نسائم ربيعية تهبّ من ناحية الشمال، مضمخة بشذى الرياحين.. وقد بدت الكوفة في الأفق البعيد نقطة سوداء كانت تكبر شيئاً فشيئاً كلمّا تقدّم الركب.
كان هارون يجد نفسه مرتاحاً جداً مع جعفر الذي يصغره بعام واحد.. لعله كان يجد نفسه في مرآة ذلك الشاب الطَّموح الذي يُقبل على الحياة يقتطف ملذّاتها باستمتاع.. لهذا استصحبه..
كان جعفر هو الآخر يعرف كيف يستحوذ على هارون بأحاديثه البعيدة عن كل الرسميات..
هوت الشمس في المغيب وقد أطلّ الركب على الكوفة، فضُربت الخيام والسُّرادق.. وكانت خيمة هارون وجعفر على ربوة جميلة انتخبها جعفر.. وانطلق الخدم لتأثيثها وتوفير أسباب الراحة واللهو.. فيما انتشر الحرّاس هنا وهناك لاختيار أماكن الحراسة والخفارة.
هبط المساء، وسطعت النجوم في السماء.. وهبّت نسائم منعشة تبعث في النفس الحيوية والبهجة والإقبال على الحياة.
كان ( خليفة المسلمين ) يتوضأ بإبريق بلّوري مرصّع بالجواهر، وقد أشرق الهلال بلياليه الثلاث، بدا مبتسماً. تذكّر ( الخليفة ) ابتسامة جاريته الحسناء ( خالصة ) تلك الفاتنة التي لا تكف عن تسديد نظراتها الساحرة.
أنهى ( الخليفة ) صلاته، وكانت رائحة الشواء تملأ الفضاء.
كان ( جعفر ) يشرف بنفسه على إعداد المائدة.. إنه يعرف كيف يدخل إلى قلب ( الخليفة )!
هناك مسارب يعرفها جيداً.. أحدها البطن.. اصطفّت الأواني بأشكالها الجميلة.. وفاقت ألوان الطعام العشرين.. لحوم طيور من بلاد بعيدة.. وألسنة السمك.. وفواكه، وهناك في ركن المائدة صحون ( الفالوذج ).. وهلمّ جرّا..
وقع نظر هارون على صحون السمك فوجد لحومها قطعاً صغيرة، استدعى الطباخ وقال بلهجة يشوبها تذمّر:
ـ ألم أعهد إليك أن لا تكون قطع السمك صغيرة ؟!
أجاب الطبّاخ معتذراً:
ـ يا أمير المؤمنين.. هذه ألسنة السمك، وضعتُها لتكون زينة للمائدة!
علّق البرمكي:
ـ لقد كلفتْ وحدها أربعةَ آلاف درهم!
سكت ( الخليفة ) على مضض، وأدرك أن جعفراً يحاول أن يقول أن هذا إسراف لا طائل من ورائه..