختفية عنّـا ومن الصعب جداً أن ننتبه له قبل انكشاف السر ائر، ورفع الحجب، والظعن
عن دنيا الطبيعة، وشدّ الرحال عن دار الغرور ودار الجهل والغفلة. إننا الآن غارقون في نوم
الغفلة، محكومون لسكر الطبيعة، والميول والرغبات التي تزيّن لنا كل قبائح الأخلاق وفساد
الأعمال، وإذا ما استيقظنا وصحونا من هذه السكرة العميقة يكون قد فات الأوان. إذ نجد
أنفسنا قد صرنا في زمرة المنافقين وذي الوجهين واللسانين وحُشرنا بلسانين من نار، أو
بوجهيـن مشوّهين بشعين! وعندئذٍ لـن تنفعنا نداءاتنا {رَبِّ ارْجِعُونِ}(المؤمنون99).
إننا نجاب بـ"كلاّ". إن صفة التلون هذه تكون بحيث أننا - أنا وأنت - نقضي كل عمرنا
ونحن نظهر التمسك بكلمة التوحيد، وندعي الإِسلام والإِيمان، بل المحبة والمحبوبية، وغير ذلك
من الادعاءات على قدر ما نشتهي ونحب. فإذا كنّا من عامة الناس وعوامهم ادّعينا الإِسلام
والإِيمان والزهد والخلوص. وإِذا كنا من أهل العلم و الفقه، ادّعينا كمال الإِخلاص والولاية
وخلافة الرسول، متشبثين بما نقل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"اللهُمَّ
ارْحَمْ خُلَفَائِي"(وسائل الشيعة، المجلد الثامن عشر، أبواب صفات القاضي ص 100 _
101)، وبقول الإِمام صاحب الزمان روحي له الفداء:"إنّهم حجّتي"( وسائل الشيعة،
المجلد الثامن عشر، أبواب صفات القاضي ص 100 - 101 ). وغير ذلك من الأقوال
المنقولة عن أئمة الهدى سلام الله عليهم في شأن العلماء والفقهاء. [189] وإذا كنّا من أهل
العلوم العقلية، ادعينا الإِيمان الحقيقي المبرهن، وزعمنا أننا نملك علم اليقين، وعين اليقين،
وحق اليقين، معتقدين أن سائر خلق الله ناقصو علم وإيمان، ونستشهد بالآيات القرآنية
والأحاديث الشريفة الواردة بحقنا. وإذا كنا من أهل العرفان والتصوف، ادعينا المعارف
الإلهية والانجذاب الروحي والفناء في الله، والبقاء بالله، وولاية الأمر، وما إلى ذلك من الأقو
ال مما يخطر بالبال من الألفاظ الجذابة. وهكذا فإنّ كل طائفة منا تدعي بلسانها وظاهر
حالها أن لها مرتبتها وإظهار حقيقة من الحقائق الشائعة. فإذا كان هذا الظاهر مطابقاً
للباطن، واتفق العلن مع السرِّ، وكان صادقاً مصدقاً، فهنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم. أما إذا
كان، مثل كاتب هذه السطور، الأسود الوجه، القبيح، المشوه الخلقة، فليعلم أنه من المنافقين
وذوي الوجهين واللسانين، وعليه أن يبادر إلى علاج نفسه، وأن يغتنم الفرصة قبل فواتها
للخروج من التعاسة والذل والظلام. أيها العزيز المدعي للإسلام: قد ورد في"الكافي"حديث
شريف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ
يَدِهِ وَلِسَانِهِ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته ح
12) فلماذا نقوم أنا وأنت وعلى قدر ما نستطيع ونتمكن، على إيصال الأذى إلى من هم
أقل منّا ولا نمتنع عن ظلمهم والإِجحاف بحقهم؟ وإذا لم تصل أيدينا إليهم فلن نتوقف عن
تجريحهم بحدّ اللسان في حضورهم، أو حتى في غيابهم، فنعمد إلى هتك أسرارهم، والكشف
عن مكنوناتهم، واغتيابهم، وإلصاق التهم بهم. إذاً فادعاؤنا نحن الذين لا يسلم المسلمون من
أيدينا وألسنتنا، للإِسلام مخالف للحقيقة، وباطننا يخالف ظاهرنا، وأننا من زمرة المنافقين
ومن ذوي الوجهين. يا من تدّعي الإِيمان وخضوع القلب في حضرة الله ذي الجلال، إذا
كنت تؤمن بكلمة التوحيد، ولا يعبد قلبك غير الواحد، ولا يطلب غيره، ولا ترى الألوهية
[190] تستحق إِلاّ لذاته المقدسة، وإذا كان ظاهرك وباطنك يتفقان فيما تدّعي، فلماذا
نجدك وقد خضع قلبك لأهل الدنيا كل هذا الخضوع؟ لماذا تعبدهم؟ أليس ذلك لأنك ترى
لهم تأثيراً في هذا العالم، وترى أنّ إرادتهم هي النافـذة، وترى أنّ المال والقوة هما الطاقة
المؤثرة والفاعلة؟ وأ ن ما لا تراه فاعلاً في هذا العالم هو إرادة الحق تعالى، فتخضع لجميع
الأسباب الظاهرية، وتغفل عن المؤثر الحقيقي وعن مسبب جميع الأسباب، ومع كل ذلك
تدّعي الإِيمان بكلمة التوحيد. إذاً، فأنت أيضاً خارج عن زمرة المؤمنين، وداخل في زمرة
المنافقين ومحشور مع أصحاب اللسانين. وأنت يا من تدّعي الزهد والإِخلاص، إذا كنت
مخلصاً حقاً، وأنك لأجل الله ولأجل دار كرامته تزهد عن مشتهيات الدنيا، فما الذي
يحملك على أن تفرح بمدح الناس لك والثناء عليك بقولهم أنك من أهل الصلاح والسداد؟
فيملأ السرور قلبك، ولماذا لا تبخل بشيء في سبيل مجالسة أهل الدنيا وفي سبيل زخارفها،
وتفرّ من الفقراء والمساكين؟ فاعلم أن زهدك وإخلاصك ليسا حقيقيين، بل أن زهدك في
الدنيا هو من أجل الدنيا، وأن قلبك ليس خالصاً لوجه الله، وأنك كاذب في دعواك، وأنك
من المتلوّنين المنافقين. وأنت يا من تدّعـي الولاية مـن جانب ولي الله، والخلافة من
جانب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فإن كان واقعك مطابقاً للحديث المروي في
كتاب"الاحتجاج":"صَائِنَاً لِنَفْـسِهِ، حَافِـظاً لِدِينِهِ، مُخَالِـفاً لِهَواهُ، مُطِيعاً لأَمْرِ
مَوْلاه"( الاحتجاج، المجلد الثاني، احتجاجات الإمام الحسن العسكري عليه السلام ص
458 ). وإذا كنت ورقة على غصن الولاية والرسالة، ولا تميل إلى الدنيا، ولا تحب التقرب
إلى السلاطين والأشراف، ولا تنفر من مجالسة الفقراء، فإن اسمك يطابق مسماه، وأنك من
الحجج الإِلهية بين الناس، وإلاّ فإنك من علماء السوء، وفي زمرة المنافقين، وحالك أسوأ من
الطوائف التي ذكرناها، وعملك أقبح، ويومك أشد سواداً، لأن الحجة على العلماء أتم.
[191] وأنت يا من تدّعي امتلاك الحكمة الإِلهية، والعلم بحقائق المبدأ والمعاد، إذا كنتَ
عالماً بالحقائق في الأسباب والمسببات، وإذا كنت حقاً عالماً بالصور البرزخية وأحوال الجنة
والنار، فلا بُدّ أن لا يقر لك قرار، وعليك أن تصرف كل وقتك في إعمار عالم البقاء، وأن
تهرب من هذه الدنيا ومغرياتها، فأنت عالم بما هنالك من مصائب وظلام وعذاب لا يطاق.
إذاً، لماذا لا تتقدم ولو خطوة واحدة خارج حجب الكلمات والألفاظ والمفاهيم، ولم تؤثر
في قلبك البراهين الفلسفية قدر جناح ذبابة؟ إذاً، أنت خارج عن زمرة المؤمنين والحكماء،
ومحشور في زمرة المنافقين، وويل للذي يقضي عمره وسعيه في علوم ما وراء الطبيعة، دون
أن يسمح له انتشاؤه بخمر الطبيعة ولو بدخول حقيقة واحدة إلى قلبه. وأنت يا من تدعي
المعرفة والانجذاب والسلوك والمحبة والفناء، إذا كنت حقاً من أهل الله ومن أصحاب
القلوب، ومن ذوي السابقة الحسنة، فهنيئاً لك. ولكن كل هذه الشطحات وهذا التلون
وتلك الادعاءات اللامسؤولة التي تكشف عن حب الذات ووسوسة الشيطان، تتعارض مع
المحبة والانجذاب"إنَّ أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لاَ يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي"( إحياء العلوم، المجلد الرابع، ص
256 ) . فأنت إذا كنت من أولياء الله المنجذبين إليه ومحبيه، فإن الله يعلم بذلك، فلا تظهر
للناس مدى مقامك ومنزلتك بهذه الصورة، ولا تسعَ لتـلفت قلوب عباد الله الضعيفة من
وجهة خالقها إلى وجهة المخلوق ولا تغتصب بيت الله. وأعلم أن عباد الله أعزاء وقلوبهم
ثمينة ويجب إن تشتغل في محبة الله، فلا تتلاعب إلـى هذا الحـد ببيت الله ولا تتعرض
لحرماته"فَإنَّ لِـلْبَيْتِ رَبّـاً"فإذا لم تكن صادقاً في دعاواك، فأنت في زمرة أهل النفاق ومن
ذوي الوجهين. لنكتف بهذا القدر هنا، إذ ليس الإسهاب في هذا الموضوع مما يجدر بي وأنا
ذو الوجه المظلم!. يا أيتها النفس اللئيمة التي تتظاهرين بالتفكير للخروج من الأيام المظلمة
والنجاة من هذه التعاسة. إذا كنت صادقة، وقلبك يواكب لسانك، وسرّك يطابق علنك،
فلماذا أنتِ غافلة إلى ه ذا الحد؟ ولماذا يسيطر عليكِ القلب المظلم [192] والشهوات
النفسانية وتتغلب عليكِ، دون أن تفكري في رحلة الموت المليئة بالمخاطر؟ لقد تصرّم عمرك
دون أن تبتعد عن أهوائك ورغباتك. لقد أمضيت عمراً منغمساً في الشهوة والغفلة والشقاء
وسيحلّ الأجل قريباً، وأنت ما زلت تمارس أعمالك وأخلاقك القبيحة. فأنت نفسك واعظ
وغير متعظ، ومن زمرة المنافقين وذوي الوجهين. ولئن بقيت على هذا الحال فستحشر
بوجهين ولسانين من نار ... اللهم أيقضنا من هذه الرقدة المديدة، وصَـحِّنا من السُـكْر
والغفلة! وأنر قلوبنا بنور الإِيمان! وأرحم حالنا! إننا لسنا من رجال هذا الميدان. فـمُدَّ
إلـينا يدك وأعـنّا على النجاة من مخالب الشيطان وأهواء النفس، بحق أوليائك محمد وآله
الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين. [193] الحــديــث العــاشر "إتبـــاع
الـهــوى وطول الأمل" [194] بالإسناد المتّـصلة إلى رئيس المحدِّثين م حمّد بن
يعقوب - رضوان الله عليه - عن الحسين بن محمّـد، عن معـلّى بن محمّـد، عن
الوشّـاء، عن عاصِـمِ بن حُمَـيْد، عَنْ أبي حَمْـزَةَ، عَنْ يَحْـيى بْنِ عَـقيل قالَ:
قال أمير المؤمنين - عليه السّلام -:"إِنَّـما أخَـافُ عَـلَيْكُمُ اثـْنَـتَيْنِ: اتِّبَاع الهَوى
وَطُـولَ الأمَـلِ، أمّـا إتِّباعُ الهَـوى فَـإِنَّـهُ يَصُدُّ عَنِ الحَـقِّ وَأمّـا طُـولُ
الأَمَـِل فَإِنَّـهُ يِـِـْنسِي الآخرة"( أصول الكافي،المجلد الثاني، الإيمان والكفر، باب إتباع
الهوى، ح 3. ). {195} الشرح: "الهوى"في اللغة"حب الشيء"و"اشتهاؤه"من دون
فرق في أن يكون المتعلقة أمراً حسناً ممدوحاً، أو قبيحاً مذموماً. أو أن النفس بمقتضى الطبيعة
تميل إلى الشهوات الباطلة والأهواء النفسية، لولا العقل والشرع اللذان يكبحانها( يبدو هنا
سقط في الكلام ( في نسخة الأصل ) ). أما احتمال الحقيقة الشرعية - كما يقول بعض
المحققين - فمستبعد. أما"الصدّ"عن الشيء فمعناه المنع والإعراض والانصراف عنه. وهي
معان تناسب الكلمة، إلاّ أن المعنى المقصود هنا هو المنع والانصراف عن الشيء، إذ أن الصدّ
بمعنى الإعراض يكون لازما لا متعديا. وسوف نحاول، إن شاء الله، من خلال مقامين اثنين
أن نوضح فساد هاتين الصفتين، وكيف تقوم الأولى بالمنع عن الحق. وتقوم الثانية بنسيان
الآخرة. طالبين من الله التوفيق. المقام الأول في ذم إتباع هوى النفس و فيه فصول
فصــــل في بيـان أن الإنسـان عند ولادته يكون حيوانـا بالفعـل اعلم أن
النفس الإنسانية، على الرغم من كونها - في معنى من المعاني الخارجة عن نطاق بحثنا -
مفطورة على التوحيد، بل هي مفطورة على جميع {196} العقائد الحقـة. ولكنها منذ
ولادتها وخروجها إلى هذا العالم تنمو معها الميول النفسية والشهوات الحيوانية، إلاّ من أيّده
الله وكان له حافظ قدسي. ولما كان هذا ال استثناء من النوادر فإنه لا يدخل في حسابنا،
لأننا نتناول نوع الإنسان عموما. لقد ثبت في محلّه بالبراهين أن الإنسان منذ أول ظهوره،
وبعد مروره بمراحل عدّة، لا يعدو أن يكون حيواناً ضعيفاً لا يمتاز عن سائر الحيوانات إلاّ
بقابلياته الإنسانية. وأن تلك القابليات ليست بمقياس إنسانيته الفعلية. فالإنسان حيوان
بالفعل عند دخوله هذا العالم، ولا معيار له سوى شريعة الحيوانات التي تديرها الشهوة
والغضب. ولكن لما كان أعجوبة الدهر هذا - الإنسان - ذات جامعة، أو قابلة على الجمع،
فإنه لكي يدبر هاتين القوتين، تجده يلتجأ إلى استعمال الصفات الشيطانية، مثل الكذب
والخديعة والنفاق والنميمة وسائر الصفات الشيطانية الأخرى. وهو بهذه القوى الثلاث -
الشهوة، الغضب، هوى النفس - التي هي أصل كل المفاسد المهلكة، يخطو نحو التقدم،
فتنمو فيه كذلك هذه القوى وتتـقدم وتتعاظم. وإذا لم تقع تحت تأثير مربّ أو معلم، فإنه
يصبح عند الرشد والبلوغ حيوانا عجيبا يفوز بقصب السبق في تلك الأمور المذكورة على
سائر الحيوانات والشياطين، ويكون أقوى وأكمل في مقام الحيوانية والصفات الشيطانية من
الجميع. وإذا ما استمرت حاله على هذا المنوال، ولم يتبع في هذه الشئون الثلاثة سوى أهوائه
النفسية، فلن يبرز فيه شيء من المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، بل
تنطفئ فيه جميع الأنوار الفطرية. فتـقع جميع مراتب الحق التي لا تعدو هذه المقامات الثلاثة
التي ذكرناها - أي المعارف الإلهية، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة - تحت أقدام
الأهواء النفسية. وعندئذ يصبح إتباع الأهواء النفسية والرغبات الحيوانية حائلاً دون أن
يتجلّى فيه الحق من خلال أية واحدة من تلك المراتب، ويطفئ ظلام النفس وأهوائها كل
أنوار العقل والإيمان، ولن تتاح له ولادة ثانية، أي الولادة الإنسانية، بل يمكث على تلك الح
ال ويكون ممنوعا ومصدودا عن الحق والحقيقة إلى أن يرحل عن هذا العالم. أن مثل هذا
الشخص إذا رحل عن هذا العالم بتلك الحالة، فلن يرى نفسه في ذلك العالم، عالم كشف
السرائر، إلاّ حيوانا أو شيطانا. لا تشمّ{197} منه رائحة الإنسان والإنسانية أبدا، فيبقى
في تلك الحال من الظلام والعذاب والخوف الذي لا ينتهي حتى يقضي الله أمرا كان
مفعولا. إذن هذه هي حال التبعية الكاملة لأهواء النفس والتي تُبعد الإنسان نهائيا عن الحق.
ومن هنا يمكن أن نعرف أن ميزان البعد عن الحق هو إتباع هوى النفس. ومسافة هذا البعد
تقدر أيضا بمقدار التبعية. فمثلا، لو أن هذا الإنسان، استطاع أن يجعل مملكة إنسانية هذا
الإنسان الذي اقترن منذ ولادته بالقوى الثلاثة وترعرعت وتكاملت تلك القوى أيضا مع نمو
الإنسان وتكامله، لو استطاع أن يجعل هذه المملكة متأثرة بتربية تعاليم الأنبياء والعلماء
والمرشدين لاستسلم شيئا فشي ئا لسلطة تربية الأنبياء والأولياء عليهم السلام، فقد لا يمضي
عليه وقت طويل حتى تصبح القوة الكاملة الإنسانية، التي أودعت فيه على أساس القابلية
فعلية تظهر للعيان، وترجع جميع شؤون مملكته وقواها إلى شأن الإنسانية بحيث يجعل شيطان
نفسه يؤمن على يديه كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:"إنَّ شَيْطَانِي آمَنَ
بِيَدي"( ورد مثل هذا الحديث في كتاب غوالي اللئالي المجلد 4 ص97. وفي كتاب علم
اليقين، المجلد 1، ص282) فتستسلم حيوانيته لإنسانيته، حتى تصبح مطيّه مروّضه على
طريق عالم الكمال والرقي، وبراقا يرتاد السماء نحو الآخرة، ويمتـنع عن كل معاندة وتمرد.
وبعد أن تستسلم الشهوة والغضب إلى مقام العدل والشرع تنتشر العدالة في المملكة،
وتتشكل حكومة عادلة حقه يكون فيها العمل والسيادة للحق وللقوانين الحقة، بحيث لا
تتخذ فيها خطوة واحدة ضد الحق، وتكون خالية من كل باطل وجور. وعلي ه، فكما أن
ميزان منع الحق والصدّ عنها إتباع الهوى، فكذلك ميزان اجتذاب الحق وسيادته هو متابعة
الشرع والعقل. وبين هذين المقياسين وهما التبعية التامّة لهوى النفس والتبعـيّة التامة المطلقة
للعقل منازل غير متناهية، بحيث أن كل خطوة يخطوها في إتباع هوى النفس، يكون بالمقدار
نفسه قد منع الحق، وحجب الحقيقة، وابتعد عن أنوار الكمال الإنساني وأسرار وجوده.
وبعكس ذلك، كلما خطا خطوة مخالفة لهوى النفس ورغبتها، يكون بالمقدار نفسه قد أزاح
الحجاب وتجلّى نور الحق في المملكة. {198} فصـل فـي ذم إتباع الهـوى يقول الله
تعالى في ذم اتّباع النفس وأهوائها: {وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}(ص/ 26 )
... {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ }(القصص/ 50 ). وجاء في الكافي
الشريف، بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام قال:"قال رسول الله ص لّى الله عليه وآله
وسلم: يَقُولُ اللّهُ عَزَّ وجَـلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَعَـظَمَتِي وَكِبْرِيائِي وَنُورِي وَعُـلوّي
وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَواهُ على هَوايَ إلاّ شَتَّتُّ عَليهِ أَمْرُهُ وَلَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ
وَشَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا وَلَمْ أوتِهِ مِنْها إلاّ ما قدَّرْتُ لَهُ وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي وَعَظَمَتِي وَنُورِي وَعُلُوّي
وَارْتِفَاع مَكَانِي لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوايَ عَلَى هَواهُ إلاّ اسْـتَحْفَظَـتْهُ مَلائِكَتِي وَكَفَّـلْتُ
السَّـمَواتِ والأَرْضَينَ رِزْقَـةُ وَكُنْتُ لَهُ مِـْن وَرَاءِ تِجارةِ كُلِّ تَـاجِرٍ وَأتَـتْهُ الدُّنْـيَا
وَهِيَ راغِمَةٌ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب اتباع الهوى، ح 2
). وهذا الحديث الشريف من محكمات الأحاديث التي يدل مضمونها على أنه ينبع من علم
الله تعالى الرائق ح تى وإن كان مطعوناً فيه بضعف السند، فنحن لسنا بصدد شرحه. وهناك
حديث آخر منقول عن الإمام علي عليه السلام قال فيه: "إنَّ أخْـوَفُ مَـا أَخَـاف
عَلَيْكُمُ اثْنَانِ إتِّـبَاعُ الهَوى، وَطُـولُ الأَمَـلِ"( نهج البلاغة، خطبة-42- (الشيخ
صبحي الصالح) ). وجاء في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "احْذَرُوا
أهْوائكُمْ كَما تْحذَرُونَ أَعْدَاءَكُمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أعْدى لِلرِّجَالِ مِن إتّباعِ أهْوائِهمْ وَحَصَائِد
ألْسِنَتـهم"( أصول الكافي،المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب إتباع الهوى، ح1)
اعلم أيها العزيز، أن رغبات النفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل إلى حد أو غاية. فإذا اتبعها
الإنسان ولو بخطوة واحدة، فسوف يضطر إلى أن يتبع تلك الخطوة {199} خطوات،
وإذا رضي بهوى واحد من أهوائها، اجبر على الرضى بالكثير منها. ولئن فتحت بابا واحدا
لهوى نفسك، فإنّ عليك أن تف تح أبوابا عديدة له. إنك بمتابعتك هوى واحداً من أهواء
النفس توقعها في عدد من المفاسد، ومن ثم سوف تبتلى بآلاف المهالك، حتى تنغلق - لا
سمح الله - جميع طرق الحق بوجهك في آخر لحظات حياتك، كما أخبر الله بذلك في نص
كتابه الكريم، وكان هذا هو أخشى ما يخشاه أمير المؤمنين وولي الأمر، والمولى، والمرشد
والكفيل للهداية والموجِّـه للعائلة البشرية عليه السلام. بل إن روح النبي صلّى الله عليه وآله
وسلم وأرواح الأئمة عليهم السلام تكون جميعا في قلق واضطراب لئلا تسقط أوراق شجرة
النبوة والولاية وتذوي. قال صلّى الله عليه وآله وسلم: "تَـناكحوا تَـنَاسـلوا فَـإنّي
أُبَـاهي بِكُمُ الأُمَـمَ وَلَـوْ بِالسِّـقْـطِ"("مستدرك وسائل الشيعة"كتاب النكاح -
الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح -ح17. لا تجد في الحديث هنا كلمة (ولو
بالسقط). ورد في تفسير أبو الفتوح الرازي (سورة النور - آيه 32 )"ت َنَاكَحُوا تَكْثُرُوا
فَإِنِي أُباهي بِكُمُ الأمَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَوْ بِالْسقطِ") لا شك في أنه لو سار الإنسان في مثل
هذه الطريق المحفوفة المحفوفة بالمخاطر مما قد يلقي به إلى هوّة الفناء ويجعله موضع عقوق
أبيه الحقيقي، أي النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم، ويبحث عن نمط العظيم الذي
هو رحمة للعالمين. فما أشد تعاسته، وما أكثر المصائب والبلايا التي يخبئها له الغيب!. فإذا
كنت على صلة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وإذا كنت تحب أمير المؤمنين عليه
السلام وإذا كنت من محبي أولادهما الطاهرين، فاسْعَ لكي تزيل عن قلوبهم المباركة القلق
والاضطراب. لقد جاء في القرآن الكريم في سورة هود: {... فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ
مَعَكَ ...}(هود/ 112). وجاء في الحديث [200] الشريف أن النبي صلّى الله عليه وآله
وسلم قال:"شَـيَّـبَـتْـنِـي سُـورَةُ هُود لِمَكَانِ هذِهِ الآيـةِ"( تفسير مجمع البيان -
المجلد الخامس- ص 140) يقول الشيخ العارف الكامل الشاه آبادي - روحي فداه -"هذا،
على الرغم من أن هذه الآية قد جاءت في سورة الشورى أيضا، ولكن من دون {وَمَـنْ
تَـابَ مَـَعكَ} إلاّ أن النبي خصّ سورة هود بالذكر، والسبب أن الله تعالى طلب منه
استقامة الأمة أيضا، فكان يخشى أن لا يتحقق ذلك الطلب، وإلاّ فإنه بذاته كان أشدّ ما
يكون استقامة، بل لقد كان صلّى الله عليه وآله وسلم مثال العدل والاستقامة". إذاً، يا
أخي، إذا كنتَ تعرف أنك من أتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وتريد أن تحقق هدفه،
فاعمل على أن لا تخجله بقبيح عملك وسوء فعلك. ألا ترى أنه إذا كان أحد من أولادك
والمقربين إليك يعمل القبيح وغير المناسب من الأعمال التي تتعارض وشأنك، فكم سيكون
ذلك مدعاة لخجلك من الناس وسبباً في طأطأة رأسك أمامهم؟ ولا بد أن تعلم أن رسول
الله صلّى الل ه عليه وآله وسلم، وعلي عليه السلام، هما أبوا هذه الأمة بنصّ ما قاله النبي
الكريم: "أنـا وَعَلِـيُّ أَبَـوا هذِهِ الأُمَّـة"( بحار الأنوار - ج 36 - ح 12 ص 11 ).
فلو أحضرنا في حضرة ربّ العالمين يوم الحساب وأمام نبينا وأئمتنا، ولم يكن في كتاب
أعمالنا سوى القبيح من الأعمال، فإن ذلك سوف يصعب عليهم ولسوف يشعرون بالخجل
في حضرة الله والملائكة والأنبياء. وهذا هو الظلم العظيم الذي نكون قد ارتكبناه بحقهم،
وإنها لمصيبة عظمى نبتلى بها، ولا نعلم ما الذي سيفعله الله بنا؟ فيا أيها الإنسان الظلوم
الجهول، يا من تظلم نفسك! كيف تكافئ أوليائك الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل
هدايتك، وتحمّلوا أشد المصائب، وأفظع القتل، وأقسى السبي لنسائهم وأطفالهم من أجل
إرشادك ونجاتك؟ فبدلاً من أن تشكرهم على ما فعلوا وتحفظ لهم أياديهم البيض نحوك، تقوم
بظلمهم ظنا منك أنك إنما تظلم نفسك وحدها! استيقظ من نوم الغفلة، واخجل من
نفسك، [201] واتركهم يعانون من الظلم الذي تحمّلوه من أعداء الدين من دون أن
تضيف على ظلامتهم ظلامة أخرى، لأن الظلم من المحب أشد ألماً وأكثر قبحـاً!.
فصــــــل في تعــدد هـوى النـفــس لا بُـدَّ أن نعرف أن أهواء النفس
متعددة ومتنوعة من حيث المراتب والمتعلقات، وقد تكون أحيانا من الدقة بحيث أن الإنسان
نفسه يغفل عن ملاحظة أنها من مكائد الشيطان ومن أهواء النفس، ما لم يـُنَبّه على ذلك،
ويوقظ من غفلته. إلاّ أنها جميعها تشترك في كونها تمنع الحق وتصدّ عن طريقه، رغم
اختلاف مراتبها ودرجاتها، فإن أصحاب الأهواء الباطلة من الذين يتخذون الآلهة من
الذهب وغيرهم - كما يخبر الله سبحانه عنهم في قوله {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }(
الجاثية/ 23) وغيرها من الآيات الشريفة - ينقطعون عن الله، بصورة معيّنة، وإن أتْبَـاع
الأهواء النفسية وال أباطيل الشيطانية في عقائدهم الباطلة وأخلاقهم الفاسدة يحتجبون عنه
سبحانه بصورة أخرى، وإن أصحاب المعاصي الكبيرة والصغيرة والموبقات والمهلكات كل
حسب درجة المعصية ومرتبتها يبتعدون عن سبيل الحق بصورة ثالثة. وإن أهل الأهواء في
الرغبات النفسية المباحة مع الانشغال والانهماك فيها يتخلّفون عن سبيل الحق بصورة رابعة.
وإن أهل المناسك والطاعات الظاهرية الذين يعبدون من أجل عمران الآخرة وتلبية الشهوات
النفسية ومن أجل البلوغ إلى الدرجات العلى أو الخشية من العذاب الأليم والنجاة من
الدركات السفلى يحتجبون عن الحق وسبيله بصورة خامسة، وإن أصحاب تهذيب النفس
وترويضها، لإظهار قدرتها والوصول إلى جنة الصفات، فيفصلون عن الحق ولقائه بشكل
آخر، وإن أهل العرفان والسلوك والانجذاب ومقامات العارفين الذين لا يهمهم سوى لقاء
الحق والوصول إلى مقام القرب، يحتجبون عن الحق وتجلياته الخاصة بنوع سابعلأن التلوّن
وآثار وجوده الخاص لا يزال عندهم موجودا. ثم توجد بعد هذه المراتب درجات أخرى لا
يناسب ذكرها في هذا المقام. [202] فإن على أصحاب هذه المراتب أن يراقبوا بدقة
حالهم، وأن يطهّروا أنفسهم من الأهواء لئلا يتخلّـفوا عن طريق الله ولا يظلّوا عن
مسالك الحقيقة، حتى تظلّ أبواب الرحمة مفتوحة عليهم، مهما تكن مقاماتهم ومنازلهم.
واللّهُ وَليُّ الهِدَايَةِ. المقام الثاني في ذم طـول الأمل وفيه فصلان فصل في بيــان أن
طول الأمــل ينسي الآخــرة اعلم أن المنزل الأول من منازل الإنسانية هو منزل
اليقظة كما يقوله كبار أهل السلوك في بيانهم لمنازل السالكين، ولهذا المنزل كما يقول
الشيخ العظيم الشأن الشاه آبادي - دام ظله - بيوت عشرة، لسنا الآن بصدد تعدادها.
ولكن ما يجب قوله هو أن الإنسان ما لم ينتبه إلى أنه مسافر، ولا بُدَّ من السير، وأن له
هدف وتجب الحركة نحوه، وأن البلوغ إلى ال مقصد ممكن، لما حصل له العزم والإرادة
للتحرك. ولكل واحد من هذه الأمور، شرح وبيان لو ذكرناه لطال بنا المقام. ويجب أن
نعرف أن من أهم أسباب عدم التيقظ الذي يؤدي إلى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير،
وإلى إماتة العزم والإرادة، هو أن يظن الإنسان أن في الوقت متسعاً للبدء بالسير، وأنه إذا لم
يبدأ بالتحرك نحو المقصد اليوم، فسوف يبدأه غداً، وإذا لم يكن في هذا الشهر، فسيكون
في الشهر المقبل. فإن طول الأمل هذا وامتداد الرجاء، وظن طول البقاء، والأمل في الحياة
والرجاء سعة الوقت، يمنع الإنسان من التفكير في المقصد الأساسي الذي هو الآخرة. ومن
لزوم السير نحوه ومن لزوم اتخاذ الصديق وتهيأة الزاد للطريق، ويبعث الإنسان على نسيان
الآخرة ومحو المقصد من فكره - ولا قدّر الله - إذا أصيب الإنسان بنسيان للهدف المنشود
في رحلة بعيدة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر مع ضيق الوقت، وعدم توفّـر العُـدّ َة والعدد
رغم ضرورتهما في السفر، فإنه من الواضح لا يفكر في الزاد والراحلة، ولوازم السفر
وعندما يحين وقت السفر يشعر بالتعاسة، ويتعثر ويسقط في أثناء الطريق، ويهلك دون أن
يهتدي إلى سبيل. [203] فصــــــل ( موعظة حول طول الأمل ) اعلم إذاً،
أيها العزيز، أن أمامك رحلة خطرة لا مناص لك منها، وأن ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد
وراحلة هو العلم والعمل الصالح. وهي رحلة ليس لها موعد معين، فقد يكون الوقت ضيقاً
جداً، فتفوتك الفرصة. إن الإنسان لا يعلم متى يقرع ناقوس الرحيل للانطلاق فوراً. إن
طول الأمل المعشعش عندي وعندك الناجم من حب النفس ومكائد الشيطان الملعون
ومغرياته، تمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا كانت هناك مخاطر
وعوائق في الطريق، فلا نسعى لإزالتها بالتوبة والإنابة والرجوع إلى طريق الله، ولا نعمل
عل تهيئة زاد وراحلة، حتى إذا ما أزف الوعد الم وعود اضطررنا إلى الرحيل دون زاد ولا
راحلة. ومن دون العمل الصالح، والعلم النافع، اللذان تدور عليهما مئونة ذلك العالم، ولم
نهيأ لأنفسنا شيئاً منهما. حتى لو كنا قد عملنا عملاً صالحاً، فإنه لم يكن خالصاً بل مشوباً
بالغش، ومع آلاف من موانع القبول. وإذا كنا قد نلنا بعض العلم، فقد كان علماً بلا
نتيجة وهذا العلم إما أنْ يكون لغواً وباطلاً، وإما أنه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة.
ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثير حتمي وواضح فينا نحن الذين صرفنا
عليهما سنوات طوالاً، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا. فما الذي حصل حتى كان لعملنا
وعلمنا مدة أربعين أو خمسين سنة تأثير معكوس بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من الصخر
القاسي؟ ما الذي جنيناه من الصلاة التي هي معـراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف وتلك
الخشية الملازمة للعلم؟ لو أننا أجبرنا على الرحيل ونحن على هذه الحال - لا سمح اله -
لكان علينا أن نتحمل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق، مما لا يمكن إزالته!.
إذاً، فنسيان الآخرة من الأمور التي يخافها علينا وليّ الله الأعظم، الإمام أمير المؤمنين عليه
السلام، ويخاف علينا من الباعث لهذا النسيان وهو طول الأمل، لأنه يعرف مدى خطورة
هذه الرحلة، ويعلم ماذا يجري على الإنسان الذي يجب أن لا يهدأ لحظة واحدة عن التهيؤ
وإعداد الزاد والراحلة، عندما ينسى العالم الآخر، ويستهويه النوم والغفلة من دون أن يعلم
أن هناك عالما آخر، وأن عليه أن يسير إليه [ 204] حثيثاً. وماذا سيحصل له وما هي
المشاكل التي يواجهها؟ يحسن بنا أن نفكر قليلاً في سيرة أمير المؤمنين والنبي الكريم صلّى
الله عليه وآله وسلم، وهما من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزلل
والطغيان، لكي نقارن بين حالنا وحالهم. إن معرفتهم بطول السفر ومخاطره قد سلبت
الراحة منهم، وأن جهلنا أوجد النسيان والغفلة فينا. إن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم قد
روّض نفسه كثيرا في عبادة الله، وقام على قدميه في طاعة الله حتى ورمت رجلاه،
فنزلـت الآيـة الكريمة تقول له: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(طه/1-2 ).
وعبادات علي عليه السلام وتهجّـده وخوفه من الحق المتعال معروف للجميع. إذاً، اعلم
أن الرحلة كثيرة المخاطر، وإنما هذا النسيان الموجود فينا ليس إلاّ من مكائد النفس
والشيطان، وما هذه الآمال الطوال ألاّ من أحابيل إبليس ومكائده. فتيقظ أيها النائم من
هذا السبات وتنّبه، واعلم أنك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنك راحل عن هذه
الدنيا، شئت أم أبيت. فإذا تهيأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يصبك شيء من عناء السفر،
ولا تصاب بالتعاسة في طريقه، وإلاّ أصبحت فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه،
وذلّه لا عـزّة فيها وفقر لا غناء معه وعذاب لا راحة منه. إنها النـار التي لا تنطفئ
والضغط الذي لا يخفف، والحزن الذي لا يتبعه سرور، والندامة التي لا تنتهي أبداً. أنظر
أيها الأخ إلى ما يقوله الإمام في دعاء كميل وهو يناجي الحق عـزَّ وجـلَّ: "وَأَنْـتَ
تَـعْـلَمُ ضَعْفِي عَـنْ قَلِيلٍ مِـنْ بَلاَءِ الدُّنْـيَا وَعُـقُوبَاتِهَا"إلى أن يقـول :"وَهـذَا
مَـا لا تَـقُومُ لَـهُ السَّـمَوَاتُ وَالأَرْضُ". ترى ما هذا العذاب الذي لا تطيقه
السماوات والأرض، الذي قد أعـدّ لك؟ أفلا تستيقظ وتنتبه، بل تزداد كل يوم استغراقاً
في النوم والغفلة؟ فيا أيها القلب الغافل! انهض من نومك وأعـدّ عدتك للسفر،"فـَقـَدْ
نُـودِيَ فِـيكُمْ [205] بِالـرَّحِـيلِ"( نهج البلاغة - الخطبة-204- ( الشيخ
صبحي الصالح ) )، وعمّـال عزرائيل منهمكون في العمل ويمكن في كل لحظة أن
يسوقوك سوقاً إلى العالم الآخر. ولا تـزال غارقاً في الجهل والغفلة؟ "الـلّ َهُمَّ إِنّـي
أَسْـأَلُكَ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الغُـرُورِ، وَالإِنَـابَةَ إِلَى دارِ السُّـرُورِ والاسْـتِعْـدَادَ
لِلْمَوْتِ قَبْـلَ حُـلُولِ الْـفَـوْتِ"( مفاتيح الجنان، دعاء ليلة السابع والعشرين من شهر
رمضان ). [207] الحَديث الحَادي عـشرَ "الفطـرة" بالسند المُتَّـصِلِ إلى محمّد بن
يعقوب، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَن ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِـيِّ بْنِ
رِئابِ، عن زُرارَةَ قال:"سألتُ أبَا عبْدِالله عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَـلَّ: {فِطْرَتَ
اللهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها}. قال:"فَطَرَهُم جَميعاً على الـتّوحيد".( أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب فطرة الخـلق على التوحيد، ح 3 ) [209] الشرح:
يقول أهل اللغة والتفسير: إن"الفطـرة"تعني الخلـق. وفي
الصحاح:"الفِطرة"بالكسر"الخِلقة". ويمكن أن تكو ن الكلمة مأخوذة من"فَطَرَ"أي"شقّ
ومزّق"كأن الخلق أشبه بشق حجب العدم والغيب. وبهذا المعنى يكون إفطار الصائم،
فكأنه يمزق استمرارية الإمساك المتصل. على كل حال، البحث اللغوي خارج عن نطاق
بحثنا. إنما هذا الحديث الشريف إشارة إلى الآية المباركة في سورة الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(الروم30). فصـــــــل فــي معنــى
الفطـــرة اعلم أن المقصود من"فـِطـْرَة الله"التي فطر الناس عليها هو الحال
والكيفية التي خلق الناس وهم متّصفون بها والتي تعد من لوازم وجودهم.
ولذلك"تخمّرت"طينتهم بها في أصل الخلق. والفطرة الإلهية - كما سيتبيّن فيما بعد - من
الألطاف التي خصّ الله تعالى بها الإنسان من بين جميع المخلوقات، إذ إن الموجودات
الأخرى غير الإنسان إمّا أنها لا تملك مثل هذه الفطرة المذكورة وإما أن لها حظاً ضئيلا
منها. [210] وهنا لا بـُدَّ من معرفة أن الفطرة، وإن فسرت في هذا الحديث الشريف
وغيره من الأحاديث بالتوحيد، إلاّ أن هذا هو من قبيل بيان المصداق، أو التفسير بأشرف
أجزاء الشيء، كأكثر التفاسير الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، وفي كل مرة
تفسر بمصداق جديد بحسب مقتضى المناسبة، فيحسب الجاهل أن هناك تعارضا. والدليل
على أن المقام كذلك هو أن الآية الشريفة تعتبر"الدين"هو"فطرة الله"مع أن الدين يشمل
التوحيد والمبادئ الأخرى. وفي صحيحة عبدالله بن سنان فسرت الفطرة على أنها
تعني"الإسلام". وفي حسنة زرارة فسرت بالمعرفة، وفي الحديث المعروف:"كلُّ مولودٍ يولَدُ
عَلَى الفِطْرَةِ"(غوالي اللئالي، المجلد الأول، ص 35 ) جاءت في
قبال"التهوّد"و"التنصـّر"و"التمجّس". كما أن الإمام البا قر عليه السلام في حسنة زرارة
المذكورة فسّرها بالمعرفة. وعليه، فالفطرة ليست مقصورة على التوحيد، بل إن جميع المبادئ
الحقة هي من الأمور التي فَطَرَ الله تعالى الإنسان عليها. فصـــــــل فــي
تحــديد أحكــام الفطــرة لا بُدَّ أن تعرف بأن ما هو من أحكام الفطرة لا
يمكن أن يختلف فيه اثنان. من ناحية أنها من لوازم الوجود وقد تخمّرت في أصل الطبيعة
والخلقة. فالجميع، من الجاهل والمتوحش والمتحضر والمدني والبدوي، مجمعون على ذلك.
وليس ثمّة منفذ للعادات والمذاهب والطرق المختلفة للتسلّل إليها والإخلال بها. إن اختلاف
البلاد والأهواء والمأنوسات والآراء والعادات، التي توجب وتسبّب الخلاف والاختلاف في
كل شيء، حتى في الأحكام العقلية، ليس لها مثل هذا التأثير أبداً في الأمور الفطرية. كما
أن اختلاف الإدراك والإفهام قوة وضعفاً لا تؤثر فيها. وإذا لم يكن الشيء بتلك الكيفية
فليس من أ حكام الفطرة ويجب إخراجه من فصيلة الأمور الفطرية. ولذلك تقول الآية:
{فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}( الـروم/ 30 ) أي أنها لا [211] تختص بفئة خاصة ولا طائفة
من الناس. ويقول تعالى أيضا:{لاَ تبديلَ لِخَلْقِِ الله} (الروم/ 30 ) أي لا يغيـّره شيء،
كما هو شأن الأمور الأخرى التي تختلف بتأثير العادات وغيرها. ولكن مما يثير الدهشة
والعجب أنه على الرغم من عدم وجود أي خلاف بشأن الأمور الفطرية، من أول العالم
إلى آخره، فإن الناس يكادون أن يكونوا غافلين عن أنهم متفقون، ويظنون أنهم مختلفون،
ما لم ينبههم أحد على ذلك، وعند ذلك يدركون أنهم كانوا متفقين رغم اختلافهم في
الظاهر - كما سيتضح ذلك فيما يأتي من البحث إن شاء الله -. هذا ما تشير إليه الجملة
الأخيرة من الآية الشريفة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(الروم/ 30 ) فيتضح مما سبق
ذكره أن أحكام الفطرة أكثر بداهة من كل أمر بديهي. إذ لا يوجد في جميع الأحكام
العقلية حكم مثلها في البداهة والوضوح، حيث لم يختلف فيه الناس ولن يختلفوا. وعلى هذا
الأساس تكون الفطرة من أوضح الضروريات وأبده البديهيات، كما أن لوازمها أيضاً يجب
أن تكون من أوضح الضروريات. فإذا كان التوحيد أو سائر المعارف من أحكام الفطرة أو
من لوازمها، وجب أن يكون من أوضح الضروريات وأجلى البديهيات {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}. فصـــــــل ( الدين فطرة الله ) اعلم أن المفسرين، من
العامة والخاصة، فسّروا كلٌ على طريقته، كيفية كون الدين أو التوحيد من الفطرة. ولكننا
في هذه الوريقات لا نجري مجراهم وإنما نستفيد في هذا المقام من آراء الشيخ العارف الكامل
( الشاه آبادي ) الذي هو نسيج وحده في هذا الميدان. فقد أشار أن بعضها قد ورد بصورة
الإشارة والرمز في بعض [212] كتب المحققين من أهل المعارف، وبعضها الآخر مما خطر
في فكري القاصر. إذاً، لا بُـدَّ أن نعرف أن من أنواع الفطرة الإلهية ما يكون على"أصل
وجود المبدأ"تعالى وتقدس ومنها الفطرة على"التوحيد"وأخرى على"استجماع ذات الله
المقدسة لجميع الكمالات"وأخرى على"المعاد ويوم القيامة"وأخرى على"النبوة"و"وجود
الملائكة والروحانيين وإنزال الكتب وإعلان طريق الهداية". وهذه الأمور بعضها من
الفطرة، وبعضها من لوازم الفطرة. فالإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وبيوم القيامة،
هو الدين القـيم المحكم المستقيم والحق على امتداد حياة المجموعة البشرية. ولسوف نشير
إلى بعض منها مما يتناسب والحديث الشريف، طالبين التوفيق من الحق تعالى. المقام الأول
في بيان أن أصل وجود المبدأ المتعالي جل وعلا من الأمور الفطرية وهذا يتضح بعد التنبيه
إلى مقدمة واحدة هي: أن من الأمور الفطرية التي جبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها،
بحيث أنك لن تجد فرداً واحداً ف ي كل المجموعة البشرية يخالفها، ولن تستطيع العادات
والأخلاق والمذاهب والمسالك وغيرها لا يمكن أن تبدلها ولا أن تحدث فيها خللاً،
إنّها"الفطرة التي تعشق الكمال". فأنت إن تجولت في جميع الأدوار التي مـرّ بها الإنسان،
واستنطقت كل فرد من الأفراد، وكل طائفة من الطوائف، وكل ملّة من الملل، يجد هذا
العشق والحب قد جبل في طينته، فتجد قلبه متوجهاً نحو الكمال. بل إن ما يحدد الإنسان
ويدفعه في سكناته وتحركاته، وكل العناء والجهود المضنية التي يبذلها كل فرد في مجال عمله
وتخصصه، إنما هو نابع من حب الكمال، على الرغم من وجود منتهى الخلاف بين الناس
فيما يرونه من الكمال؟ وأين يوجد الحبيب ويشاهد المعشوق؟. فكلٌ يجد معشوقه في شيء،
ظاناً أن ذلك هو الكمال وكعبة الآمال، فيتخيله في أمر معيّن، فيتوجه إليه، فيتفانى في
سبيله تفاني العاشق. إن أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة، ويجدو ن
معشوقهم فيها، فيـبذلون من كل [213] وجودهم الجهد والخدمة الخالصة في سبيل
تحصيلها فكل شخص، مهما يكن نوع عمله، ومهما يكن موضع حبه وتعشقه، فإنه
لاعتقاده بأن ذلك هم الكمال يتوجه نحوه. وهكذا حال أهل العلوم والصنايع، كلٌ يرى
الكمال في شيء ويعتقد أنه معشوقه، بينما يرى أهل الآخرة والذكر والفكر غير ذلك ...
وعليه، فجميعهم يسعون نحو الكمال. فإذا ما تصوّره في شيءٍ موجود أو موهوم تعلّقوا به
وعشقوه. ولكن لا بُدَّ أن نعرف أنه علـى الرغم من هذا الذي قيل، فإن حب هؤلاء
وعشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي ظنوه بأنه معشوقهم، وإن ما توهّموه وتخيّلوه ويبحثون
عنه ليس هو كعبة آمالهم. إذ لو أن كل واحد منهم رجع إلى فطرته لوجد أن قلبه في
الوقت الذي يظهر العشق لشيءٍ مّا فإنه يتحوّل عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجد الثاني
أكمل من الأول، ثم إذا عثر على أكمل من الثاني، ترك الثاني وانتقل بحبه إلى الأكمل
منه، بل أن نيران عشقه لتزداد اشتعالاً حتى لا يعود قلبه يلقى برحاله في أية درجة من
الدرجات ولا يرضى بأي حد من الحدود. مثلاً، إذا كنتَ تحب جمال القدود ونضارة
الوجوه، عثرت على ذلك عند من تراها كذلك، توجّه قلبك نحوها. فإذا لاح لك جمالٌ
أجمل، لا شك في أنك سوف تتوجه إلى الجميل الأجمل، أو أنك على الأقل تطلب الاثـنين
معا، ومع ذلك لا تخمد نار الاشتياق عندك، ولسان حال فطرتك يقول: كيف السبيل
إليهما معا؟ ولكن الواقع هو أنك تطلب كل جميل تراه أجمل، بل قد تزداد اشتياقا بالتخيل،
فقد تتخيل أن هناك جميلاً أجمل من كل ما تراه بعينك، في مكان ما، فيحلق قلبك طائراً
إلى بلد الحبيب، ولسان حالك يقول: أنا بين الجمع وقلبي في مكان آخر. وقد تعشق ما
تتمنى. فأنت إن سمعت بأوصاف الجنة وما فيها من الوجوه الساحرة- حتى وإن لم تكن
تؤمن بالجنة لا سمح الله - قالت فطرتك: ليت هذه الجنة موجودة وليتهن كـُنَّ من
نصيبي!. وهكذا الذين يرون الكمال في السلطان والنفوذ واتساع الملك، يتّجه حبهم
واشتياقهم إلى ذلك. فهم إذا بسطوا سلطانهم على دولة واحدة، توجّهت أنظارهم إلى دولة
أخرى، فإذا دخلت تلك الدولة أيضاً تحت سيطرتهم، تطلعت أعينهم إلى [214] أكثر
من ذلك. فهم كلما استولوا على قطر، اتجه حبهم إلى الاستيلاء على أقطار أخرى، بل
تزداد نار تطلعاتهم لهيباً، وإذا بسطوا سلطانهم على الأرض كلها، وتخيلوا إمكان بسط
سلطتهم على الكواكب الأخرى، تمنّت قلوبهم لو كان بالإمكان أن يطيروا إلى تلك العوالم
كي يخضعوها لسيطرتهم. وقس على ذلك أصحاب الصناعات ورجال العلم، وغيرهم،
وكل أفراد الجنس البشري، مهما تكن مهنتهم وحِرَفهم، فهم كلما تقدموا فيها مرحلة
متقدمة، ورغبوا في بلوغ مرحلة أكمل من سابقتها، ولهذا يشتدّ شوقهم وتطلّعهم. إذاً،
فنور الفطرة قد هدانا إلى أن نعرف أن قلوب جميع أ بناء البشر، من أهالي أقصى المعمورة
وسكان البوادي والغابات إلى شعوب الدول المتحضرة في العالم، ابتداءً بالطبيعيين والماديين
وانتهاء بأهل الملل والنِحل، تتوجه قلوبهم بالفطرة إلى الكمال الذي لا نقص فيه، فيعشقون
الكمال الذي لا عيب فيه ولا كمال بعده، والعلم الذي لا جهل فيه، والقدرة التي لا تعجز
عن شيء، والحياة التي لا موت فيها، أي أن"الكمال المطلق"هو معشوق الجميع. إن جميع
الكائنات والعائلة البشرية، يقولون بلسان فصيح واحد وبقلب واحد: إننا نعشق الكمال
المطلق، إننا نحب الجمال والجلال المطلق، إننا نطلب القدرة المطلقة، والعلم المطلق. فهل
هناك في جميع سلسلة الكائنات، أو في عالم التصور والخيال، وفي كل التجويزات العقلية
والاعتبارية، كائن مطلق الكمال ومطلق الجمال، سوى الله تقدست أسماؤه، مبدأ العالم
جلّت عظمته؟ وهل الجميل على الإطلاق الذي لا نقص فيه إلاّ ذلك المحبوب المطلق؟ فيا
أيها الهائمون في وادي الحسرات والضائعون في صحاري الضلالات. بل أيتها الفراشات
الهائمة حول شمعة جمال الجميل المطلق، ويا عشّاق الحبيب الخالي من العيوب والدائم
الأزلي، عودوا قليلاً إلى كتاب الفطرة وتصفحوا كتاب ذاتكم لتروا أن قلم قدرة الفطرة
الإلهية قد كتب فيه {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا
مِنْ الْمُشْرِكِينَ}(الأنعام/79). فهل أن"فطر الله التي فطر الناس عليها"هي فطرة التوجه
نحو [215] المحبوب المطلق؟ وهل أن الفطرة التي لا تتبدل"لا تبديلَ لِخلقِِ الله"هي فطرة
المعرفة؟ فإلى متى توجه هذه الفطرة التي وهبك الله إياها نحو الخيالات الباطلة، نحو هذا
وذاك من المخلوقات لله؟ إذا كان محبوبك هو هذا الجمال الناقص والكمالات المحدودة،
فلماذا عندما تصل إليـها يبقى اشتياقك ملتهباً لا يخمد، بل يزداد ويشتد؟. تيقّظ من نوم
الغفلة واستبشر فرحاً بأن لك محبوباً لا يزول، ومعشوقاً لا نقص فيه، ومطلوباً من دون
عيب، وأن لك مقصوداً يكون نور طلعته هو النور{الله نُورُ السمواتِ والأرض}، وأن
محبوبك ذو إحاطة واسعة"لو دُلّيتُمْ بِحَبْلٍ إِلى الأرضين السُّـفلى لَهِبَطْتُمْ على الله"(
راجع كتاب معجم الأحاديث النبوية. مادة (د ل و ) ). إذن يستوجب عشقك الحقيقي
معشوقاً حقيقياً، ولا يمكن أن يكون شيئاً متوهماً متخيلاً، إذ أن كل موهوم ناقص،
والفطرة إنّما تتوجه إلى الكمال. فالعاشق الحقيقي والعشق الحقيقي لا يكون من دون
معشوق، ولا يكون غير الله الكامل، معشوقاً تتجه إليه الفطرة. فلازم تعشق الكمال المطلق
وجود الكمال المطلق. وقد سبق أن عرفنا أن أحكام الفطرة ولوازمها أوضح من جميع
البديهيات {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }(إبراهيم/ 10 ). المقام
الثانــــي في بيان أن توحيد الحق المتع الي وصفاته الأخرى فطرية في بيان أن
توحيد الحق - تعالى شأنه - واستجماع ذاته لكل الكمالات من الأمور الفطرية، وبالانتباه
إلى ما جاء في المقام الأول يتضح ذلك أيضا إلا أننا سنبرهن على ذلك ببيان آخر هنا أيضاً.
اعلم أن من الأمور الفطرية التي"فـَطـَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"هو النفور من النقص، ولذلك فإن
الإنسان ينفر من كل ناقص، قد وجد فيه نقصاً وعيباً. إذاً، فالفطرة تنفر من النقص والعيب
كما أنها تنجذب إلى الكمال. فالفطرة لا بد وأن تتوجه إلى الواحد الأحد، لأن كل كثير
ومركب ناقص، ولا تكون الكثرة دون محدودية مع [216] أن المحدودية نقص. وكل
ناقص مرغوب عنه من جانب الفطرة وليس بمرغوب فيه. إذاً، أمكن من هاتين
الفطرتين:"فطرة حب الكمال"و"فطرة النفور من النقص"إثبات التوحيد. بل إن
استجماع الله لجميع الكمالات، وخلو ذاته المقدسة من كل نقص، قد ثبت بالفطرة أيضاً.
وسورة التوحيد المبا ركة التي تبيّن نسب الحق المتعالي، وبحسب رأي شيخنا( الشيخ محمد
علي الشاه آبادي ) ( روحي فداه ) إن الهوية المطلقة، التي تتوجه إليها الفطرة، والتي أشير
إليها في صدر سورة التوحيد المباركة بكلمة"هو"المباركة، تعد برهاناً على الصفات الستّ
المذكورة بعد ذلك. إذ لمّا كانت ذات الله المقدسة هوية مطلقة، والهوية المطلقة يجب أن
تكون كاملة مطلقة، وإلاّ لكانت محدودة، ولم تكن مطلقة، فهو مستجمع لجميع
الكمالات، فهو"اللهُ". وفي الوقت الذي يكون مستجمعاً لجميع الكمالات يكون بسيطاً،
وإلاّ فالهوية لا تكون مطلقة، إذاً فهو"أحد"ولازم الأحدية هو الواحدية ولما كانت الهوية
المطلقة المستجمعة لجميع الكمالات منزهة عن جميع النقائص، التي تعود بأجمعها إلى الماهية،
إذاً فتلك الذات المقدسة هي"الصـَّمـَدْ"وليست جوفاء. ولما كانت الهوية مطلقة، فلن
يتولد منها شيء ولا ينفصل عنها شيء، ولا ينفصل هو عن يء [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ] وإنما
هو مبدأ كل شيء ومرجع جميع الموجودات، بدون الانفصال الذي يوجب النقصان.
والهوية المطلقة أيضاً ليس لها كفو. إذ لا يمكن تصور التكرار في الكمال الصرف. إذاً
فالسورة المباركة (الإِخلاص ) من أحكام الفطرة ولبيان نسب الحق المتعال. المقام الثالث في
بيان أن المعاد فطري إن"المعاد"أو يوم القيامة من الأمور الفطرية المجبولة عليها طينة
البشر. وهذا أيضاً، مثل المقامين السابقين، يمكن البرهنة عليه بطرق كثيرة وأمور فطرية
عديدة، ونحن هنا نشير إلى بعض منها. اعلم إن من الفطريات الإلهية التي فُطِرت عليها
العائلة البشرية كافة هي [217] فطرة حب الراحة. فلو أنك في كل أدوار التمدن
والتوحش. والتدين والعناد رجعت إلى هذا الإنسـان، الجاهل والعالم، والوضيع والشريف،
والمدني والبـدوي، وسألته:"لِمَ كل هذا التعلق المتنوع والأهواء الشتى، وما الغاية من
تحمل ك ل هذه المشقات والصعوبات والمعاناة في الحياة؟"فإنهم جميعاً وبكلمة واحدة
وبلسان الفطرة الصريح يجيبون قائلين: بأن كل ما يتوخونه إنما هو لراحتهم، والغاية النهائية
والمرام الأخير وأقصى ما يتمنونه هو الراحة المطلقة الخالية من العناء. فلما كانت هذه
الراحة التي لا تمازجها مشقة والتي لا يشوبها ألم ونقمة هي معشوقة الجميع، وكانت هذه
المعشوقة المفقودة لدى كل إنسان مقصورة في شيء، لذلك فهو عندما يحب شيئاً يتصور
محبوبه فيه، مع أن مثل هذه الراحة المطلقة لا وجود لها في كل أرجاء العالم وزواياه. إذ ليس
من الممكن أن تعثر على راحة غير مشوبة بالألم. إن جميع نِعم هذا العالم يصاحبها العناء
والعذاب المضني، وما من لذة إلاّ وفيها ألم. إن العذاب والتعب والألم والحزن والهم والغم
تملأ أرجاء الأرض. وعلى امتداد حياة الإنسان لن تجد فرداً واحداً يتساوى عذابه وراحته،
ونعمته توازي تعبه ونقمته ونصبه، ناهيك عن الراحة الخالصة المطلقة. وبناءً على ذلك فإن
معشوق الإنسان لا يوجد في هذا العالم الدنيوي. إن العشق الفطري الذي جبل عليه أبناء
البشر لا يكون من دون معشوق موجود فعلا. إذاً، لا بُدَّ من أن يكون هناك في دار التحقق
وعالم الوجود عالم لا تشوب راحته شائبة من ألم وعذاب وتعب، راحة مطلقة لا يخالطها
شيء من العناء والشقاق، سرور دائم خالص لا يعتوره حزن ولا همّ. ذلك العالم هو"دار
نعيم الله"عالم كرم ذات الله المقدسة. وهو عالم يمكن إثباته بفطرة الحرية ونفوذ الإرادة
الموجودة في فطرة كل إنسان. ولما كانت مواد هذا العالم وما به من العسر والضيق مما
يستعصي على حرية الإنسان وإرادته، فلا بُدَّ إذاً، أن يكون هناك عالم آخر تكون للإرادة
فيه كلمة نافذة، ولا تستعصي مواده على إرادة الإنسان، ويكون الإنسان في ذلك العالم
فعّالاً لما يشاء والحاكم بما يريد، حسبما تقتضيه الفطرة. [218] إذاً، يعتبر العشق للراحة
والعشق للحريّة هما الجانبان المودعان لدى الإنسان، بموجب فطرة الله التي لا تتبدل، فيحلق
بهما في عالم الملكوت الأعلى متقرباً إلى الله. وفي المقام مواضيع أخرى لا تسعها هذه
الأوراق؛ وفيها فطرات أخرى لإثبات المعارف الحقّه، مثل إثبات النبوة، وبعثة الرسل،
وإنزال الكتب السماوية. بل بفطرة واحدة من هذه الفطر المذكورة يمكن إثبات جميع
المعارف. ولكننا نكتـفي بهذا القدر لئلا نخرج عن الموضوع ولكيلا نشرح ما لا يناسب
مع الحديث الشريف. إلى هنا عرفنا أن العالم بالمبدأ، والكمالات، ووحدتها، والمعاد، وعالم
الآخرة كلها من الأمور الفطرية. والحمد لله. [219] الحــَديث الثــاني عشــرَ
"التفكــــر" [220] بسندي المتـَّصل إلى محمـّد بن يعقوب - رضوان الله عليه -
عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النَّوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال:"كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: نَبَّهْ بَالتَفَكُّـرِ قَلْبَكَ وَجافِ عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ
وَاتَّقِ اللهَ رَبَّكَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر،باب التفكر، ح 1).
[221] الشرح: "كـَانَ يَـقُولُ"يختلف عن"قـَالَ"أو"يـَقـُولُ"من حيث الدلالة،
لأنه يفيد الاستمرار والدوام. وهذا يعني أن الإِمام عليه السلام كان يكرر هذا
الكلام."وَالتَّـنْبِيهُ"هو الإخراج من الغفلة والإِيقاظ من النوم. وكلا المعنيين مناسب
هنا. فالقلوب قبل التفكر غافلة، وقبل الإيقاظ نائمة، والتنبيه يخرجها من الغفلة،
ويوقظها من النوم. والنوم واليقظة، والغفلة والفطنة، لكل من مُلك الجسد وملكوت
النفس، مختلفان. فقد تكون العين الظاهرة يقظة وجانب المُلك واعياً، ولكن عين الباطن
والبصيرة تغط في نوم والبصيرة تغطّ في نوم ثقيل، وجانب ملكوت النفس في غفلة ومن
دون وعي. و"التـَّفـَكـُّرُ" إعمال الف كر، وهو ترتيب الأمور المعلومة للوصول إلى
النتائج المجهولة. فهو أعمَّ من التفكر الذي يعدّ من مقامات السالكين. لأن الخواجه
الأنصاري يعرفه بقوله:"إِعلَمْ أَنَّ التّفكرَ تَلَمُّسُ البَصيرَةِ لاِسْتِدْراكِ البُغْيَةِ"("منازل
السائرين"ج 1، ص 57 ) . ومعلوم أن مطلوبات القلب هي المعارف، ولهذا فإن المراد
بالتفكر في هذا الحديث الشريف هو المعنى الخاص الذي يعود إلى القلوب وحياتها. وللقلب
تعريفات واصطلاحات كثيرة: فإذا عُرّف عند الأطباء وعامة الناس، كان المراد منه تلك
القطعة من اللحم الصنوبرية الشكـل التي بانقباضها وانبساطها يجري الدم في الشرايين،
ومن ذلك تتولد الروح الحيوانية التي هي بخار لطيف. [222] وعند الحكماء يطلق على
بعض مقامات النفـس. وله عند أصحاب العرفان مقامات ومراتب، يكون التعمق في بيان
هذه المصطلحات خارجاً عن قصدنا. وفي القرآن الكريم والأحاديث الشريفة يطلق (ال
قلب) في المواضيع المختلفة على كل واحد من المعاني المتداول بين العامة والخاصـة،
مثـل {وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}(الأحزاب/ 10) . وهو بمعناه المتداول بين الأطباء،
{... لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا}(الأعراف/ 179) وهو
المعنى المتداول على ألسنة الحكماء. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(ق37). وهو الاصطلاح الجاري عند العرفاء. وما جاء في الحديث
الشريف بشأن التفكر هو المتداول عند الحكماء. أما القلب في اصطلاح العرفاء، فلا علاقة
له بالتفكر، وخصوصاً في بعض مراتبه، كما يعرف ذلك أهل الإصلاح. وقول الإمام عليه
السلام:"جافِ عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ"، الجفاء بمعنى"البُعد"و"جافاه عنه، فتجافى جنبه عن
الفراش"أي"نبا"كما في الصحاح. ونسبة المجافاة إلى الليل من الإسناد إلى المجاز، أو من
جعل الليل فراشاً ادعاءً، أو أن الكلمة استعملت في معناها الحقيقي وأن الإسناد يكون
حقيقياً ولكن الفرق في الإرادة الجدية والاستعمالية، كما احتملوه في مطلق المجازات،
وحسبما أسهب في شرحه الشيخ الفقيه والأصولي والأديب المتبحر ( الشيخ رضا
الأصفهاني ) في"جليّة الحال". ومهما يكن، فتلك كناية عن النهوض عن فراش النوم في
الليل من أجل العبادة. وبعد ذلك سوف يتم بيان التقوى ومراتبها، إن شاء الله... ولكننا
سوف نبيّن ضمن فصول عديدة مناسبات الحديث الشريف فيما يلي: فصل في بيان فضيلة
التفكر اعلم أن للتفكر فضائل كثيرة. فالتفكر هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن
الكمالات والعلوم، وهو مقدّمة لازمة وحتمية للسلوك الإنساني، وله في القرآن [223]
الكريم والأحاديث الشريفة تعظيم بليغ وتمجيد كامل، كما أن تاركه معيّر ومذموم. وقد
جاء في ( الكافي ) الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: "أفـْضَلُ الْعِبَادَةِ إدمانُ
التَّفَكّرِ فِي الله وَفِي قُدْرَتِهِ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
التفكر، ح 3). ويرد ذكر لهذا الحديث فيما بعد. وفـي حديث آخر:"تـَفـَكـُّرَ
سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيامِ لَيْلَةٍ". وفي حديث عن رسول الله صلـّى الله عليه وأله وسلم:"إِنَّ
تـَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ". وفي حديث غيره:"إِنَّ تَفَكُّـرَ سَاعَـةٍ خَيْـرٌ مِنْ
عِبَـادَةِ سِتِّيـنَ سَنَةٍ"، وفي رواية:"سـَبـْعـِينَ سَنَةٍ"، وعن بعض علماء الفقه
والحديث:"أَلْفَ سَنَةٍ"وعلى كل حال، إن للتفكر درجات ومراتب، ولكل مرتبة نتيجة أو
نتائج، وسوف نتناول بعضها. الأول: هو التفكر في الحق تعالى، وأسمائه وصفاته وكمالاته.
ونتيجة ذلك هو العلم بوجوده وبأنواع تجلياته، التي منها الأعيان الواقعية والمظاهر
الخارجية. وهذا أفضل مراتب التفكر، وأع لى مراتب العلوم، وأتقن مراتب البرهان. إذ أن
الانتباه إلى ذات العلة، والتفكر في السبب المطلق، يدفع بالإنسان إلى العلم به وبالمسبَّبات
والمعلومات. وهذا هو رسم تجليات قلوب الصدّيقين، ولذلك سمي باسم:"برهان
الصديقين". فالصدّيقون بمشاهدة الذات يشهدون الأسماء والصفات، وفي مرآة الأسماء،
يشهدون الأعيان والمظاهر. وما تسمية هذا القسم من البرهان باسم"برهان الصدّيقين"إلاّ
لأن الصدّيق إذا أراد أن يظهر مشاهداته في صورة برهان، وأن يضع ما وجده ذوقاً وشهوداً
في قالب الألفاظ، لكان هكذا. ولا يعني هذا الاسم أن كل من استدل بهذا البرهان على
ذات الله وتجلياته كان من الصديقين، ولا أن معارف الصدّيقين هي من نسخ البراهين، فإن
لهم براهين خاصة وهيهات أن تكون علومهم من جنس التفكر، أو أن تكون ثمّة مشابهة
بين مشاهداتهم وبين البرهان ومقدّماته. فما دام القلب في حجاب البرهان، وخطوته هي
خطوة لتفكر، لا يكون قد وصل إلى أول مراتب الصدّيقين. وإذا ما خرج من حجاب
العلم والبرهان السميك، فلا علاقة له بالتفكر، بل يفوز في آخر الأمر ومنتهى السلوك
بمشاهدة جمال الجميل المطلق، من دون واسطة البرهان، وحتى من دون واسطة أي كائن،
ويذوق اللذة الدائمة السرمدية، ويتحرر من الدنيا وما [224] فيها، ويبقى في الفناء التام
تحت قباب الكبرياء، ولا يبقى منه اسم ولا رسم ويصبح مجهولاً مطلقاً، إلا إذا شملته العناية
الإلهية وأرجعته إلى مملكته وممالك الوجود على قدر سعة وجود عينه الثابتة، ويتم له في هذا
الرجوع كشف سبحات الجمال والجلال، ويشهد في مرآة الذات الأسماء والصفات، ومنها
يفوز بمشاهدة عينه الثابتة وكل ما هو تحت ظل حمايته، وتتكشف كيفية سلوك المظاهر
والرجوع إلى الظاهر، على قلبه، ثم يتشرف برداء النبوة. إذ في هذا المقام يظهر اختلاف
مقامات الأنبياء والرسل، وتنكشف لهم في هذا المق ام سعة دائرة الرسالة أو ضيقها
والمبعوث منه والمبعوث إليه. إن الإسهاب في المقال بهذا الشأن لا يتناسب مع هذه
الأوراق، حتى أننا تغاضينا عن برهان الصدّيقين أيضاً لأن له مقدمات يطول شرحها هنا.
تتميم في بيان التفكر الممنوع والمرغوب في ذات الحق لابُدَّ أن نعرف أن قولنا:"التفكر في
الذات والأسماء والصفات"قد يحمل الجاهل على الظنّ بأن التفكر في ذات الله ممنوع بحسب
الروايات، دون أن يعلم أن التفكر الممنوع هو التفكر في اكتناه الذات وكيفيتها، حسب ما
يستفاد من الأحاديث الشريفة ("تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا
قدره""المحجة البيضاء "ج 8 ص 193 ). وقد يـُمنع غير المؤهل، من النظر في بعض
المعارف ذات المقدمات الدقيقة. وهذان المقامان يتفق بشأنهما الحكماء أيضاً. إلاَّ أن
استحالة اكتناه الذات الإلهية مبرهنة في كتبهم، ومنع التفكر فيها مسلّم به عند الجميع. أم ا
شرائط الدخول في هذه العلوم، ومنع تعليم غير المؤهل، فمذكورة في كتبهم، ووصاياهم في
خصوص شرائط الدخول ومسطورة في أوائل كتبهم أو أواخرها، كما فعل إماما الفن
وفيلسوفا الإسلام العظيمان،"الشيخ ابن سينا"في آخر"الإشارات"(الإشارات
والتنبيهات"ج 3، ص 419 ط. الحيدري طهران. ) و"صدر المتألهين"في
آخر"الأسفار"("الأسفار الأربعة ج 1، ص 10 (دار المعارف الإسلامية ) ) حيث أوردا
وصاياهما [225] البليغة في ذلك ( فراجع )( الكتابين المذكورين ) . أما النظر في ذات
الله لغرض إثبات وجوده وتوحيده وتنزيهه و تقديسه، فهو الغاية من إرسال الأنبياء
والمقصد لآمال العرفاء. والقرآن الكريم والأحاديث الشريفة مشحونة بالأخبار حول العلم
بذات الله وكمالاته وأسمائه. وكتب الأخبار المعتبرة، مثل"الكافي"و"توحيد"الشيخ
الصدوق، تتعمق في إثبات ذات الله وأسمائه وصفاته. والفرق بين المأثورات عن الأنبياء
وكتب ا لحكماء إنما هو في الاصطلاحات والإِيجاز والتفصيل فقط، مثلما أن الفرق بين
الفقه والأخبار الخاصة بالفقه هو الاصطلاحات والإيجاز والتفصيل أيضاً، لا في المعنى. لكن
المصيبة في أن هناك بعض الجهلاء في لباس أهل العلم الغير عارفين بالكتاب والسنَّة
والجاهلين بهما، ظهروا في القرون الأخيرة، من دون أية رؤية صحيحة أو اعتماد على
معيار صحيح أو معرفة بالكتاب والسنة، وجعلوا جهلهم وحده دليلاً على بطلان العلم
بالمبدأ والمعاد، ولكي يروجوا بضاعتهم حرّموا النظر في المعارف التي هي غاية ما يقصده
الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم، والتي امتلأ بها كتاب الله وأخبار أهل البيت عليهم
السلام وراحوا يرمون أهل المعرفة بكل شتيمة واتهام، وسبّبوا انحراف قلوب عباد الله عن
العلم بالمبدأ والمعاد، وكانوا سبباً في تفريق الكلمة وتشتيت شمل المسلمين. ولو سأل سائل:
لِمَ كل هذا التكفير والتفسيق؟ لتشبث ال مجيب بالحديث القائل:"لا تـَتـَفـَكـّرُوا في
ذاتِ اللهِ". إن هذا الجاهل المسكين مخطئ وجاهل من جهتين: الأولى: أنه ظن أن الحكماء
يقومون بالتفكر في ذات الله، مع أنهم يرون أن التفكر في ذات الله واكتناهها ممتنع، وهذا
من المسائل المبرهن عليها في هذا العلم. والثاني: إنه لم يفهم معنى الحديث، فظن أنه لا
يجوز التفوّه بأي شيءٍ عن ذات الله المقدسة مطلقاً. إننا سنذكر بعض الأحاديث ونجمع
بينها وبين ما في نظرنا القاصر، ونجعل الإنصاف هو الحكم، على الرغم من أن هذا يخرج
قليلاً [226] عن موضوعنا، ولكن لعل فيه بعض الضرورة لرفع الشبهة وإبطال الباطل.
الكافي بإسناده عن أبي بصير: قال أبو جعفر عليه السلام:"تَكَلَّمُوا في خَلْقِ اللهِ وَلا
تَتَكَلَّمُوا فِي اللهِ فَإِنَ الكَلامَ في اللهِ لا يَزْدادُ صاحِبَهُ إلاّ تَحَيُّراً"( أصول الكافي، المجلد
الأول، كتاب التوحيد، باب النهي عن الكل ام في الكيفية، ح1 ). يدل هذا الحديث بذاته
على أن المراد هو التكلم في اكتناه ذات الله وكيفيته ومحاولة تعليله. وإلاّ فإن الكلام في
إثبات ذاته تعالى وسائر كمالاته وتوحيده وتنزيهه لا يوجب التحيّر. ولعل النهي موجّه إلى
الذين يكون التكلم حتى في هذه الأمور موجباً لحيرتهم. وقد احتمل المرحوم المحدّث
المجلسي رحمه الله هذيـن الاحتمالين، اللذين قربناهما، من دون تعليق، ولكن قوّى
الاحتمال الأول. وفي رواية أخرى عـن حريـز:"تـَكـَلـَّمـُوا فـِي كـُلِّ شَيءٍ
وَلا تَتَكَلَّمُوا في ذاتِ اللهِ"( أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب النهي عن
الكلام في الكيفية، ح 1 و ح 7.) وهناك روايات أخرى بهذا المضمون أو قريبة منه، مما
لا نجد ضرورة لذكرها. وفي"الكافي"عن أبي جعفر (محمد الباقر) عليه السلام قال:"إِيَّاكُمْ
وَالتَّفَكُّرَ فِي اللهِ وَلَكِنْ إِذا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْظُروا إلى عَظَمَتِهِ، فَاْنْظُرُوا إِلى عَظيمِ خَلْقِهِ"( أصول
الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب النهي عن الكلام في الكيفية، ح 1و ح 7) .
الظاهر أن هذا الحديث أيضاً يشير إلى التفكر في كنه ذات الله، لأنه يقول في نهايته:"إذا
أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه". أي استدلوا من عظمة المخلوق على
عظمة الخالق عزَّ وجلَّ. ويكون هذا على سبيل المثال لمختلف طبقات الناس الذين يمر
طريق معرفتهم من خلال المخلوق. هذه الأحاديث وأمثالها التي تنهى عن التكلم في ذات
الله والتفكر فيه هي نفسها دليل على ما نقصده. والحديث الذي يوضح هذا الأمر هو
الحديث الشريف في"الكافي"في باب التفكر. عن أبي عبد الله ( جعفر ) الصادق عليه
السلام قال:"أَفْضَلُ العِبَادَةِ إدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي اللهِ وَفِي قدرَتِهِ"( أصول الكافي، المجلد الثاني،
كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح3 ). [227] وفي حديث آخر في"الكافي": سئل
علي بن الحسين ( عليهما السلام ) عن التوحيد، فقال: "إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ
فِي آخرِ الزَّمَانِ أقْوامٌ متعمقون فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ]، والآياتِ مِنْ سُورةَ
الحَديدِ إِلى قَوْلِهِ:{وَهُو عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ} فَمَنْ رامَ وَراءَ ذلك فَقَدْ هَلَكَ"( أصول
الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب النسبة، ح 3 ). إذاً، يتضح أن هذه الآيات التي
تشير إلى التوحيد، وتنزيه الله، والبعث، ورجوع الكائنات [ إلى الله ] نزلت للمتعمقين
وأهل التفكير العميق. فهل مع كل هذا يمكن القول إن التفكر في ذات الله حرام؟ أي
حكيم أو عارف جاء بمعارف أكثر مما جاء في أول (سورة الحديد)؟ إن منتهى معرفتهم هو
الوصول إلى قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }. هل هناك أفضل بياناً
في وصف الله تعا لى وتجلّى ذاته المقدسة من الآية الشريفة: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(الحديد3). أقسم بحياة الحبيب أنه لو لم تكن لبيان حقيّة
كتاب الله الكريم غير هذه الآية الشريفة لكفت ذوي القلوب. ارجعوا قليلاً إلى كتاب الله،
وإلى خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار خلفائه المعصومين سلام الله
عليهم، وقارنوا لتروا مَن مِن الحكماء والعارفين جاء ببيانات أجلى وأوضح مما جاء بها
أولئك في كل موضوع من مواضيع المعارف؟ إن أقوالهم مشحونة بوصف الحق والاستدلال
على ذات الله وصفاته المقدسة، بحيث أن كل طائفة تحظى على قدر سعتها وإدراكها. إذاً،
يتضح من مجموع هذه الأخبار أن التفكر في ذات الله ممنوع إذا كان ذلك في مرتبة التفكر
في كنه ذات الله وكيفيته. كما جاء في حديث"الكافي":"مـَنْ نَظَرَ فِي اللهِ كَيْفَ هُوَ،
هَلَكَ"( أصول الكاف ي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب النسبة، ح 3)،أو أن الجمع
بين الأخبار الناهية والآمرة يستدعي منع فريق من الناس الذين لا تطيق قلوبهم الاستماع
إلى البرهان وليس لهم [228] الاستعداد للدخول في مثل هذه البحوث. والدليل على
هذا الجمع موجود في الأخبار نفسها. أما الذين لهم الاستعداد والأهلية، فيكون من الراجح
لهم التفكر، بل هو أفضل من جميع العبادات. على كل حال، لقد خرجنا كليّـاً عن
المقصد. ولكن لم يكن لنا مناص من أن نتعرض لهذا الرأي الفاسد والتهمة التي لا ترضي
الحق، والمتداولة في هذا الزمان على الألسنة، لعل ذلك يُحدث بعض التأثير في قلوب
بعضهم. ولو تم تأثير هذا القول في قلب شخص واحد لكفاني. والحمد لله وإليه المشتكي.
فصل في التفكر في المصنوع ومن مراتب التفكر، التفكر في روائع الصنع واتقانه ودقائق
الخلق، بما يتناسب وقدرة الإنسان من طاقة للتفكر. ونتيجة هذا التفكر هي مع رفة المبدأ
الكامل والصانع الحكيم، وهذا على العكس من"برهان الصدّيقين". إذ أن مبدأ البرهان في
ذاك المقام هو الحق تعالى عزَّ اسمه، ومنه يحصل العلم بالتجلّيات والمظاهر والآيات. وأما في
هذا المقام فمبدأ البرهان هو "المخلوقات التي عن طريقها يتم العلم بالمبدأ والصانع". وهذا
البرهان يكون للعامة من الناس الذين لاحظّ لهم من برهان الصدّيقين. ولهذا، قد ينكر
الكثيرون أن يصبح التفكر في الحق مبدأ العلم به، وأن يؤدي العلم بالمبدأ إلى العلم
بالمخلوق. وملخّص الكلام، أن التفكر في لطائف الصنعة ودقائقها وفي اتقان نظام الخليقة،
من العلوم النافعة، ومن أفضل الأعمال القلبية، وخير من جميع العبادات، لأن نتيجته أشرف
نتيجة. وعلى الرغم من أن النتيجة الأصلية لجميع العبادات والسرّ الحقيقي لها هو الحصول
على المعرفة. فإن كشف هذا السر والحصول على تلك النتيجة ليسا متيسرين للجميع، بل
إن ل ذلك أهلاً تكون لهم في كل عبادة بذرة لمشاهدة أو لمشاهدات. وعلى أيّ حال أن
الإطلاع على لطائف الصنعة وأسرار الخليقة بحسب الحقيقة والواقع لم يتيسّر للبشر، حتى
الآن. إن [229] أساس الخليقة ونظامها يكون من الدقة والاستحكام ومن الجمال
والكمال في مستوى لو أن الإنسان أمعن النظر في أي كائن مهما كان حقيراً، مستخدماً
كل علومه التي اكتسبها خلال قرون، لما استطاع أن يطلع على نسبة واحد بالألف، من
ذلك، فكيف له أن يتمكن من إدراك النظام الكلي الجميل، ساعياً عن طريق الأفكار
البشرية الجزئية الناقصة، لفهم بدائعه ودقائقه. إننا سنلفت انتباهك إلى إحدى دقائق الخلق
مما هو قريب بعض الشيء من الإِفهام ويعدّ من المحسوسات، (اقرأ الحديث المفصل عن هذا
المجمل). أيها العزيز، انظر وتأمل في العلاقة التي بين هذه الشمس والأرض. وفي المسافة
المعينة بين الأرض والشمس، وحركة الأرض حول نفسها وحول الشم س. تلك الحركة
التي تكون على مدار محدّد فيحصل منها الليل والنهار والفصول. فما أتقنه من صنع وما
أكملها من حكمة؟ ولولا هذا التنظيم، أي لو كانت الشمس أقرب أو أبعد، لما تكوّن في
الأرض - في الحالة الأولى من الحر، وفي الحالة الثانية من البرد - معدن، ونبات، وحيوان.
وكذلك لو توقّفت الأرض عن الحركة، على ما هي عليه من البعد عن الشمس لما كان
الليل أو النهار، ولا كانت الفصول، ولما تكونت الأرض نهائياً أو القسم الأكبر منها. ولا
يقتصر على هذا أيضاً، فإن الأوج، أو أقصى نقطة للأرض عن الشمس، يقع في جهة
الشمال لكيلا تزداد الحرارة فتصاب الكائنات بالضرر. وكذلك الحضيض، أو أقرب نقطة
بين الشمس والأرض، يقع في جهة الجنوب، لكيلا يصاب أهل الأرض بضرر. ولا يكتفي
بهذا أيضا، فالقمر المؤثر في تربية موجودات الأرض، يعاكس الأرض في سيرها، بحيث
عندما تكون الشمس في شمال الأرض، يكون القمر في جن وبها، والعكس بالعكس، إذا
كان هذا في الشمال، كانت تلك في الجنوب، وذلك لانتفاع سكان الأرض منهما. هذه
كلها من الأمور الضرورية المحسوسة. غير أن الإحاطة ببدائع النظام ودقائقه لا تكون إلا
للخالق الذي يحيط علمه بكل شيء. ولكن لِمَ ابتعدنا كل هذا البعد؟ فليفكّر المرء في خلقه
هو، على قدر طاقته وسعة علمه: أولاً في الحواس الظاهرة التي صنعت وفق المدركات
[230] والمحسوسات، إذ أن لكل مجموعة من المدركات، التي توجد في هذا العالم، قوة
مدركة بأدق ما تكون من الدقة والترتيب المحيّرين للعقول. والأمور المعنوية، التي لا تدرك
بالحواس الظاهرة، تدرك على ضوء الحواس الباطنية. دع عنك علم الروح والقوى الروحية
للنفس، مما تقصر مدارك الإِنسان عن فهمها، واتجه بنظرك إلى علم الأبدان وتشريحها
وبنائها الطبيعي، وخصائص كل عضو من الأعضاء الظاهرية والباطنية. انظر ما أغرب هذا
النظام وما أعجب هذا ا لترتيب؟! على الرغم من أن علم البشر لم يبلغ حتى الآن، ولن يبلغ
حتى بعد مائة قرن، إلى معرفة واحد بالألف منه، حسب الاعتراف الصريح بأفصح لسان
من جميع العلماء بعجزهم، مع أن جسم الإنسان بالنسبة إلى كائنات الأرض الأخرى، لا
يزيد على مجرد ذرة تافهة، وأن الأرض وجميع كائناتها، لا تعدل شيئاً إزاء المنظومة
الشمسية، وأن كل منظومتنا الشمسية لا وزن لها إزاء المنظومات الشمسية الأخرى، وأن
كل هذه المنظومات، الكبيرة منها والصغيرة، مبنية وفق ترتيب منظّم، ونظام مرتب، بحيث
أن أيّ نقد لا يمكن أن يوجّه إلى أتفه ذرّة فيها، وأن عقول البشر كافة عاجزة عن فهم
دقيقة من دقائقها. فهل بعد هذا التفكّر يحتاج عقلك إلى دليل آخر ليذعن بأن كائناً عالماً،
حكيماً، لا يشبه الكائنات الأخرى، هو الذي أوجد هذه الكائنات بكل حكمة ونظام
وترتيب واتقان؟ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (إبراهيم/ 10). إن كل
هذا الخلق المتقن الذي يعجز عقل الإنسان عن فهمه، لم يظهر عبثاً وتلقائياً! فلتعمَ عين
القلب التي لا ترى الله، ولا تشاهد جمال جميله في هذه المخلوقات! وليمحق الذي يبقى في
الشك والتردد بعد كل هذه الآيات والآثار؟ ولكن ما الذي يستطيع هذا الإنسان المسكين
عمله بالأوهام؟. لو أنك عرضت مسبحتك وزعمت أن حبّاتها قد انتظمت تلقائياً من دون
أن ينظمها منظم، لاستهزأت بك البشرية. والأدهى من ذلك أنك لو أخرجت ساعتك
[231] من جيبك وزعمت نفس الزعم أيضاً بالنسبة إليها، ألا يخرجونك من زمرة
العقلاء؟ وألا يرميك كل عقلاء العالم بالجنون؟ فإذا وُصِفَ الذي يُخْرِجُ نظام هذه الساعة
من قاعدة العلة والمعلول، بأنه مجنون ويجب أن يحرم من حقوق العقلاء فما الوصف
المناسب الذي يجب أن يوصف به من يزعم أن نظام هذا العالم، لا بل هذا الإنسان ونظام
روحه وجسمه قد ظهر تلقائياً؟ هل يجب إ بقاؤه في زمرة العقلاء؟ ترى أي بله أشد من
هذا؟. {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}(عبس17). فصل في التفكر في أحوال النفس من
درجات التفكر أيضاً التفكر في أحوال النفس يؤدي إلى نتائج كثيرة ومعارف عديدة. وإننا
سنلقي نظرة على نتيجتين اثنتين: الأولى: العلم بيوم المعاد. والثانية: العلم بإرسال الرسل
وإنزال الكتب، أي النبوة العامة، والشرائع الحقة. إن من حالات النفس هو تجرّدها، وهي
حالة لم يُولِ الحكماء العظام أهمية لأية مسألة حكمية فلسفية أخرى مثلما أَوْلُوا هذه
المسألة وأثبتوها بالأدلة والبراهين. ولكننا لسنا الآن في صدد إثبات تجرد النفس بصورة
مفصلة، وإنما نكتفي ببعض الأدلة التي لا تستعصي مبادئها على الفهم، للوصول إلى
المقصود. فنقول: يجمع الأطباء وعلماء الأبدان، وفي ظل التجارب، على أن جميع أعضاء
الجسم، من أم الدماغ التـي هي مركز الإدراكات ومحل ظهور قوى النفس، وحتى آخر
أجزائه الصلبة، تبدأ، من سن الخامسة والثلاثين، أو الثلاثين فما فوق، بالانحدار نحو
الانحطاط والنقصان، والاقتراب من الضعف والانحلال. ولقد جربنا بأنفسنا أيضاً كيف
يبدو الضعف في القوى كلها. ولكن في هذه الفترة نفسها، أي من سن الثلاثين أو
الأربعين فما فوق، تزداد القوى الروحية والإدراكات العقلية كمالاً ورقياً وسداداً. ويتضح
من هذا أن القوى العقلية ليست جسمانية، إذ لو كانت [232] جسمانية لانحدرت، مثل
سائر قوى الجسم، نحو الضعف والوهن. كما لا يمكن القول بأن القوى العقلية تزداد قوة
بكثرة أعمال القوة الفكرية وحصول التجربة، إذ أن القوى الجسمانية ينتابها التعب
والانحلال، لا القوة والكمال، نتيجة لكثرة العمل وبذل الجهد. وهذا بذاته دليل على أن
القوى العقلية ليست جسمية ولا من آثار الجسم. والاعتراض على هذا الكلام بضعف
القوى الفكرية أيام الكهولة، كالضعف الجسماني، لا محل له، وذلك لأنه: أولاً: ليست
هناك قوة جسمانية تنمو وتشتد حتى سن الكهولة بحيث يمكن أن نقول بأن الموضع الفلاني
من الجسم هو موضع الإِدراكات العقلية وأنه كان يشتد ويزداد قوة حتى سن الكهولة،
والآن بعد أن ضعف هذا الموضع ضعفت بضعفه القوة الفكرية أيضاً. ثانياً: هل إن هذا
الضعف في الكهولة يعود إلى الفكر كقوة حالّة في الجسم، أم أن الفكر يحتاج إلى قوة
جسمانية فعند وهن الجسم - محل الفكر - لا يؤدي دور الفكر؟ هذا كله بالنسبة إلى القوة
الفكرية. وأما الإدراكات المحضة والملكات الفاضلة في فترة الكهولة تكون أقوى أيضاً مما
كانت عليه من قبل، حتى وإن قل ظهورها أو إظهارها. وعلى كل حال، يكفي لإثبات
دعوانا تجرد النفس ما قلناه من قوة الإدراك في سنّ الأربعين أو الخمسين مع أن
الجسم ينحدر نحو الوهن والضعف. وأما الإجابة على الاعتراض والنقض فهو أن النفس لمَّا
تستجمع قواها من مُلك الب دن، وتعود القوى إلى باطن ذاتها، كلما كانت القوى أقرب
إلى عالم الجسم والجسماني، كلما كان أسرع إلى الضعف والكلال، وكلما كانت أبعد
كانت أبطأ في الإصابة بالضعف. أما القوى التي تنتمي إلى عالم التجرد والملكوت فتقوى
وتزداد شدّة عندما يزداد عمر الإنسان. وهذا دليل على أن النفس ليست جسماً ولا هي
قوة جسمانية. وأيضاً أن خصائص النفس وآثارها وأفعالها على النقيض من خصائص
الأجسام وآثارها وأفعالها بصورة مطلقة. وهذا دليل على أن النفس ليست جسماً. فمثلاً،
نحن نعلم أن الجسم لا يتقبل بالضرورة سوى صورة واحدة، وإذا [233] أريد إعطاؤه
صورة أخرى كان لا بُدَّ للصورة الأولى أن تفارقه لكي يمكنه تقبل الصورة الثانية. فإذا
رسمت مثلاً، صورة على صفحة الورق، لا يمكن رسم صورة أخرى مكانها إلاّ إذا أزيلت
الصورة الأولى تماماً. وهذا الحكم يجري في جميع الأجسام بالضرورة العقلية. أما النفس
فتختلف تم اماً، ففي الوقت الذي تكون هناك صورة مرسومة فيها، يمكن رسم صورة
أخرى مضادة لها من دون زوال الصورة الأولى. وأيضاً إن الجسم ترتسم فيه الصور
المتـناهية. أما في النفس فترتسم الصور غير المتناهية. ولهذا فهي تحكم على الأمور غير
المتناهية. وأيضاً أن الجسم الذي تزول منه الصورة، لا تعود إليه من دون استئناف السبب،
ولكن النفس إذا غابت عنها بعض الصور عادت إليها من دون سبب خارجي. إذاً، يتبين
أن النفس تضاد جميع الأجسام في خصائصها وآثارها وأفعالها. أي أن النفس مجردة وليست
من سنخ الأجسام والجسمانيات، والمجردات لا تفسد، كما هو مبرهن عليه في محله. وذلك
لأن الفساد لا يكون من دون مادة قابلة للفساد، والمجردات منزهة عن مادة قابلة للفساد. إذ
أن ذلك من لوازم الأجسام. إذاً، لا تفسد النفس. ومن هنا يستنتج أن النفس لا تفسد
بفساد البدن وبمفارقتها له، بل تبقى في عالم آخر، ولا تفنى. وهذا هو المعاد الروحي
للنفوس والأرواح قبل يوم القيامة إلى أن يشاء الله لها أن تعود إلى الأبدان. إننا الآن في صدد
إثبات المعاد المطلق في قبال المنكر المطلق وقد اتضحت الفكرة من خلال هذه المقدمات. ولا
بُدَّ أن نعرف أن النفوس صحّة ومرضاً، وصلاحاً وفساداً، وسعادة و شقاء، وأن إدراك
طرقها ودقائق مصالحها ومفاسدها لا يتسنّى لأحد سوى ذات الله المقدسة. لذلك ففي
النظام الأتم - الذي هو أحسن نظام، وقد تبين من قبل أن منظِّمة حكيم على الإطلاق
ومحيط بكل شيء - لا يمكن أن يهمل بيان طرق السعادة والشقاء، والطرق الهادية إلى
الصلاح والفساد، وطرق علاج النفوس، إذ أن مثل هذا الإهمال يقتضي النقص في العلم
أو النقص في القدرة، أو الظلم [234] والبخل من دون سبب. ولقد تبيّن أن ذات الله
المقدسة منزهة عن كل ذلك، فهو الكامل على الإِطلاق والمفيض على الإطلاق، وأن
إهمال بيان الطرق الموصلة إلى السعاد ة والشقاء يعدّ خللاً كبيراً في الحكمة، ويبعث على
الفساد والاختلال في النظام والحكم. إذاً، أصبح من اللازم بيان طرق السعادة والهداية في
النظام الأتم. وقد حصلت من هذا نتيجتان واضحتان: الأولى: هي أن الشريعة - وهي
الوصفة الخاصة بإصلاح الأمراض النفسية - لا توجد إلاّ عند ذات الحق المقدس. والثانية:
هي أن الله تعالى يعلنها - الشريعة - حتماً. ومعلوم أن مثل هذا الهدف العظيم، وهذا العلم
الكامل الدقيق الذي يعجز عن إدراكه أعقل العقلاء، الذي يربط بين المُلك والملكوت وتأثير
الصور الملكية في باطن النفس، لا يقع لأحد إلاّ عن طريق الوحي والإِلهام. أي يجب أن
يكون تعليمه من جانب الحق تعالى. وبديهي، أن جميع أفراد البشر ليسوا خليقين بمثل هذه
الهبة، وليست لهم القابلية والقدرة على القيام بمثل هذه المهمة. ولكن يظهر خلال بضعة
قرون من يكون جديراً بالاضطلاع بمثل هذا الواجب وتحقيق مثل هذا الهدف العظيم،
فيبعثه الحق تعالى ليبيّن للناس الطريق إلى السعادة والطريق إلى الشقاء، ليعلم الناس كيف
يصلحون أنفسهم. وهذه هي النبوة العامة. ولمّا انتهى بنا الحديث إلى هنا، خطر لي أن
أشير استطراداً إلى موضوع أراه من البديهيات. وهو أننا وبعد أن علمنا ضرورة وجود
شريعة إلهية لبني البشر، ولزوم رجوعنا إلى الشرائع السائدة بين الناس، وهي على الأغلب
الشرائع الإِلهية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإِسلام، نرى بأن الشريعة الإسلامية هي أكمل
من الشرائع الأخرى في أبعادها الثلاثة، التي هي أساس الشرائع ومدار التـشريع، -
أحدها ما يعود إلى العقائد الحقة، والمعارف الإِلهية وتوصيف الحق وتنزيهه. وكيفية ذلك.
والعلم بالملائكة وتوصيف الأنبياء ( عليهم السلام ) وتنزيههم، مما هو أصل الشريعة
[235] وأساسها. وثانيها ما يعود إلى الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة وإصلاح
النفس. وثالثها هو جانب الأعمال الفردية والاجتماعية والسياسية والمدنية وغير ذلك -
بل إن كل ناظر منصف وغير مغرض في هدفه يدرك أن الإِسلام أرقى من أن يقارن بدين
آخر، وأن الحياة البشرية لم تشهد قانوناً ولا شريعة بهذا الإتقان بحيث تكون تامة وكاملة
في جميع مراحل الحياتين الدنيوية والأخروية. وهذا بذاته خير دليل على أحقية الإسلام
وصدقه. وعليه، وبعد إثبات النبوة العامة، وأن الله قد شرع لبني البشر شريعة، وبيّن لهم
طريق الهداية، ووضعهم ضمن إطار نظم ونظام، لم يعد إثبات أحقية الدين الإسلامي
بحاجة إلى مقدمات أبداً، سوى التمعن فيه ومقارنته بسائر الأديان والشرائع في جميع
المراحل التي يمكن تصورها، ابتداء من حاجة الإِنسان إلى الملكات الحقّة والمعارف
النفسانية، وحتى بلوغ الواجبات النوعية الفردية والاجتماعية. وهذا معنى من معاني
الحديث الشريف:"الإِسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى عليه"(وسائل الش يعة، المجلد 17، كتاب
الفرائض والمواريث، ح 32365) إذ كلما ازداد العقل البشري تقدماً وتطوراً في مدركاته
وتمعّنا في حجج الإسلام وبراهينه، ازداد خضوعاً لنور هدايته، وقوّة أمام الحجج فلا تظهر
حجة ودليل في العالم ضد الإسلام إلاّ وينتصر عليه. والمستخلص من أدلتنا على إثبات نبوة
خاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلم هو أنه لمَّا كان اتقان خلق الكائنات وحسن تربيتها
وتنظيمها دليلاً يهدينا إلى الاعتراف بوجود الخالق والمنظِّم الذي يحيط علمه بكل الدقائق
واللطائف والجلائل، كذلك يهدينا إتقان أحكام شريعة وحسن نظامها وتربيتها الكامل
وكونها تتكفل بكل الحاجات المعنوية والمادية، الدنيوية والأخروية، الفدية والاجتماعية،
إلى أن مشرّعها ومنظمها عالم محيط بجميع حاجات العائلة البشرية. وكما أن العقل يهدينا
إلى أن عقل ذلك الإنسان، الذي كتب تاريخه جميع المؤرخين من مختلف الأمم قائلين إن ه
كان أمياً وعاش في محيط خال من الكمالات والمعارف، لا يمكن أن يكون قادراً على
وضع مثل هذا الترتيب الكامل والنظام التام بنفسه. كذلك ندرك بالضرورة أن هذه
الشريعة قد شرعت في الغيب وفيما وراء الطبيعة، [236] ونزلت عن طريق الوحي
والإلهام على ذلك الإنسان العظيم. والحمد لله على وضوح الحجة. كنت ناوياً الإشارة
إلى نوع آخر من أنواع التفكر، وهو التفكر في عالم المُلك الذي تكون نتيجته الزهد.
ولكن عنان القلم في المقالات السابقة قد أفلت من يدي، فشرحت ذلك بصورة مطولة،
أدّت إلى الخروج عن الموضوع ولهذا غضضت الطرف عنه. فصل في فضيلة صلاة الليل
بقي علينا شرح جملتين أخريتين من الحديث الشريف حيث يقول صلوات الله عليه"جافِ
عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ وَاتَّقِ اللهَ رَبَّـكَ". في هذا الكلام المبارك يقرن الإمام عليه السلام
الأعمال القلبية والتفكر المنبّه، وتقوى الله تعالى، بإحياء اللي ل ومجافاة الفراش من أجل
العبادات. وهذا دليل على كمال صلاة الليل وفضيلتها وأهميتها. كما أن الأحاديث
الشريفة تمجد هذا العمل الشريف كثيراً. ويُستدل من سيرة أئمة الهدى عليهم السلام
والمشايخ العـظام والعلماء الأعلام أنهم كانوا مثابرين على أدائها. بل كانوا يحرصون
على اليقظة في الهزيع الأخير من الليل، بصرف النظر عن التعبد فيه. لقد جاء في
كتاب"وسائل الشيعة"- الذي يعتبر من أعظم كتب الإمامية، ومدار المذهب ومرجع
العلماء والفقهاء - واحد وأربعون حديثاً في فضلها، والعديد من الأحاديث في كراهية
تركها. وفضلاً عن ذلك يشير إلى السابقات واللاحقات من الأحاديث في شأنها.
وهناك، بالطبع، أحاديث كثيرة جداً في كتب الأدعية وغيرها، ولكننا، من أجل التيمن
والتبرك نورد بعضاً منها: "عـَنِ الكافِي بإسْنَادِه عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ عَمّارِ قَالَ: سَمِعْتُ أبا
عَبْد اللهِ عليه السّلام يَق ُولُ: كانَ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صلَّى اله عليه وآله وسلم لِعَليٍّ
قوله: يا عَلِيُّ! أوصيكَ في نَفْسِكَ بِخِصالٍ فَاحْفَظْهَا، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْهُ... إلى أنْ قالَ:
وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْلِ [237] وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْلِ وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْل"( وسائل
الشيعة، المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب بقية الصلوات المندوبة،ح1) يتبيّن من صدر
هذا الحديث وذيله ما لصلاة الليل من أهمية. "وعـَنِ الخِصالِ بِإسْنادِهِ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ
عليه السَّلام قالَ: قالَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لِجَبْرَئيلَ: عِظْنِي، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ
عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وأحْبِبْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفارِقُهُ، وَاعْمَلْ ما شِئْتَ فَإنَّكَ
مُلاقِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفِ المُؤْمِنِ قيامُهُ بِاللَّيْلِ وَعِزُّهُ كَفُّهُ عَنْ أَعْراضِ النّ َاسِ"(وسائل
الشيعة،المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب الصلوات المندوبة، ح3) . إن تخصيص
الموعظة المقدسة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر ليدل أيضاً على أهميته
البالغة. ولو كان جبرائيل الأمين يرى أهمية أكبر لأجر آخر لكان قدّمه في هذا المقام: وفي
المجالس بإسْنادِه عَنْ ابْنِ عَبّاس قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم في
حَدِيثٍ:"فَمَنْ رُزِقَ صَلاةَ اللَّيْلِ مِنْ عَبْدِ أوْ أمَةٍ قامَ للهِ مُخْلِصاً فَتَوضَّـأ وضُوءاً سابِغاً
وصَلّى لله عَزّ وجلّ بِنِيَّةٍ صادِقة وقَلْبٍ سَليم [ وَبَدَنٍ خاشِعٍ ] وَعَيْنٍ دامِعَة جَعَلَ اللهُ
تَعَالَى خَلْفَهُ سَبْعَةَ صُفُوفٍ مِنَ المَلائِكَةِ فِي كُلِّ صَفِّ ما لا يُحْصَى عَدَدَهُمْ إلاّ اللهُ أحَدُ
طَرَفَيْ كُلِّ صَفٍّ بِالمَشْرِقِ وَالآخَرُ بِالمَغْرِبِ، فَإذا فَرَغَ، كَتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِعَدَدِهِمْ
دَرَجاتٍ"( المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب بقية الصلوات المندوبة، ح 29 و ح 31
و ح 30) وَعَنِ العِلَل بِإسْنادِه إلى أَنسٍ قالَ:"سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله
وسلم يَقُولُ: الرَّكْعَتانِ في جَوْفِ اللَّيْل أحَبُّ إليّ مِنَ الدُّنْيا وَما فِيها"( المجلد الخامس،
الباب 39، من أبواب بقية الصلوات المندوبة، ح 29 و ح 31 و ح 30 ) وثمة أحاديث
كثيرة أشير فيها إلى صلاة الليل هي شرف المؤمن، وزينة الآخرة، مثلما أن المال والبنين
زينة الحياة الدنيا. وَعَنِ العِلَلِ بِإسْنادِه إِلى جَابِرِ بْنْ عَبْدِ اللهِ الأنْصارِيِّ قالَ:"سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم يقولُ: مَا اتَّخَذَ اللهُ إبْراهيمَ خَليلاً إِلاّ لإطْعامِ
الطَّعامِ وَالصَّلاةِ بِاللَّيْلِ وَالنّاسُ نِيامٌ"( المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب بقية الصلوات
المندوبة، ح 29 و ح 31 و ح 30). [238] ولو لم تكن لصلاة الليل سوى تلك
الفضيلة لأهلها لكفتها، ولكنهم ليسوا بأمثالي. إننا لا نعلم شيئاً عن عظمة رداء الخَلّة وما
يعني مقام اتخاذ الله تعالى العبد حبيباً وخليلاً. فكل العقول تعجز عن تصور ذلك. فلو
أنهم أكرموا الخليل بكل ما في الجنة من نعم، فإنه لا يلتفت إليها ( ما دام مع خليله ).
وأنت أيضاً إذا كان لك محبوب عزيز، أو كان لك صديق حميم ودخل عليك، فإنك تترك
كل نعمة ورفاه، وتستغني عن ذلك بجمال المحبوب ولقاء الصديق، بالرغم من أن هذا المثل
بعيد عن المقام بعد المشرقين. وَعَنْ عَلِيٍّ بْنِ إبْرَاهيمَ بِإسْنادِهِ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام
قالَ:"ما مِنْ عَمَلِ حَسَنٍ يَعْمَلَه العَبْدُ إلاّ وَلَهُ ثَوابٌ فِي القُرْآنِ إلاّ صَلاةَ اللَّيْلِ فَإنَّ الله لَمْ
يُبّيِّنْ ثَوابَها لِعَظِيم خَطَرِهَا عِنْدَهُ فـَقال"تَتَجافى جُنوبُهُ م عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون * فـَلا تـَعْلـَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلونَ"( وسائل الشيعة، المجلد الخامس، الباب 40، من أبواب بقية
الصلوات المندوبة، ح13) ترى ما قرة العين هذه التي يدخرها الله ويخفيها حتى لا يعلم
أحد عنها شيئاً، وما يمكن أن تكون؟ فلو كانت من قبيل"أنهار جارية"و"قصور
عالية"ومن نِعم الجنة المختلفة، لذكرها الله، مثلما بيّن ما للأعمال الأخرى وأطلع الملائكة
عليها. ولكن يبدو أنها ليست من ذلك السنخ، وأنها أعظم من أن ينوّه بها لأحد،
وخصوصاً لأحد من أهل هذه الدنيا. إنه لا تقارن نِعم ذلك العالم بالنعم هنا، ولا تظنن
أن الفردوس والجنان تشبه بساتين الدنيا، أو ربما أوسع وأبهى. هناك دار كرامة الله ودار
ضيافته. فكل هذه الدنيا لا شيء إزاء شعرة وا حدة من الحور العين في الجنة. بل ليست
شيئاً إزاء خيط من خيوط الحلل الفردوسية التي أعدّت لأهل الجنة. ومع كل هذا
الوصف، لم يجعلها الله ثواب من يؤدي صلاة الليل، وإنما ذكرها من باب التعظيم له.
ولكن هيهات! نحن الضعفاء في الإيمان لسنا من أصحاب اليقين، وإلاّ لما كنا نستمر في
غفلتنا، ونعانق النوم حتى الصباح. لو أن يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصلاة
وسرّها، لأنس بذكر الله والتفكر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولما
كان ثمّة ثواب له إلا جمال [239] الحق الجميل وحده. الويل لنا نحن الغافلين الذين لا
نستيقظ من النوم حتى آخر العمر. نبقى في سُكر الطبيعة غارقين، بل نزداد كل يوم سكراً
وغفلة، ولا نفهم شيئاً سوى الحالة الحيوانية من مأكل ومشرب ومنكح، ومهما فعلنا، وإن
كان من سنخ العبادات، فإنما نفعله في سبيل البطن والفرج. أتحسب أن صلاة خليل
الرحمن كانت مثل صلاتنا؟ الخليل لم يطلب حاجة حتى من جبرئيل، ونحن نطلب
حاجاتنا من الشيطان نفسه ظناً منا بأنه يقضي الحاجات! ولكن علينا أن لا نيأس. فلعلك
بعد مدة من سهر الليالي والاستئناس بذلك والاعتياد عليه، يلبسك الله بلطفه الخفي خلعة
الرحمة. كما أن عليك ألاّ تغفل عن سرّ العبادة بصورة عامة، ولا تقصر همك على
التجويد في القراءة وتصحيح الظاهر فقط. ولئن لم تـقدر أن تكون خالصاً لله تعالى،
فاسعَ، على الأقل، من أجل قرة العين التي يخفيها الله عزَّ وجلَّ، وتذكر الفقير، العاصي،
الحيواني السيرة الذي اكتفى من كل المراتب، بالحيوانية. وإذا وجدت في نفسك الرغبة،
فقل بخلوص نية: "اللهمّ ارزقني التَّجافِيَ عَنْ دارِ الغُرُورِ، وَالإنابة إلى دارِ الخلودِ،
وَالإسْتِعْدَادِ للموت قبل خُلُولِ الفوت"("مفاتيح الجنان"أعمال ليلة السابع والعشرين من
شهر رمضان) فصل في بيان التقوى اعلم أن التق وى من"الوقاية"بمعنى المحافظة.
وهي في العرف وفي مصطلح الأخبار والأحاديث تعني:"وقاية النفس من عصيان أوامر
الله ونواهيه وما يمنع رضاه"وكثيراً ما عرفت بأنها"حفـظ النفس حفظـاً تاماً عن
الوقوع في المحظورات بترك الشبهات"فقد قيـل:"وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبَهاتِ وَقَعَ فِي
المُحَرَّماتِ وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُ"(أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب فضل العلم،
باب إختلاف الحديث، ح9 ) "فـَمـَنْ رَتَعَ حَوْلَ الحِمى أوشِكَ أَنْ يَقَعَ فيهِ"( وسائل
الشيعة، المجلد 18، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب وجوب التوقف
والاحتياط في القضاء و الفتوى،ح39 ). [240] لا بُدَّ أن نعرف أن التقوى، وإن لم
تكن من مدراج الكمال والمقامات، ولكنّه لا يمكن بدونها بلوغ أي مقام، وذلك لأن
النفس ما دامت ملوثة بالمحرمات، لا تكون داخلة في الإنسانية، ولا سالكة طريقها، وما
دامت تميل إلى المشتهيات و اللذائذ النفسية وتستطيب حلاوتها، لن تصل إلى أول مقامات
الكمال الإنساني، وما دام حب الدنيا والتعلق بها في القلب، فلا يمكن أن يصل إلى مقام
المتوسطين والزاهدين، وما دام حب الذات باقياً في دخيلة ذاته. لن ينال مقام المخلصين و
المحبين، وما دامت الكثرة المُلكيّة والملكوتية ظاهرة في قلبه، لن ينال مقام المنجذبين، وما
دامت كثرة الأسماء متجلية في باطنه، لن يصل إلى الفناء الكلي، وما دام القلب يلتفت إلى
المقامات، لن يبلغ مقام كمال الفناء، وما دام هناك تلوين، لن يصل إلى مقام التمكين ولن
تتجلى في سرّه الذاتُ في مقام الاسم الذاتي تجلياً أزلياً وأبدياً. فتقوى العامة إذاً تكون من
المحرمات، وتقوى الخاصة تكون من المشتهيات، وتقوى الزاهدين من حب الدنيا،
والمخلصين من حب الذات، والمنجذبين من كثرة ظهور الأفعال، والفانيـن من كثرة
الأسمـاء، والواصلين من التوجه إلى الفنـاء، والمتمكنن من التلوينات {فَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ}(هود/ 112) . ولكل من هذه المراتب شرح وتفصيل لا يحصل لأمثالنا منه
سوى الحيرة والضياع في المصطلحات، والتلفع في حجب المفاهيم، إذ لكل معركة
رجال. والآن نعود إلى بيان نبذة من التقوى المذكورة في بدأ الأمر، لأهميتها للناس
بصورة عامة: فصل في بيان تقوى العامة اعلم أيها العزيز أنه مثلما يكون لهذا الجسد
صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإن للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً
وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إن صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق
الإنسانية، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية، وإن
الأمراض النفسية أشد فتكاً آلاف [241] المرات من الأمراض الجسمية. وذلك لأن
هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما أن يحل الموت، وتفارق الروح
البدن، حتى تزول جميع الأمراض الجسيمة والاختلافات المادية، ولا يبقى أثر للآلام أو
الأسقام في الجسد. ولكنه إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسية - لا سمح الله - فإنه
ما أن تفارق الروح البدن، وتتوجه إلى ملكوتها الخاص، حتى تظهر آلامها وأسقامها.
إن مَثَل التوجه إلى الدنيا والتعلق بها، كمثل المخدر الذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه.
فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثَمّ الإحساس
بالآلام والأسقام التي كانت في باطنها، فتظهر مهاجمة لها بعد أن كانت مختفية كالنار تحت
الرماد. وتلك الآلام والأسقام إما أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإما
أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط
والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ أن آخر الدواء الكي. قال رسول الله تعالى:{
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ }( التوبة/35
). إن الأنبياء هم بمنزلة الأطباء المشفقين، الذين جاءوا بكل لطف ومحبة لمعالجة
المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد."إننا أطبّاء
وتلاميذ الحق"وإن الأعمال الروحية القلبية والظاهرية والبدنية هي بمثابة الدواء للمرض
كما أن التقوى، في كل مرتبة من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرة للأمراض.
ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدل المرض إلى صحة. قد يغلب
الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسيمة حتى مع عدم الحمية جزئياً. وذلك لأن
الطبيعة هي نفسها حافظة للصحة ودواء لها. ولكن الأمر في الأمراض النفسية صعب،
وذلك لأن الطبيعة قد تغلبت على النفس منذ البداية، فتوجهت هذه نحو الفساد والانتكاس
{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ }(يوسف/ 52 )، وعليه، فإن من [242] يتهاون في
الحمية، تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتى تقضي على صحته قضاء مبرماً.
إذاً، فالإنسان الراغب في صحة النفس، والمترفق بحاله، إذا تنبه أن وسيلة الخلاص من
العذاب تنحصر في أمرين: الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة. والآخر، هو
الامتناع عن كل ما يضرها ويؤلمها. ومن المعلوم أن ضرر المحرمات أكثر تأثيراً في النفس
من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة
الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أي شيء، ومقدمة على كل هدف، وممهدة
للتطور إلى ما هو أحسن. إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر
هاتين المرحلتين، بحيث أن من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمهما هي
التقوى من المحرمات، وأن أهل السلوك يحسبون هذه المرحلة مقدمة على المرحلة
الأولى، إذ يتضح من الرجوع إلى الأخبار والروايات وخطب"نهج البلاغة"أن
المعصومين عليهم السلام كانوا يعتنون كثيرا بهذه المرحلة. إذاً، أيها العزيز! بعد أن
عرفت بأن المرحلة مهمة جداً. ثابر عليها بدقة، فإذا أنت خطوت الخطوة الأولى
وكانت صحيحة، وبنيت هذا الأساس قوياً، كان هناك أمل بوصولك إلى مقامات
أخرى، وإلاّ امتنع الوصول، وصعبت النجاة. كان شيخنا العارف الجليل يقول: إن
المثابرة على تلاوة آخر آيات سورة الحشر المباركة، من الآية الشريفة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }(الحشر/ 18 ). إلى آخر السورة المباركة، مع
تدبر معانيها، في تعقيبات الصلوات، وخصوصاً في أواخر الليل حيث يكون القلب فارغ
البال، مؤثرة جداً في إصلاح النفس، وفي الوقاية من شر النفس والشيطان. وكان يوصي
بدوام حال الوضوء، قائلاً: إن الوضوء مثل"بزّة جندي". وعلى كل حال، عليك أن
تطلب من القادر ذي الجلال، من الله المتعال جلّ جلالة، مع التضرع والبكاء والالتماس
كي [243] يوفقك في هذه المرحلة ويعينك في الحصول على خصلة التقوى. واعلم، أن
بدايات الأمر صعبة وشاقة، ولكن بعد فترة من الاستمرار والمثابرة تتحول المشقة إلى
راحة، والعسر إلى يُسر، بل تتبدل إلى لذة روحية، خصوصاً، وأن أصحاب هذه اللذة
لا يستبدلونها بجميع اللذائذ. ويمكن، إن شاء الله، وبعد المواظبة الشديدة والتقوى
التامة، أن تنتقل من هذا المقام إلى مقام تقوى الخاصة. وهي التقوى التي تتلذذ الروح
بها. إذ أنك بعد أن تذوق طعم اللذة الروحية تترك شيئاً فشيئاً اللذائذ الجسدية
وتتجنبها. وعندئذٍ يسهل عليك المسير حتى لا تعود تقيم وزناً للذات الجسدية الزائلة،
بل تنفر منها، وتقبّح زخارف الدنيا في عينيك، وتنظر في باطنك فتجد أن كل لذة من
لذّات هذا العالم قد أوجدت في النفس أثراً وأبقت في القلوب لطخة سوداء تبعث على
شدة الإنس بهذه الدنيا والتعلق بها. وهذه هي نفسها تكون سبب الإخلاد إلى
الأرض. وعند سكرات الموت تتبدل إلى صعوبة ومشقة ومعاناة. والواقع أن صعوبة
سكرات الموت وحالة النزع الأخير القاسية ناجمة عن هذه اللذات وحب الدنيا، كما
سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا أدرك الإنسان هذا المعنى سقطت لذات العالم من عينه
كلياً، ونفر من الدنيا وما فيها من مباهج وزخارف. وهذا هو التقدم الثاني إلى المقام
الثالث من التقوى. وبذلك يصبح سبيل السلوك إلى الله سهلاً ميسوراً، وطريق
الإنسانية نيّراً واسعاً، وتصبح خطوته شيئاً فشيئاً خطوة الحق، ورياضته رياضة الحق،
ويتهرب من النفس وآثارها وأطوارها. إذ يجد في ذاته عشق للحق، فلا يعود يقنع
بوعود الجنة والحور العين والقصور، بل يكون مطلوبة ومقصوده أمراً آخر، وينفر من
الأنانية حب الذات. فيتقي حب النفس ويتقي ذاته وأنانيته. وهذا مقام على قدر كبير
من الشموخ والرفعة، وهو أول مراتب هبوب نسيم الولاية، فيدرجه الحق المتعال في
كنف لط فه ويعينه ويجعله موضع ألطافه الخاصة. أما ما يحدث للسالك بعد ذلك
فخارج عن قدرة القلم. والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطـناً، والصلاة والسلام على
محمد وآله الطاهرين. [245] الحَديث الثَالِث عشرَ "التوكل" [246] بالسَّنَدِ المُتَّصل