لا يختلف توزيع الجداول في الجبل كثيرا ، أرقام معلقة حسب الدفعة على أبواب مبنى الكيمياء أو كما هو مسجل في السجل الأكاديمي "مبنى أربعة" تبين موقع و وقت استلام الجدول لكل طالب ، لكن نظام الجدول في الجبل يختلف اختلافا جذريا عن السنة التحضيرية ، فكل طالب ينظم جدوله كما يتوافق مع طريقته الخاصة إن كان ثمة متسع ، فلا تكاد الساعة الثانية عشر ظهرا من يوم الأربعاء تأتي حتى يقل عدد الطلاب في الجبل تسعين بالمائة...
كان "عبد الله" يدرس في المرحلة الثالثة من مراحل الجبل ، هذه المرحلة التي يصعب بعدها التحول عن التخصص إلى درجة المستحيل ، كان قد سلك طريقه في دراسة الهندسة الكهربائية التطبيقية و وضع جدوله على أن ينتهي عند الثانية ظهرا كل يوم عدا الثلاثاء حيث يقضي ثلاث ساعات في المعمل ، انتهى "عبد الله" من مادة التحكم ثم انطلق بحذر إلى القطيف ، لم تتجاوز سرعته الثمانين امتثالا لحكم المطر الذي أرهب حركة السير بين كر و فر ، قطع الطريق الذي يستغرق خمس و أربعون دقيقة في ساعة و نصف توقف خلالها عدة مرات...
عندما دخل "عبد الله" المنزل كان صوت الموسيقى يهز الأركان ، هتف بحنك:
- أماه...
ثم تتبع الصوت الذي أثار حفيظته ، كان الصوت ينبعث من غرفة أخته "عبير" ، وقف أمام الباب ليوسعه طرقا ، لم يتمالك أعصابه ففتح الباب و وقف مصالبا يديه...
الأغنية الصاخبة تصم أذن "عبير" وهي تمارس رياضة الرقص المفضلة لذيها ، تراقب حركاتها في المرآة المثبتة أمامها ، تبدو راقصة حقيقية ، تغرق في أحلامها ...
" آه... كم أنا رائعة ، أبدو كراقصة بارعة ، لولا قيود هذا المجتمع التافه لأصبحت المفضلة في الساحة الغنائية ، لن أرقص الرقص العربي ، الرقص العربي سيبقى متخلفا كالناطقين به ، أتمنى أن أرقص على أنغام تبعث في نفسي الحرية ، أن أشعر بأنوثتي ... آه لو يصبح اسمي آنا و أختفي من العالم العربي ، أن أصبح نجمة بوب مشهورة ، ليت حلمي يتحقق"
انتبهت على جسد أخيها "عبد الله" المتصلب أمامها ، نزعت سماعة الأذن عن رأسها ، تأملته بغيض ، كان الشرر يتطاير من عينيه ، لم ينبس ببنت شفه ، عاجلته بطريقة متعجرفة :
- خيراً... ألا توجد خصوصيات في المنزل؟... أم أن الجامعة الراقية لم تعلمك أساليب الأدب؟... لماذا لم تطرق الباب؟
- إن كان تضعين لنفسكِ احتراما فالأولى أن تصمتي... كاد الباب أن ينكسر من شديد الطرق لكن العبث الذي في أذنيكِ يصمهما... كأنكِ في مرقص...
- احترم حالك... يبدو أنك أصبحت رجلا... هذه الرجولة لا تحكمني... ستحكم بها تعيسة الحظ في المستقبل...
- أنت الكلام معكِ ضائع...
رفع يده ليضربها ، قاومته فخففت الضربة ، خرجت من الغرفة تستغيث بأمها ، تبعها للصالون ، احتمت خلف أمها و هي تبكي ، الاحترام يلزمه الصمت ، كان صدره يعلو و يهبط من الغضب ، صاحت به أمه :
- نعم؟ ماذا هناك؟
سبقته "عبير" بالشكوى:
- لم أره إلا و قد دخل الغرفة ثائرا... كاد أن يقتلع الباب...
- لقد طرقت الباب حتى تعبت... لكنها كانت مندمجة مع قمة الانحطاط...
- هذه حرية شخصية... إذا أصبحت والدي أو أمي عندها تكلم...
تدخلت الأم:
- دائما أخبرك بأنك لست مسؤولا إلا عن نفسك... أختك مسؤوليتي أنا فقط... هذه شخصيتها و هي حرة في ذلك... إذا لم يعجبك الرقص... فلا ترقص... لن تجبرك على الرقص...
- لكن...
- لكن ماذا؟... انتهى الأمر... ثم إذا طرقت الباب ولم يفتح لك فارجع... أم لم يعلمك الشيخ أن هذا من الأدب؟
- ...
بحث "عبد الله" في جيوبه بعصبية ثم فرّ من المنزل ، و ضاعت مناشدات أمه في الهواء ، كان الخوف يتسلل إلى قلب الأم بصمت ، بدد هواجسها صوت السيارة و هي تبتعد عن الفيلا...
الله" تتأسف على ابنها الشاب ، جلست على الأريكة و علامات الأسى تغتال الهدوء في وجهها ، كانت "عبير" قد سبقتها للجلوس ، ساهمة الفكر تمضغ العلكة ، يبدو أنهما يفكران في قضية ما ، كسرت "عبير" برهة من الصمت عندما قالت:
- ابنكِ هذا رجعي... هذه الحقيقة..
- لا تفتحي الجرح يا "عبير"... إن أمره يؤرقني كل ليلة... أفكاره كأنه ابن خمسين سنة... ما كأنه ابن العشرين..
صمتت "عبير" ثم أردفت بتردد:
- أقترح... أن ترسلوه للدراسة في الخارج... لن يتقدم مادام يعيش في هذه البيئة المنغلقة...
- أتمنى أن يوافق... كم حدثته في الأمر لكنه يرفض الفكرة من أساسها...
- لا عجب في ذلك... عقله المنغلق يمنعه من السفر للخارج... لا يقبل أن أمارس حريتي في المنزل.. ماذا تتوقعين منه؟ أظنه سيطالبك بتحجب الأمريكيات جميعهن كي يدرس هناك..
- كم أنا خائفة عليه...
- أشعر أنه مسكين... أشك أن أحدا ما قد عبث بفكره...
- ...
نهضت "عبير" تخفي سعادة الانتصار و هي تقول:
- أنا عائدة إلى غرفتي... أريد أن أستمع للموسيقى قبل أن يأتي المفتي... أتأمريني بشيء؟
- اجلبي الصحيفة في طريقك...
************
في سيارة تويوتا كامري بيضاء كان يجلس فتى فاتح البشرة ، حسن الوجه ، تزين وجهه لحية خفيفة منسقة ،يكاد أن يتفجر من الغيض ،و كانت تسير الهوينة جائبة طرق القطيف كأنها تستمتع ببقع الماء التي خلفها المطر ، كان ذلك الفتى "عبد الله" يتنقل بين القرى ، يمرّ على بيوت الكثير من أصحابه و معارفه ، لا يريد إقحام أحد في معاناته ، لم يكف عن الغرق في بحر التفكير :
" كيف يمكن لأمي و أختي أن يتحللا بهذه الدرجة ، لم يبق من فساد البنت شيء ، لم يبق إلا أن تدخل البيت بصحبة أصدقائه و تقيم حفلة طرب يحضرها الجنسان ، أعوذ بالله... لماذا أمي تقف إلى جانبها ؟؟ أحقا هما على حق؟؟ أي رياضة هذه ؟؟ لماذا المجون و الرقص يلحق بالرياضة؟؟ أستغفر الله... "
كان الغضب يتدرج في الهبوط ، بدأ يعود لهدوئه الطبيعي ، كان قد وصل حي "الوسادة" بعد مغيب الشمس، السيارات شبه متوقفة ، ثمة شيء في الطريق ، فتح النافذة و إذا صوت الناعي يهلل الله و يذكر الموت ، ركن سيارته إلى جانب الطريق ، كان الجمع غفيرا جدا ، الشباب يسيرون منكسو الرؤوس ، أسرع للمشاركة في التشييع ، صفّ في أقرب مكان لحمل الجنازة ، أصوات تعتلي بين الفينة و الأخرى تسأل قراءة الفاتحة ، لهج لسانه يتلاوة أم الكتاب ، كان يتصفح بعض الوجوه فيراها مألوفة ، قد لا يعرفها شخصيا لكنه يراها دائما ، لامست يده النعش ، تمتم بخشوع :
- سلم الميت إلى رحمة الله ... سلم الميت إلى عفو الله... رحمك الله يا عبد الله
سمع التلقين بوجدانه ، يشعر أن كل ذرة بجسمه تهتز ، كله آذان صاغية ، المشاعر تختلج داخله ، يشعر برغبة في البكاء ، يردد بين الفقرة و الأخرى " لطفك يا رب... رحمتك الواسعة" ، الموت الشبح المخيف يراه أمامه ، أهيل التراب و أصوات البكاء تفتت الصخر ، صُب الماء على القبر ، تحلق المشيعون حول القبر جماعة بعد جماعة يقرأون الفاتحة و يترحمون على الميت ، وضع يده على تراب القبر الندي ، تلا السورة و انقلب عائدا إلى سيارته ، قريبا من المقبرة كان رجلا يقص على آخر خبر الميت :
- عمره 18 عام... أصله من باب الشمال.. ساكن في الوسادة... يدرس في البترول... الله يرحمه... المطر السبب... الحوادث اليوم لا تحصى...
كان هذا سبب شكه في معرفة تلك الوجوه المشيعة ، إذاً... هو زميل دراسة لم يلتق به سابقا ، رحمه الله ...